الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
يحصل التشبه بالصالحين بكل عمل صالح مع الإيمان بالله تعالى، لكن الظاهر أن من اقتصر على عمل واحد، أو على أعمال قليلة من الصَّالحات لا يقال: إنه صالح حتى يتمرَّن على الأعمال الصالحة، ويداوم عليها كما قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)} [العنكبوت: 9].
ومع ذلك فإن من اقتصر على عمل صالح مع الإيمان، فعسى أن ينفعه الله تعالى بذلك العمل الصالح يومًا ما؛ فإنه ليس من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له.
وقد روى أبو يعلى في " المسند"، والطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "الشعب" عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْخَصْلَةَ الصَّالِحَةَ تَكُوْنُ فِيْ الرَّجُلِ فَيُصْلِحُ اللهُ بِها عَمَلَهُ كُلَّهُ، وَطُهُوْرُ الرَّجُلِ لِصَلاتِهِ يُكَفِّرُ ذُنُوْبَهُ، وَتَبْقَىْ صَلاتُهُ لَهُ نافِلَةً"(1).
(1) رواه أبو يعلى في "المسند"(3297)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (2006). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 225): رواه أبو يعلى=
وقال الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه: من استطاع منكم أن يكون له خبيء من عمل صالح فليفعل (1).
وأخرجه الخطيب البغدادي عنه مرفوعًا (2).
وقيل: [من الكامل]
وَإذَا افْتَقَرْتَ إِلَىْ الذَّخائِرِ لَمْ تَجِدْ
…
ذُخْرًا يَكُوْنُ كَصالِحِ الأَعْمالِ (3)
وقال محمد بن علي المصري: [من الخفيف]
افْعَلِ الْخَيْرَ ما اسْتَطَعْتَ وَإِنْ كا
…
نَ قَلِيْلاً فَلَسْتَ مُدْرِكَ كُلَّهْ
وَمَتَىْ تَفْعَلُ الْكَثِيْرَ مِنَ الْخَيـ
…
ـر إِذا كُنْتَ تَارِكًا لأَقَلِّهْ؟ (4)
= والبزار والطبراني في "الأوسط" وفيه بشار بن الحكم، ضعفه أبو زرعة وابن حبان، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.
(1)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34751).
(2)
رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(11/ 262). قال ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(2/ 822): حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروى موقوفًا، وهو الصحيح.
(3)
انظر: "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام (2/ 493).
(4)
كذا نسب البيتين الخرائطي في "مكارم الأخلاق"(ص: 38) إلى محمد=
ثم الأعمال الصالحات هي كل ما لله تعالى فيه رضى من قول العبد، أو فعله، أو نيته، وهو ما كان خالصًا لوجه الله تعالى، كما قال سبحانه:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110].
قال أبو عاصم الأنطاكي في الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ (110)} [الكهف: 110]: من خاف المقام بين يدي الله تعالى فليعمل عملاً يصلح للعرض عليه (1).
وقال يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى: العمل الصالح ما يصلح أن تلقى به الله صلى الله عليه وسلم، ولا تستحيي (2) منه في ذلك (3).
نقلهما أبو عبد الرحمن السلمي في "حقائق التفسير".
وفسر الأنطاكي الرجاء بالخوف لتلازمهما تطبيقًا بين الآية وبين قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40 - 41].
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: العمل الصالح الذي لا تريد أن
= ابن علي المصري، وقد نسبهما ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(17/ 255) وغيره إلى محمد بن طاهر.
(1)
ذكره السلمي في "حقائق التفسير"(1/ 419).
(2)
في المطبوع من "حقائق التفسير" للسلمي (1/ 419): "ويستحى منه".
(3)
انظر: "حقائق التفسير" للسلمي (1/ 419).
يحمدك عليه إلا الله تعالى (1). رواه ابن أبي الدُّنيا في كتاب "النية والإخلاص".
وروى "فيه" عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (2)} [الملك: 2]؛ قال: أخلصه، وأصوبه.
قال: والخالص إذا كان له، والصواب إذا كان عن السنة (2).
وعن مُطرِّف رحمه الله تعالى قال: صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية (3).
ولا شك أن النية محلها القلب، فأول الصلاح صلاحه، وبصلاحه يصلح العمل، وبصلاح العمل يصلح القلب آخرًا.
أي: ينقله من حالة إلى أصلح منها، أو يدوم له الصلاح.
