الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التَّنْبِيْهُ
الثَّانِيْ:
ما ذكرناه من حفظ العبد الصالح في الأهل والولد معناه أنها كرامة يكرم بها الصالح بمشيئة الله تعالى، وقد لا يكرم بعض الصالحين بهذه الكرامة إشارة إلى أنه لا يجب على الله تعالى شيء، وأنه سبحانه وتعالى له الاختيار فيما يتفضل به على عبادة، وأنه سبحانه وتعالى هو الفاعل الحقيقي المتفضل بحفظ الولد وإصلاحه، وليس لصلاح أبيه تأثير في الحقيقة، وإنما جعل الله تعالى صلاحه سببًا لتوفيق ولده في الغالب، وقد لا يجعله سببًا لذلك ليسلم الصالحون من الشرك الحاصل باعتقاد تأثير صلاحهم في توفيق أولادهم وأهليهم، ولئلا يتكلوا في إصلاح أولادهم على صلاح أنفسهم، فيتركوهم من التأديب والتعليم، أو يتكل الأولاد على صلاح آبائهم، ويتوانوا عن الجِد والاجتهاد في التعلم والتأدب، وليعلم الصالحون وأولادهم وأهلوهم أن الخير الواصل إلى الأولاد والأهلين إنما موصلة إليهم على الحقيقة هو الله تعالى، والآباء والأهلون وسائط.
كما قال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه: الأدب أدب الله، لا أدب الآباء والأمهات، والخير خير الله، لا خير الآباء والأمهات (1).
قصة نوح عليه السلام وابنه وامرأته، وقصه لوط عليه السلام وامرأته اعتبارًا لهذه الحقيقة، حيث قال في قصة نوح وابنه:{قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46]؛ أي: إنه ذو عمل
(1) رواه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل"(ص: 242).
غير صالح بدليل قراءة يعقوب والكسائي: {قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46]{إنه عَمِلَ غَيرَ صالح} بكسر الميم، وفتح اللام من (عمل)، والراء من (غير)، [ويحتمل] (1) أن يكون معناه: أنه ينتجه عمل غير صالح كأن انتقل من صلب أبيه وهو ناسٍ لذكر الله تعالى لأن النسيان يجوز في حق الأنبياء عليهم السلام كما قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]، وأطلق على مثل ذلك أنه عمل غير صالح بالنسبة إلى مقام الأنبياء عليهم السلام، وعلوِّ مرتبتهم.
وما أحسن قولَ الشيخ العارف بالله تعالى العلامة قطب الدين القسطلاني رحمه الله تعالى: [من الطويل]
إِذَا طابَ أَصْلُ الْمَرْءِ طابَتْ فُرُوْعُهُ
…
وَمِنْ عَجَبٍ جاءَتْ يَدُ الشَّوْكِ بِالْوَرْدِ
وَقَدْ يَخْبُثُ الْفَرْعُ الَّذِيْ طابَ أَصْلُهُ
…
لِيَظْهَرَ صُنع اللهِ فِيْ الْعَكْسِ وَالطَّرْدِ (2)
[وقال الله تعالى](3) في قصة نوح ولوط عليهما السلام، وامرأتيهما (4)، {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ
(1) بياض في "أ"، والمثبت من "م" و"ت".
(2)
وانظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (8/ 44).
(3)
غير واضحة في "أ"، والمثبت من "م" و"ت".
(4)
في "أ" بعد هذا: "فأهله وأهله"، وفي "ت":"وأهله وأهله"، وهي غير واضحة في "م".
لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10].
وخيانتهما لم تكن في الفراش، ولكن في الدين.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما بغت امرأة نبي قط. رواه ابن المنذر (1).
وقال الضحاك: إنما كانت خيانتهما النميمة (2). رواه البيهقي في "شعب الإيمان".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أما خيانة امرأة نوح فكانت تقول للناس: إنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل على الضيف، فتلك خيانتهما. رواه عبد الرزاق، وابن أبي الدنيا في "الصمت"، و"المفسرون"، وصححه الحاكم (3).
فتأمل في هاتين المرأتين الخائنتين، كيف لم ينتفعا بصلاح بَعْلَيهما، كما لم ينتفع كنعان بن نوح بصلاح أبيه، بل هلكوا مع الهالكين!
قال قتادة في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} [التحريم: 10] الآية:
(1) وكذا رواه الطبري في "التفسير"(12/ 51).
(2)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(11120)، وكذا رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان" (ص: 160).
(3)
رواه ابن أبي الدنيا ف "الصمت وآداب اللسان"(ص: 160)، والحاكم في "المستدرك"(3833).
لم يغن صلاح هذين عن هاتين شيئًا، وامرأة فرعون لم يضرها كفر فرعون. رواه عبد الرزاق وغيره (1).
قلت: ولو كان ظلمهما لأنفسهما لكان ربما سومحتا بصلاح زوجيهما، بل كان ظلمهما للزوجين بسبب الإيذاء، فكفَرتا نعمةَ الله عليهما في زوجيهما، وضيعتا حق الزوجية، وحق النبوة، كذلك يخشى على الولد إذا ضيع حق الأبوة، وعق والديه، والأزواج إذا كفرن العشير، فافهم!
[وكذلك](2): إن الاعتبار في عكس ما تقدم كما أشار إليه القطب في قوله:
وَمِنْ عَجَبٍ جاءَتْ يَدُ الشَّوْكِ بِالْوَرْدِ
كما ولد آزر إبراهيم عليه السلام، وولد أبو جهل، والوليد، وعبد الله بن أبي، عكرمة بن أبي جهل، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن عبد الله بن أُبَيٍّ، فلم يضر إبراهيم، وعكرمة، وخالدًا، وعبد الله كفر آبائهم لما أراد الله تعالى سعادتهم.
وقد يشير إلى ما ذكرناه قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم: 19] يعني: المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن.
(1) رواه عبد الرزاق في "التفسير"(3/ 303)، وكذا الطبري في "التفسير"(28/ 171).
(2)
ما بين معكوفتين غير واضح في "أ" و"ت".
المؤمن عبدٌ حيُّ الفؤاد، والكافر عبدٌ ميتُ الفؤاد، كما أخرجه ابن جرير، عن الحسن رحمه الله تعالى (1).
وقد روي هذا التفسير عن سلمان الفارسي، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما (2).
وروى عبد الرزاق، وابن سعد في "طبقاته"، وآخرون عن الزهري في قوله تعالى:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الروم: 19] قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه فإذا هو بامرأة حسنة الهيئة فقال: "مَنْ هَذهِ؟ " قالت: إحدى خالاتك، فقال:"إِنَّ خالاتِيَ بِهَذ الأَرْضِ لَغَرَائِبُ؛ وَأَيُّ خالاتِيْ هَذهِ؟ " قالوا: خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث، فقال:"سُبْحانَ اللهِ الَّذِيْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ"، وكانت امرأة صالحة رضي الله تعالى عنها، وكان أبوها كافرًا (3).
وكذلك النظر في آسية بنت مزاحم امرأة فرعون؛ لم يضرها عشرة فرعون مع مباينتها له بصلاحها وكفره حتى أنقذها الله تعالى من فرعون بنفارها عنه، وطلبها من ربها النجاة منه.
قال الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ
(1) رواه الطبري في "التفسير"(3/ 225).
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(3/ 226)، و "تفسير ابن أبي حاتم"(4/ 1352)، و"الدر المنثور" للسيوطي (2/ 174).
(3)
رواه عبد الرزاق في "التفسير"(1/ 118)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(8/ 248).