الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْ راكِبٍ يَخْلُوْ فِيْ مَسِيْرِهِ بِاللهِ وَذِكْرهِ إِلَاّ رَدِفَهُ مَلَكٌ، وَلا يَخْلُوْ بِشِعْرٍ وَنَحْوِهِ إِلَاّ رَدِفَهُ شَيْطانٌ"(1).
*
مَسْألةٌ:
هل تجوز المعصية على الملائكة عليهم السلام أم لا؟
قال القرطبي: أما العقل فلا ينكر وقوع المعصية من الملائكة، وأن يوجد فيهم خلاف ما كلفوه، وأن تخلق فيهم الشَّهوات؛ إذ في قدرة الله تعالى كل موهوم.
قال: ووقوع هذا الجائز لا يدرك إلا بالسَّمع، ولم يصح (2). انتهى.
ذكر هذا في تفسير سورة البقرة بعد أن قطع بضعف ما روي عن عليٍّ، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عبَّاس رضي الله عنهما: أنه لما أكثر الفساد من أولاد آدم - وذلك في زمن إدريس عليه السلام عيرتهم الملائكة، فقال الله تعالى:"أما إنكم لو كنتم مكانهم وركَّبت فيكم ما ركَّبت فيهم - يعني: الشهوة - لعملتم مثل أعمالهم"، فقالوا:"سبحانك ما كان ينبغي لنا ذلك"، قال:"فاختاروا ملكين من خياركم"، فاختاروا هاروت وماروت، فأنزلهما الله تعالى إلى الأرض، فركَّب فيهما الشهوة، فما مرَّ بهم شهر حتى فتنا بامرأة اسمها الزُّهرة اختصمت إليهما، فراوداها عن نفسها، فأبت إلا أن يدخلا في دينها، ويشربا الخمر، ويقتلا النفس التي
(1) تقدم تخريجه.
(2)
انظر: "تفسير القرطبي"(2/ 52).
حرم الله، فأجاباها، وشربا الخمر، وقتلا، وألمَّا بها، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السَّماء، فعلماها، فتكلمت به، فعرجت، فمسخت كوكباً (1).
وقال سالم بن عبد الله: فحدثني كعب الحبر أنهما لم يستكملا يومهما حتَّى عملا ما حرم الله عليهما (2).
وفي غير هذا الحديث: فخُيِّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدُّنيا، فهما يعذبان ببابل في سِرب من الأرض (3).
وقيل: علقا مُنكَّسين، وليس بينهما وبين الماء إلا قدر شبر، وهما يلهثان من العطش.
وكان ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما فيما يرويه عطاء - إذا رأى الزهرة وسُهيلاً سبَّهما وشتَمَهما، ويقول: إن سهيلاً كان عشاراً باليمن،
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 134)، وابن حبان في "صحيحه"(6186) عن ابن عمر، والطبري في "التفسير"(1/ 456) عن ابن عمر وابن عباس وعلي رضي الله عنهم.
قال ابن كثير في "البداية والنهاية"(1/ 48) - بعد أن ذكر تلك الروايات في قصة الملكين -: وبالجملة فهو خبر إسرائيلي مرجعه إلى كعب الأحبار، كما رواه عبد الرزاق في "تفسيره" وهذا أصح إسناداً وأثبت رجالاً.
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(1/ 457).
(3)
انظر: "تفسير الطبري"(1/ 458)، و"تفسير القرطبي"(2/ 52).
وإن الزهرة كانت صاحبة هاروت وماروت (1).
قلت: نص شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر العسقلاني على ثبوت هذه القصة لأنها رويت من طرق متعددة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وموقوفة على من تقدم ذكرهم من الصَّحابة رضي الله تعالى عنهم (2).
(1) رواه أبو الشيخ في "العظمة"(4/ 1224) عن عمر، وروى قريباً منه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص: 603) عن ابن عمر، قال ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/ 132): هذا الحديث لا يصح موقوفاً ولا مرفوعاً.