ومما يدل على ذلك حديث "الصحيحين": "أَلا إِنَّ فِيْ الْجَسَدِ مُضْغَةً، مَتَىْ صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَمَتَىْ فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ"(4).
وإنما قلنا: إن العمل الصالح هو الخالص الذي يرضى الله به؛
(1) ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 282).
(2)
ورواه الثعلبي في "التفسير"(9/ 356)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 95).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 199).
(4)
رواه البخاري (52)، ومسلم (1599) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
لأن الله تعالى لا يرضى أن تكفر نعمة، ومن كفران النعمة أن يشكر عليها غير المنعم بها.
وإن من أفاضل نعم الله عليك وجودك وجوانحك، فمهما صرفتها - أو شيئًا منها - في غير خدمته تعالى بغير إذنه، فقد كفرت هذه النعم:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ (7)} [الزمر: 7] وإنما يرضى لهم الشكر كما قال عز وجل: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ (7)} [الزمر: 7]
ومتى صرفت من القلب حصة لغير الله تعالى، فقد كفرت نعمته؛ لأنه لا يقبل الشَّرِكة، كما قال أبو مدين رحمه الله تعالى: ليس للقلب إلا وجهة واحدة، فلا تجعلها لغير وجه الله تعالى (1).
وقد أشار إلى ذلك ولي الله العارف به الشيخ أرسلان الدمشقي رضي الله تعالى عنه فقال في "رسالته": ما صلحت لنا ما دام فيك بقية لسوانا، فإذا حولت السوى أفنيناك عنك، وصلحت لنا، فأودعناك سرنا.
وقلت في "نظم الرسالة الأرسلانية" في هذه الحقيقة العرفانية: [من الرجز]
مَا أَنْتَ صَالِحٌ لَنَا ما دَامَ فِيْكْ
…
بَقِيَّةٌ لِمَا سِوانا تَقْتَفِيْك
(1) ذكره الشعراني في "الطبقات الكبرى"(ص: 220).
فَحُلْ عَنِ السِّوَىْ وَحَوِّلْ عَنْكا
…
نُفْنِكَ عَنْكَ ننتَقِذْكَ مِنْكا
فَعُدْتَ صالِحاً لَنا فَنُوْدِعَك
…
مِنْ سِرِّناَ شَيْئا بِهِ نُمَتِّعَكْ
واعلم أن العمل الصالح= لأَنْ يخدم الله تعالى به، هو الخالص لوجهه الكريم؛ لِما عرفت، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللهَ لا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَاّ ما كانَ لَهُ خالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ" رواه أبو داود، والنسائي من حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه (1).
ولقوله صلى الله عليه وسلم، يرويه عن ربه عز وجل:"أَنا خَيْرُ الشُّرَكاءِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيْهِ غَيْرِي، فَأَنا بَرِيْءٌ مِنْهُ". رواه مسلم، وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (2).
= هو الذي يبقى للعبد عند الله تعالى، والله خير وأبقى.
قال أبو سعيد الحسن بن علي في "الحدائق": {مَا عِنْدَكُمْ
(1) رواه النسائي (3140) وعزاه كثيرون إلى النسائي وحده. كابن الأثير في "جامع الأصول"(2/ 584)، وعزاه المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 24) إلى أبي داود والنسائي. وقال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (2/ 245): عزاه - أي صاحب كتاب "الأحكام" عبد الحق الإشبيلي - إلى أبي داود، ولا أعلمه عنده، وإنما هو بهذا النص عند النسائي.
(2)
رواه مسلم (2985)، لكنه قال:"أنا أغنى الشركاء".
يَنْفَدُ} [النحل: 96]: يعني: ما كان لأجل الكون، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ (96)} [النحل: 96] ما كان لأجل الْمُكَوِّنِ.
قال: وأعمال المخلصين بحكم هذه الآية داخلة في حكم البقاء، وأعمال المرائين داخلة في حكم الفناء، وذلك أن أعمال المخلصين كانت لأجل المكون؛ أي: فبقيت لبقاء مَنْ هي لأجله، وأعمال المرائين كانت لأجل الكون؛ أي: ففنيت لفناء ما هي لأجله.
وقال الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ (88)} [القصص: 88].
قال ابن عباس في تفسير الآية: إلا ما أريد به وجهه. رواه عبد بن حميد (1).
وقال مجاهد: إلا ما أريد به وجهه من الأعمال الصالحة. رواه ابن أبي حاتم (2).
