الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
وحيث ثبت أن العبد يجوز أن يلتحق بالملائكة في كثير من صفاتهم لترَقِّيْهِ في الإيمان والإحسان، فلا بِدْعَ حينئذٍ أن يشاهد في هذه الحالة جواهر الملائكة وأرواح الأنبياء عليهم السلام وقد نص على هذه المسألة حجة الإسلام في كتاب "الأربعين في أصول الدين"، فقال رضي الله تعالى عنه - بعد أن ذكر لباب الذكر، وهو أن يستمكن المذكور من القلب ويمحى الذكر ويخفى -؛ قال: وذلك بأن لا يلتفت القلب إلى الذكر، ولا إلى القلب، بل يستغرق المذكور جملته، ومهما ظهر له في أثناء ذلك التفات إلى الذكر فذلك حجاب شاغل، قال: فهذه الحالة التي يعبر عنها العارفون بالفناء، وبسط رضي الله تعالى عنه في تقرير حال الفناء.
ثم قال: فإذا فهمت الفناء في المذكور، فاعلم أنه أول الطريق، وهو الذهاب إلى الله تعالى، وإنما الهدي بعدُ؛ أعني بالهدي: هدي الله، كما قال الخليل عليه السلام:{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]؛ فأول الأمر ذهاب إلى الله تعالى، ثم ذهاب
في الله، وذلك هو الفناء والاستغراق به.
قال: لكن هذا الاستغراق أولاً يكون كبرق خاطف قلما يثبت ويدوم، فإذا دام ذلك وصارت عادة راسخة، وهيئة ثابتة يخرج به إلى العالم الأعلى، وطالع الوجود الحقيقي، وانطبع فيه نقش الملكوت، وتجلى له قدس اللاهوت.
قال: وأول ما يتمثل له من ذلك العالم جواهر الملائكة، وأرواح الأنبياء، والأولياء في سورة جميلة تفيض إليه بواسطتها بعض الحقائق، وذلك في البداية إلى أن تعلو درجته عن المثال، ويكافح بصرائح الحق في كل شيء (1). انتهى.
قال شيخ الإسلام الجد في "ألفيته في التصوف" في معنى ذلك: [من الرجز]
الذِّكْرُ أَنْ تَغِيْبَ فِيْ الْوُجُوْدِ
…
عَنْكَ وَتَنْدَرِجَ فِيْ الشُّهُوْدِ
فَلا تُحِسُّ بِجَمِيْع الْخَلْق
…
وَذَاكَ فِيْ التَّحْقِيْقِ حَقُّ الْحَقِّ
هَذَا هُدَى اللهِ إِلَيْهِ فَاهْتَدُوْا
…
وَلا تَضِلُّوْا عَنْ هُدَاهُ تُلْحِدُوْا
(1) انظر: "الأربعين في أصول الدين" للغزالي (ص: 55 - 57).
مَنْ غابَ فِيْ ذِيْ الْحَضْرَةِ الْمُبَارَكَة
…
رَأَىْ بِهَا جَواهِرَ الْمَلائِكَة
مُشاهِداً أَرْواحَ الأنْبِياءِ
…
مُخالِطاً فِيْها لِلأوْلِيَاءِ
وهذا لا شبهة فيه؛ أعني: مشاهدة بعض صلحاء البشر غير الأنبياء لبعض الملائكة كما شاهدت مريم عليها السلام منهم جبريل عليهم السلام وقد تمثل لها بشراً سوياً، وقال تعالى:{فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17].
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42].
وقد جاءت أحاديث صحيحة كثيرة تشهد لجواز رؤية البشر للملائكة كما جازت رؤية الصحابة لجبريل في سورة دحية الكلبي (1) - وقد تقدم بعضها -، وأحاديث رؤيتهم الملائكة في غزاة بدر (2)، وغيرها، وحديث عمر رضي الله تعالى عنه المتقدم في صدر الباب في مجيء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسؤاله إياه عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وقوله صلى الله عليه وسلم:"هَذا جِبْرِيْلُ أَتاكُمْ يُعَلّمُكُمْ دِيْنَكُمْ"(3).
(1) تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
وكذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه المروي في "صحيح مسلم" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَنَّ رَجُلاً زارَ أَخاهُ فِيْ قَرْيَةٍ فَأَرْصَدَ اللهُ عَلَىْ مَدْرَجَتِهِ - أَيْ: طَرِيْقِهِ - مَلَكاً، فَلَمَّا أتَىْ إِلَيْهِ قالَ:"أَيْنَ تُرِيْدُ؟ " لا قالَ: "أُرِيْدُ أَخاً لِيْ فِيْ هَذهِ الْقَرْيَةِ"، قالَ:"هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّها؟ " قالَ: "لا، غَيْرَ أَني أَحْبَبْتُهُ لِلَّهِ تَعالَىْ"، قالَ:"فَإِنِّي رَسُوْلُ اللهِ إِلَيْكَ؛ فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَما أَحْبَبْتَهُ فِيْهِ"(1).
قال النووي رحمه الله تعالى في "شرح مسلم": وفي هذا الحديث فضل المحبة في الله، وأنها سبب لحب الله تعالى العبدَ، وفيه فضيلة زيارة الصَّالحين، والأصحاب، وفيه أن الآدميين قد يرون الملائكة (2)، انتهى.
وقد ذكرت لهذه المسألة أدلة أخر في كتاب "منبر التوحيد" الذي شرحت فيه "ألفية الجد" رحمه الله تعالى.
ثم إذا قلنا بجواز رؤية الملائكة لبعض البشر، فهل يتفق لهم رؤيتهم على أصل خلقتهم، أم متمثلين بصور تليق بحال الرائي؟
لا مانع من رؤية الملائكة على أصل خِلقتهم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام على أصل خلقته مرتين، وما جاز أن يكون
(1) تقدم تخريجه.
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (16/ 124).
معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي (1).
ومنع بعض العلماء من رؤية جبريل عليه السلام على أصل خلقته إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إنها من خصائصه.
قلت: وقد يستأنس للأول بما رواه البيهقي، وغيره عن عمار رضي الله تعالى عنه: أن حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه قال: يا رسول الله! أرني جبريل في صورته، قال:"اقْعُدْ"، فنزل جبريل عليه السلام على خشبة كانت في الكعبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ارْفَعْ طَرْفَكَ فَانْظُر"، فرفع رأسه، فرأى قدميه مثل الزمرُّد الأخضر (2).
(1) ذكر الشيخ محمد الأنصاري كلاماً مفيداً حول هذه القاعدة التي أطلقها بعضهم فقال: قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في "الرسالة": إن كثيراً من المقدورات نعلم اليوم قطعاً أنه لا يجوز أن تظهر كرامة لولي لضرورة أو شبه ضرورة، منها حصول الإنسان لا من أبوين، وقلب جمادٍ بهيمة، وأمثال هذا يكثر، قال التاج السبكي: وهذا حق يخصص قول غيره: ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي الفارق بينهما إلا التحدي، وقد جرى عليه المصنف لكنه رأي مرجوح، فقد قال الزركشي: إنه مذهب ضعيف، والجمهور على خلافه، وقد أنكروه على القشيري حتى ولده أبو نصر في كتابه "المرشد" فقال: قال بعض الأئمة: ما وقع معجزة لنبي لا يجوز تقدير وقوعه كرامة لولي، كقلب العصى ثعباناً وإحياء الموتى. انظر:"غاية البيان شرح زيد ابن رسلان" لمحمد الأنصاري (ص: 15).
(2)
رواه البيهقي في "دلائل النبوة"(7/ 81) وقال: مرسل، ورواه أيضاً ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 12).