الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
واعلم أن أخلاق الأصناف الأربعة المشار إليهم في الآية المتقدمة كلها مجتمعة في النَّبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل الكتاب، وكان ينبغي الاكتفاء بالتشبه به عن التشبه بمن سواه، ولكن تعلق بذلك حِكَم إلهية من أجلها شرع التشبه بمن سواه من أخيار بني آدم، وقد تقدمت الإشارة إليها أيضًا.
وأزيدك هنا أن الله تعالى إنَّما ذكر هؤلاء الأصناف في هذه الآية؛ أعني: قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء: 69] الآية؛ إشارة إلى أن من تقدم عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبيين، والصّديقين، والشُّهداء، والصالحين لو أدركوا زمانه ما وسعهم إلا طاعته واتباعه، فمن أطاع الله ورسوله فهو معهم لأنه متشبه بهم في ذلك وإن لم يتفق ذلك منهم بالفعل؛ إذ لم يمنعهم من ذلك إلا تأخر عصره صلى الله عليه وسلم عن أعصارهم، وإلا فقد أعطوا عهودهم ومواثيقهم بذلك؛ بدليل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ
الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81].
وروى ابن أبي حاتم، عن السُّدِّي في الآية قال: لم يبعث نبي قط من لدن نوح عليه السلام إلا أخذ الله ميثاقه ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولينصرنه إن خرج وهو حي، وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به وينصروه إن خرج وهم أحياء (1).
وأيضًا في ذكر الله تعالى النَّبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الآية تشويق، وتحريك لقلوب الطائعين إلى طلب مقاماتهم، ورجاء اللحاق بدرجاتهم، وإشارة للطائع إلى أنه مهما أطاع كان هؤلاء رفقته في طريقه إلى الله تعالى وعند الله سبحانه وتعالى كما قال:{وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، ولا شك أن اختيار الرفيق مما نَدَب اللهُ إليه عبادَه.
وروى الخطيب البغدادي عن علي رضي الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الْجارُ قَبْلَ الدَّارِ، وَالرَّفِيْقُ قَبْلَ الطَّرِيْقِ، وَالزَّادُ قَبْلَ الرَّحِيلِ"(2).
قلت: وقد وقعت الإشارة إلى هذه الثلاثة؛ أعني: الجار، والرفيق، والزاد في الآية المشار إليها؛ فالزاد هو طاعة الله تعالى
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(2/ 694)، وكذا رواه الطبري في "التفسير"(3/ 332).
(2)
رواه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"(2/ 234)، والديلمي في "مسند الفردوس"(2624).
وطاعة رسوله، وهما عين التقوى التي قال تعالى فيها:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، والرفقة هم الأنبياء ومن بعدهم، والجار هو الله تعالى.
وتقدير الآية: فأولئك عند الله مع الذين أنعم الله عليهم؛ لأن ذلك مقام هؤلاء.
قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54، 55].
وقال تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 40].
وقال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30].
وروى الإِمام عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد" عن قدامة ابن أيُّوب العَتَكي -وكان من أصحاب عتبة الغلام- قال: رأيت عتبة في المنام فقلت: يا أبا عبد الله! ما صنع الله بك؟ قال: يا قدامة! دخلت الجنة بتلك الدعوة المكتوبة في بيتك، قال: فلما أصبحت أتيت فإذا خط عتبة في الحائط مكتوب: يا هادي المضلين، وراحم المذنبين، ومُقيل عثرات العاثرين! ارحم عبدك ذا الخطأ العظيم، والمسلمين كلهم أجمعين، واجعلنا مع الأحياء المرزوقين، مع الَّذين أنعمت عليهم من النَّبيين والصَّديقين والشهداء، والصالحين، آمين رب العالمين (1).
(1) ورواه ابن أبي الدنيا في "المنامات"(ص: 78)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 238).
ومما سمعناه من لفظ شيخ الإِسلام الوالد، وحضرنا وهو ينشد لنفسه رضي الله عنه في سنة أربع وثمانين وتسع مئة، وهي السنة التي مات في سادس عشر من شوالها:[من مجزوء الكامل المرفل]
إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا
…
قَدْ قَدرَ الرَّحْمَنُ كَائِنْ
فَاطْرَحْ هُمُوْمَكَ وَاسْتَرِحْ
…
وَاخْلِ الْفُؤَادَ مِنَ الْغَبَائِنْ
وَاصْبِرْ عَلَىْ ضَرِّ الْبَلا
…
فَالصَّبْرُ لِلْخَيْراتِ ضامِنْ
وَاحْذَرْ تَكُنْ مُتَعَرِّضاً
…
فِيْ ظَاهِرٍ يَوْمًا باطِنْ
فَاللهُ جَلَّ لِلُطْفِهِ
…
فِيْمَا يُقَدِّرُهُ مُعَاوِنْ
كَمْ مِحْنَةٍ هِيَ مِنْحَة
…
فِيْ طَيِّهَا التَّدْبِيْرُ كامِنْ
وإذَا ارْتَقَيْتَ إِلَىْ الرِّضَا
…
بِاللهِ فُزْتَ بِمَا تُعَايِنْ
وَسَلِمْتَ مِنْ كَيْدِ الْمُعَا
…
نِدِ ذِيْ الْمَكَائِدِ وَالضَّغَائِنْ
وَظَفِرْتَ بِالنَّصْرِ الْعَزِيزِ
…
عَلَىْ الْمُعَادِيْ وَالْمُبَايِنْ
وَخَلُصْتَ مِنْ أُسْدِ الرَّدَىْ
…
ذاتِ الأَظَافِرِ وَالْبَرَاثِنْ
وَنَعِمْتَ فِيْ نِعَيم لَهَا
…
فَيْضٌ يُمَدُّ مِنَ الْخَزائِنْ
وَبَقِيْتَ فِيْ الدُّنْيا وَفِيْ الـ
…
أُخْرَىْ مِنَ الأَسْواءِ آمِنْ
وَنَجَوْتَ مِنْ ضِيْقِ اللُّحُوْ
…
دِ وَمِنْ أَذَىْ أَفْتَانِ فاتِنْ
وَسَكَنْتَ فِيْ جَنَّاتِ عَدْ
…
نٍ بِالرِّضَا أَعْلا الْمَسَاكِنْ
جَنَّاتِ رِضْوانٍ بِهَا
…
رِضْوَانُ بَوَّابٌ وَخَازِنْ
مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ تجـ
…
ـريْ فِيْ الظَّوَاهِرِ وَالْبَوَاطِنْ
مِنْ خَمْرٍ أَوْ لَبَنٍ وَمِنْ
…
عَسَلٍ وَمَاءٍ غَيْرِ آسِنْ
وَوَرَاءَ طَوْرِ الْعَقْلِ فِيـ
…
ـها ما يُعَدُّ مِنَ الْمَحَاسِنْ
وَصَحِبْتَ كُلَّ الأَنْبِيَا
…
وَالرُّسْلِ فِيْ تِلْكَ الأَمَاكِنْ
وَكَفَاكَ فَخْراً أَنْ تُرَا
…
فِقَهُمْ بِها أَوْ أَنْ تُسَاكِنْ
فِيْ ظِلّ عَرْشِ الله ثا
…
وٍ مَعْهُمُ دَوْمًا وَقَاطِنْ
وَبِحَسْبِكَ الرضْوَانُ مِنـ
…
ـه لِلرِّضَا عَنْهُ مُقَارِنْ
***