وقال الربيع بن خُثَيم: ما لم يرد به وجه الله يَضْمَحِلُّ. رواه ابن أبي شيبة (3).
وقال محمد ابن الحنفية: كل ما لا يبتغي به وجه الله يَضْمَحِلُّ. رواه ابن أبي الدنيا، وأبو نعيم (4).
(1) وكذا عزاه السيوطي في "الدر المنثور"(6/ 447) إلى عبد بن حُميد.
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 3028).
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(35577).
(4)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 107).
فالعمل الصالح هو الباقي؛ لأنه ما كان إلا لثواب الله في الآخرة ورضاه.
وقد قال تعالى: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [طه: 131]؛ أي: ما ادَّخره لك في الآخرة (1)، كما قال القاضي ناصر الدين البيضاوي أخذًا من قول السدي في الآية: أن المراد رزق الجنة (2)؛ أي: رزق ربك في الجنة - وهو الثواب بعينه - خير وأبقى.
وقال تعالى: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 17].
وقال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ (72)} [التوبة: 72].
ولا شك أن الصالح ضد الفاسد، والفاسد هو الهالك الذي لا ينتفع به، وكل شيء هالك إلا ما أريد به وجه الله، كما عملت.
ومن صرف عمره في الأعمال الصالحات كمن جعل له وليُّه رأس مال، وأمره أن يتجر فيه، ويقلبه لأجل النمو والفائدة؛ فإن قلبه في طرق التجارة المنتجة للفوائد، كان صالحاً في ماله مصلحاً له، ولذلك قيل في الرشد: إنه صلاحية الدَّيْن والمال، وإن تركه بغير تقليب، أو قلبه في غير الطرق المنتجة للفوائد، ولا غنى له عن الصرف منه، فهو غير صالح لماله، ولا مصلح له، بل مفسد لرأس ماله، متلف له.
وكذلك عمر العبد رأس ماله الذي سلمه إليه ربه ووليه سبحانه
(1) انظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 78).
(2)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 612).
وتعالى؛ فمن صرفه في الأعمال الصالحة الباقية عند الله تعالى فهو الصالح الرشيد، ومن ضيعه في البطالات، أو صرفه في غير وجوه الخيرات فقد أفسده؛ إما بتضييعه في غير فائدة ولا عائدة، وإما بصرفه فيما تبقى عليه تبعته، وتذهب عنه لذته.
وكما يبقى ثواب العمل الصالح يبقى عقاب العمل السيئ، كما قال تعالى:{وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)} [طه: 127]، فهو غير صالح، ولا رشيد، ويأتي يوم القيامة مفلسا معدماً، ولا يأمَن أن يقول تأسفاً وتندماً:{يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ (56)} [الزمر: 56].
وقد ضرب الله تعالى هذا المثال في كتابه العزيز، فقال في حق المفسدين:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)} [البقرة: 16]، وذلك بعد أن شهد عليهم بالإفساد، ونفى الإصلاح عنهم بقوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} [البقرة: 11 - 12]، وقال تعالى:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)} [المائدة: 64].
فالمفسد متعرض لمقت الله تعالى وطرده عن قربه، وعزله عن حبه، ولذلك قال تعالى:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا (56)} [الأعراف: 56].
وأول ما يلزمك عمارة أرض نفسك بالإصلاح، وتنزيهها عن الإفساد، وإذا كنت لأرضك مفسداً، كنت لغيرها أكثر فساداً.
وقال تعالى: {وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)} [الأعراف: 86].
فالإفساد سبب سوء العاقبة، كما أن الإصلاح سبب حسن الخاتمة، ودفع الأسواء؛ ألا ترى إلى قوله تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} [هود: 117]؟
وقال تعالى في حق المصلحين لرؤوس أموالهم التي هي أعمالهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)} [فاطر: 29].
وما أحسن قول منصور بن عمار الواعظ فيما أنشده أبو الحسن ابن جهضم في "بهجة الأسرار" عن ظاهر بن العباس عنه رحمهم الله تعالى: [من الطويل]
وَإِنَّ امْرَأً لَمْ يَرْتَحِلْ بِبِضَاعَةٍ
…
إِلَىْ دَارِهِ الأُخْرَىْ فَلَيْسَ بِتاجِرِ
وَإِنَّ امْرَأً يَبْتَاعُ شَيْئًا بِدِيْنِهِ
…
لَمُنْقَلِبٌ مِنْها بِصَفْقَةِ خاسِرِ (1)
وقال الله تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)} [الأعراف: 170].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)} [الكهف: 30].
(1) ذكر البيتين ابن حبان في "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء"(ص: 28) ونسبهما للمنتصر بن بلال بن المنتصر الأنصاري.
وأمر موسى أخاه عليهما السلام باتباع المصلحين، ونهاه عن اتباع المفسدين، فيما حكاه الله تعالى عنه بقوله:{وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)} [الأعراف: 142]،
وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص: 28].
وهذه الآية تدل على أن بين الفريقين بَوناً بعيدًا، وأنهما في طرفي نقيض.
قال قتادة رحمه الله تعالى، وقرأ هذه الآية: لقد تفرق القوم في الدنيا وعند الموت، فتباينوا في المصير. رواه عبد بن حميد (1).
فالمتشبه بالصالحين هو المصلح لرأس ماله، الراجي للتجارة الباقية التي لن تبور، ولن تَبيد، ولا تنتهي فوائدها وعوائدها على التأبيد، فشأنه كما وجد رِبحًا في عمل صالح سارع إليه، وكلما سمع بفائدة في خلق جميل ثابر عليه.
قال الله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)} [آل عمران: 113 - 114].
(1) كذا عزاه السيوطي في "الدر المنثور"(7/ 157) إلى عبد بن حميد، وكذا رواه الطبري في "التفسير"(25/ 148).
ثم قال تعالى مرغَّباً في هذه التجارة، وحاثًّا عليها بأرشق عبارة:{وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)} [آل عمران: 115].
وفي قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)} [التوبة: 44]: إشارة إلى أن عماد هذه التجارة الإخلاص فيها والصِّدق، اللذان هما عبارة عن التقوى؛ لأن التقوى محلها القلب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه مسلم:" التَّقْوَىْ هَاهُنا"(1)، وأشار إلى صدره الذي هو هيكل قلبه، ولا شك أن الإخلاص والصدق هما عمدة الأفعال القلبية التي مبنى الصلاح عليها، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث "الصحيحين":"أَلا إِنَّ فِيْ الْجَسَدِ مُضْغَةً، مَتَىْ صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ"(2).
ولذلك كان من أسئلة الصالحين طلب إصلاح القلوب.
روى ابن أبي الدنيا في كتاب "المنامات" عن صالح المُرِّي رضي الله تعالى عنه قال: كنت أقول: اللَّهُمَّ لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فناداني منادٍ من ناحية البيت: يا صالح! زدنا فيها: اللهم إليك أشكو فساد قلبي، وإياك أستعين على صلاحه (3).
وروى الحاكم في "تاريخ نيسابور" عن عبد الله بن عمرو رضي الله
(1) رواه مسلم (2564).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في "المنامات"(ص: 79).
تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْسَنَ فِيْما بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ، كَفاهُ اللهُ ما بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ أَصْلَحَ سَرِيْرَتَهُ أَصْلَحَ اللهُ عَلانِيَتَهُ".
وروى ابن أبي الدنيا في "الإخلاص" عن مَعْقِل بن عبيد الله الجَريري رحمه الله تعالى قال: كانت العلماء إذا التقوا تواصوا بهذه الكلمات، وإذا غابوا كتب بها بعضهم إلى بعض: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله، كفاه الله ما بينه وبين النَّاس، ومن اهتم بأمر آخرته، كفاه الله أمر دنياه (1).
وروى الإمام أحمد في "الزُّهد" عن سلمان رضي الله تعالى عنه قال: لكل امرئ جَوَّانِيٌّ وبَرَّانِيٌّ؛ من يصلح جَوَّانِيَّهِ يصلح الله بَرَّانِيَّهِ، ومن يفسد جَوَّانِيَّهِ يفسد الله بَرَّانِيَّهِ (2).
وروى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن بُريد (3) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ صالحٌ تَحَنَّنَ اللهُ عَلَيْهِ"(4).
والمعنى: أن العبد إذا حاول إصلاح قلبه وسريرته، تحنَّن الله تعالى عليه، فوفَّقه لإصلاح أعماله وعلانيته، ثم هو في إصلاح قلبه لا حول له ولا قوة إلا بربه.
(1) ورواه هناد في "الزهد"(1/ 300) من قول عون بن عبد الله.
(2)
ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 203).
(3)
في "أ": "بريدة".
(4)
رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(3/ 56).
والحنان - كما في "القاموس" -: الرحمة، والرزق، والبركة (1).
وفسره ابن عباس، ومجاهد بالتعطف، كما رواه عبد بن حميد.
ونتيجة هذه المعاني كلها إذا أريدت في الحديث إصلاح الأعمال في الدنيا، وحسن الجزاء في الآخرة.
وروى ابن أبي الدُّنيا في "الإخلاص" عن سفيان قال: قال ابن عجلان رحمه الله تعالى: لا يصلح العمل إلا بثلاث: التقوى به، والنية الحسنة، والإصابة (2).
قلت: ومعنى الإصابة: أن يصيب بعمله عملاً مأخوذاً به في الشرع، موافقاً للعلم على سَنَن السنة، فلا بد في الصالح أن يكون متبعًا للسنة، متجنبًا عن البدعة ومحدثات الأمور، وذلك من لازم التقوى أيضاً؛ فإن المبتدع لو جاء بطاعة نوح، وكرم إبراهيم، وفتوة يوسف، وتواضع موسى، وزهد عيسى، وحزن يعقوب، وصبر أيُّوب، وشكر سليمان، وتلاوة داود، وحكمة لقمان، لا يكون تقيًا، ولا صالحاً مَرْضِيًّا.
وقد روى اللالكائي في "السنة" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: الاقتصاد في السنة، خيرٌ من الاجتهاد في البدعة (3).
(1) انظر: "القاموس المحيط"(ص: 1538)(مادة: حن).
(2)
ذكره أبو طالب المكي في "قوت القلوب"(2/ 264).
(3)
رواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(1/ 55)، ورواه الحاكم في "المستدرك"(352).
وعن الحسن رحمه الله تعالى قال: لا يصلح قول إلا بعمل، ولا يصلح قول ولا عمل إلا بنية، ولا يصلح قول وعمل ونية إلا بالسنة (1).
وقد رواه الشيخ نصر المقدسي رحمه الله تعالى في "الحجة" عن عليًّ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَصْلُحُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنيَّةٌ إِلَاّ بِالسُّنَّةِ"(2).
وأخرجه من حديث أنس رضي الله تعالى عنه، نحوه أبسط من ذلك (3).
وقد علمت سابقاً أن الصَّالحين غرباء في الناس، خصوصاً في هذه الأزمنة المتأخرة.
وقد روى اللالكائي عن الحسن رحمه الله تعالى: أنه قال: يا أهل السنة! ترفقوا رحمكم الله تعالى؛ فإنكم من أقل الناس (4).
وعن سفيان الثوري رحمه الله تعالى: أنه قال: استوصوا بأهل السنة خيرًا؛ فإنهم غرباء (5).
(1) رواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(1/ 57).
(2)
انظر: "مختصر الحجة على تارك المحجة"(125).
(3)
المرجع السابق (124).
(4)
رواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(1/ 57).
(5)
رواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(1/ 64).
وعن أبي بكر بن عياش رحمه الله تعالى قال: السنة في الإسلام، أعز من الإسلام في سائر الأديان (1).
هذا، ومما يدل على أن التقوى الشاملة لحسن النية، والإخلاص، والصدق، واتباع السنة ومحبتها، وغير ذلك من الأعمال القلبية هي خاصة هذه التجارة التي أشرنا إليها سابقاً: ما رواه الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم في "الحلية" عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أيُّها النَّاسُ! اتَّخِذُوْا تَقْوَىْ اللهِ تِجارَةً، يَأْتِكُمُ الرِّزْقُ بِلا بِضاعَةٍ وَلا تِجارَةٍ"، ثم قرأ:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3](2).
والرزق المجلوب بتجارة التقوى شامل للرزق الجثماني، والرزق الروحاني، والرزق الدنيوي، والرزق الأخروي، وهو الرزق المشار إليه بقوله تعالى:{وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [طه: 131]، وقوله تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)} [طه: 132].
قال سفيان الثوري: {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ (132)} [طه: 132]: لا نكلفك الطلب. رواه ابن أبي حاتم (3).
(1) رواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(1/ 64).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(20/ 97)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 96).
(3)
انظر "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 613).
أي: نغنيك عن الطلب ومشقاته، ونتكفل برزقك من غير تعمُّل منك.
وروى ابن أبي الدّنيا في كتاب "التقوى" عن وهب: أن لقمان قال لابنه: يا بني! اتخذ تقوى الله تجارة، يأتك الربح من غير بضاعة.
وروى "فيه" هو، وأبو نعيم في "الحلية" عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه: أنه قيل له: ليس أحد له بيت في الأنصار إلا وقد قال شعرًا، فما لك لا تقول؟ قال: وأنا قد قلت، فاسمعوه:[من الوافر]
يُرِيْدُ الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَىْ مُنَاهُ
…
وَيَأْبَيْ اللهُ إِلَاّ ما أَرَادَا
يَقُوْلُ الْمَرْءُ فَائِدَتِيْ وَمَالِيْ
…
وَتَقْوَىْ اللهِ أَفْضَلُ ما اسْتَفَادَا (1)
وقد روي عن الإمام الشافعي منه: أنه جعل هذا الشعر سادًّا مسدَّ الدراهم والدنانير في مُهور العذارى.
وروى ابن أبي الدنيا في "التقوى" عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أنه قال: لا يقل عمل مع تقوى، وكيف يقل ما يتقبل؟
يشير إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)} [المائدة: 27]؛ أي: لا يتقبل الله الأعمال إلا من المتقين.
(1) ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 225).
فإذاً: التقوى في سائر الأعمال شرط لصلاحيتها؛ إذ لا يكون منها صالحًا إلا ما كان متقبلاً، ومن ثَمَّ لمَّا قيل لسفيان: أرى الناس يقولون: سفيان الثوري وأنت تنام الليل؟ فقال: اسكت! ملاك هذا الأمر التقوى (1).
أي: فإذا حَصَلت، كفى معها العمل القليل.
وقال فَضَالة بن عُبيد رضي الله تعالى عنه: لأن أكون أعلم أن الله تعالى يتقبل مني مثقال حبة من خردل، أحب إليَّ من الدنيا وما فيها؛ لأن الله تعالى يقول:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)} [المائدة: 27]. رواه ابن أبي الدُّنيا (2).
وروى أبو يعلى بسند جيد، عن الحكيم بن ميناء مرسلاً: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "اجْمَعْ لِيْ مَنْ هَاهُنا مِنْ قُرَيْشٍ"، فجمعهم، ثم قال: يا رسول الله! أتخرج إليهم، أم يدخلون؟ قال:"بَلْ أَخْرُجُ إِلَيْهِمْ"، فخرج فقال:"يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! هَلْ فِيْكُمْ غَيْرُكُمْ؟ " قالوا: لا إلا بنو أخواتنا، قال:"ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ"، ثم قال:"يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! إِنَّ أَوْلَىْ النَّاسِ بِالنَّبيِّ الْمُتَّقُوْنَ؛ فَانْظُرُوْا! لا يَأْتِيْ النَّاسُ بِالأَعْمالِ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَتأتُوْنَ بِالدُّنْيَا تَحْمِلُوْنهَا فَأَصُدَّ عَنْكُمْ بِوَجْهِيْ"، ثم قرأ: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 8).
(2)
ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 17).
وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)} [آل عمران: 68](1).
وروى البخاري في "الأدب المفرد"، والحاكم وصححه، عن رفاعة ابن رافع رضي الله عنه: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله تعالى عنه: "اجْمَعْ لِيْ قَوْمَكَ"، فجمعهم، فلما حضروا باب النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه عمر، فقال: قد جمعتُ لك قومي، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقام بين أظهرهم، فقال:"هَلْ فِيْكُمْ مِنْ غَيْرِكُمْ؟ " قالوا: نعم، فينا حليفنا، وابن أختنا، وموالينا، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"حَلِيْفُنا مِنَّا، وَابْنُ أُخْتِنا مِنَّا، وَمَوْلانا مِنَّا، أَنتُّمْ تَسْمَعُوْنَ؟ إِنَّ أَوْلِيائِيَ مِنْكُمُ الْمُتَّقُوْنَ، فَإِنْ كُنْتُمْ أُوْلَئِكَ فَذاكَ، وَإلَاّ فَانْظُرُوْا! لا يَأْتِيْ النَّاسُ بِالأَعْمالِ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَتَأَتُوْنَ بِالأَثْقالِ فُيُعْرَضَ عَنْكُمْ"(2).
أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن شرف التقوى أولى من شرف النسب وكرم الحسب، وفي كتاب الله عز وجل:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13)} [الحجرات: 13]. وروى البخاري في " الأدب" أيضًا، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ أَوْلِيائِيَ يَوْمَ الْقِيامَةِ الْمُتَّقُوْنَ، وَإِنْ كانَ نسَبٌ أَقْرَبَ مِنْ نسَبٍ، فَلا يَأْتِينيْ النَّاسُ بِالأَعْمالِ، وَتأَتُوْني أَنْتُمْ بِالدُّنْيَا تَحْمِلُوْنَها عَلَى رِقابِكُمْ، فَتَقُوْلُوْنَ: يا مُحَمَّدُ! فَأَقُوْلُ هَكَذا وَهَكَذا: لا - وأعرض في كلا عطفيه -"(3).
(1) رواه أبو يعلى في "المسند"(1579).
(2)
رواه البخاري في "الأدب المفرد"(75)، والحاكم في "المستدرك"(6952).
(3)
رواه البخاري في "الأدب المفرد"(798).
فالتقوى أخص أوصاف الصالحين، وهي شرط في سائر أعمالهم، ولذلك لما ذكر الله تعالى مجملات أوصاف الصالحين، وأعمالهم بقوله تعالى:{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ (113)} [آل عمران: 113]، إلى آخره قال بعد ذلك:{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)} [آل عمران: 115] إشارة إلى ذلك.
ثم التقوى تنشأ عنها سائر الأعمال الصالحة؛ لأنها ترجع إلى صلاح القلب، وبصلاحه يصلح سائر الجسد، كما علمت من الحديث، فصلاح الجسد إنما يكون بالأعمال الصَّالحة، ومن ثَمَّ وصف الله الذين اتقوا بقوله:{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 16 - 17].
ووصف المتقين بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة: 3]، إلى قوله:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة: 5].
وقال تعالى بعد أن ذكر جملة من أعمال البر في قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} [البقرة: 177].
وقال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113]، إلى قوله:{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)} [آل عمران: 115].
وهذه الآية الكريمة ما أبقت من أفعال الصالحين وأخلاقهم شيئًا إلا جمعته، ولذلك لمَّا سئل جد جدي شيخ الإسلام؛ أبو نعيم أحمد
ابن عبد الله بن بدر الغزي: مَنِ الصالحون؟ أجاب بهذه الآية: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ (113)} [آل عمران: 113] الآية.
ونقل شيخ الإسلام الوالد في دروسه عن جماعة من أهل العلم لما وقفوا على ذلك قالوا: إنه استنباط في غاية الحسن مع البداهة، وسرعة الجواب.
قلت: وهو كذلك.
وقد أحببت أن أتكلم على هذه الآية هنا بما يناسب المقام:
فقوله تعالى: {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ (113)} [آل عمران: 113] أي: مستقيمة عادلة، من قولك: قَوَّمْتُ العود، فقام، واستقام، بمعنى.
والاستقامة والعدل أول أركان التجارة، وإلا فلا بركة فيها، بل هي ممحوقة، فلا بد أن يكون العبد مستقيماً على طريقة الشريعة، وإلا فإن تجارته بائرة، وصفقته خاسرة.
قال الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)} [هود: 112]، أشار إلى أن الميل عن الاستقامة طغيان.
ولذلك قال تعالى: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)} [الرحمن: 7 - 8]؛ أي: لا تميلوا عن العدل فيه والاستقامة.
وروى الدارمي عن عثمان بن حاضر الأزدي قال: دخلت على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقلت: أوصني، قال: نعم، عليك بتقوى الله والاستقامة؛ اتبع ولا تبتدع (1).
(1) رواه الدارمي في "السنن"(139).
وروى هو، والإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، عن سفيان الثقفي رضي الله تعالى عنه: أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال:"قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ"، قلت: فما أتقي؟ فأومأ إلى لسانه (1).
وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن ثوبان، وابن ماجه، عنه، وعن ابن عمر، والطبراني في "الكبير" عنه، وعن سلمة ابن الأكوع رضي الله تعالى عنهم: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "اسْتَقِيْمُوْا وَلَنْ تُحْصُوْا، وَاعْلَمُوْا أَنَّ خَيْرَ أَعْمالِكُمُ الصَّلاةُ، وَلا يُحافِظُ عَلَىْ الْوُضُوْءِ إِلَاّ مُؤْمِنٌ"(2).
وأخرجه ابن ماجه عن أبي أمامة، والطبراني [عنه]، وعن عبادة ابن الصَّامت رضي الله تعالى عنهما، [يرفع الحديث] (3) ولفظهما: "اسْتَقِيْمُوْا، وَنِعِمَّا إِنِ اسْتَقَمْتُمْ، وَخَيْرُ أعمالِكُمُ الصَّلاةُ، وَلَنْ يُحافِظَ
(1) رواه الدارمي في "السنن"(2710)، والإمام أحمد في "المسند"(3/ 413)، ومسلم (38)، والترمذي (2410)، والنسائي في "السنن الكبرى"(11489)، وابن ماجه (3972).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 276)، والحاكم في "المستدرك"(447)، وابن ماجه (277) عن ثوبان رضي الله عنه.
ورواه ابن ماجه (278) عن ابن عمر.
ورواه الطبراني في "المعجم الكبير"(1444) عن ثوبان، و (6270) عن سلمة بن الأكوع.
(3)
زيادة من "سنن ابن ماجه"(279).
عَلَىْ الْوُضُوْءِ إِلَاّ مُؤْمِنٌ" (1).
وقيل لأبي حفص الحداد رضي الله عنه: أي العمل أفضل؟ قال: الاستقامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اسْتَقِيْمُوْا، وَلَنْ تُحْصُوْا".
ثم الاستقامة والعدل إما أن يكونا منك مع الله تعالى، أو مع عباده، وكلاهما مطلوبان منك؛ لأنك إنما تعد من الصَّالحين بخروجك من حقوق الله، وحقوق عباده، ولا يكون ذلك إلا بالعدل والاستقامة.
وقد قال الزجَّاج - من علماء التفسير -: الصالح هو القائم بما عليه من حقوق الله، وحقوق العباد (2).
وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الرَّبيع في قوله تعالى:{أُمَّةٌ قَائِمَةٌ (113)} [آل عمران: 113]؛ قال: تقوم على كتاب الله، وحدوده، وفرائضه (3).
وقوله تعالى: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)} [آل عمران: 113]، فيه نص على أن من أعمال الصَّالحين كثرة التلاوة، وقيام الليل، وكثرة السجود.
(1) رواه ابن ماجه (279)، والطبراني في "المعجم الكبير"(8124) عن أبي أمامة.
(2)
كذا نقله النووي في "شرح مسلم"(4/ 117) عن الزجاج.
(3)
رواه الطبري في "التفسير"(4/ 53)، ورواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(3/ 738).
أما تلاوة القرآن فلأنها أكثر ربحًا وفائدة، ومن شأن التاجر الصالح لرأس ماله، العارف بوجوه تنميته أن يُؤْثِر ما كان أكثر ربحًا، وأعظم كسبًا؛ فإن الحرف الواحد من القرآن يكتب به عشر حسنات.
روى الترمذي وصححه، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأَ حَرْفاً مِنْ كِتابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنةُ بِعَشْرِ أَمْثالِها؛ لا أَقُوْلُ: ألم حَرْفٌ، وَلَكِنْ: أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلامٌ حَرْفٌ، وَمِيْمٌ حَرْفٌ"(1).
وروى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اسْتَمَعَ حَرْفاً مِنْ كِتابِ اللهِ ظاهِراً، كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسناتٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ عَشْرُ سَيَّئاتٍ، وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجاتٍ، وَمَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتابِ اللهِ فِيْ صَلاةٍ قاعِداً، كُتِبَتْ لَهُ خَمْسُوْنَ حَسَنَةً، وَمُحِيَتْ عَنْهُ خَمْسُوْنَ سَيِّئَةً، وَرُفِعَتْ لَهُ خَمْسُوْنَ دَرَجَة، وَمَنْ قَرَأَ حَرْفاً مِنْ كِتابِ اللهِ فِيْ صَلاةٍ قائِماً، كُتِبَتْ لَهُ مِئَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِئَةُ سَيَّئَةٍ، وَرُفِعَتْ لَهُ مِئَةُ دَرَجَةٍ، وَمَنْ قَرَأَهُ فَخَتَمَهُ، كُتِبَتْ لَهُ عِنْدَ اللهِ دَعْوَةٌ مُسْتَجابَةٌ، مُعَجَّلَةً، أَوْ مُؤَخَّرَةٌ"(2).
قال ابن الجوزي في "النشر": وروينا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: من قرأ القرآن لم يردَّ إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم
(1) رواه الترمذي (2910) وقال: حسن صحيح غريب.
(2)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(2085).