(2)
قال الحافظ ابن حجر - ما ملخصه -: طعن في هذه القصة من أصلها بعضُ أهل العلم ممن تقدم وكثير من المتأخرين، وليس العجب من المتكلم والفقيه، إنما العجب ممن ينتسب إلى الحديث كيف يطلق على خبر ورد بهذه الأسانيد القوية مع كثرة طرقها أو تباين أسانيدها أنه باطل أو نحو ذلك من العبارة، مع دعواهم تقوية أحاديث غريبة أو واردة من أوجه لكنها واهية واحتجاجهم بها والعمل بمقتضاها
…
وأما من أنكرها فجماعة منهم القاضي أبو بكر بن العربي في "أحكام القرآن"، وتلقاه عنه القرطبي المفسر، وأبو محمد بن حزم في "الملل والنحل"، وممن صرح بنفي ورود حديث مرفوع في هذه القصة القاضي عياض في "الشفا"، وليعتبر الناظر في كلام هؤلاء، والعجب ممن ينتمي منهم إلى الحديث، ويدعي التقدم في معرفة المنقول، ويسمى عند كثير من الناس بالحافظ، كيف يقدم على هذا النفي، ويجزم به مع وجوده في تصانيف من ذكرنا من الأئمة بالأسانيد القوية والطرق الكثيرة، والله المستعان. وأقول في طرق هذه القصة القوي والضعيف، ولا سبيل إلى رد الجميع، فإنه ينادى على من أطلقه بقلة الاطلاع والإقدام على رد ما لا يعلمه، لكن الأولى أن ينظر إلى ما اختلفت فيه بالزيادة والنقص، =
وممن خرجها الإمام أحمد، وابن حبان، والبيهقي، وغيرهم (1).
وقال شيخ الإسلام والدي في "تفسيره" بعد أن قطع بصحة ذلك، ونقله عن ابن حجر:[من الرجز]
وَصَحَّ تَعْذِيْبُهُمَا بِبَابِلْ
…
مُنَكَّسَانِ الآنَ بِالسَّلاسِلْ
وَهُوَ اخْتِيَارٌ لِعَذَابِ الدُّنْيَا
…
عَلَىْ الْعَذَابِ بِدِيَارِ الْبُقْيَا
وحيث صح أنهما يعذبان، فهو شاهد للحديث الشاهد بوقوع المعصية منهما، وهذه المعاصي التي صدرت منهما حكمها كبائر، بل من أكبر الكبائر، وإذا جاز وقوع الكبائر منهم، فوقوع (2) الصغائر من باب أولى (3).
= فيؤخذ بما اجتمعت عليه ويؤخذ من المختلف ما قوي ويطرح ما ضعف أو ما اضطرب، فإن الاضطراب إذا بعد به الجمع بين المختلف ولم يترجح شيء منه التحق بالضعيف المردود، والله المستعان. انظر:"العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (1/ 231 - 245).
(1)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 134)، وابن حبان في "صحيحه"(6186)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 4) وقال: ورواه موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن كعب، فذكر بعض هذه القصة، وهذا أشبه.
(2)
في "أ": "بوقوع".
(3)
لعل أحسن من تكلم عن هذه القصة ابن كثير في "التفسير"(1/ 142) حيث قال: وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل؛ إذ ليس فيها =
ولا يعارض هذا قوله: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، وقوله {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26، 27]؛ فإنا نقول هذا باعتبار ما جُبِلت عليه الملائكة من الطَّاعة وعدم المعصية لخلولهم عن الشهوة، ثم دَرَجَ على هذا غالبُهم، كما جبلت بنو آدم على المعصية لتركيب الشهوة فيهم، وعليها درج غالبهم، كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"كُلُّ بَنِيْ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِيْنَ التَّوَّابُوْنَ". رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم وصححاه، من حديث أنس رضي الله تعالى عنه (1).
ثم كون الملائكة عليهم السلام مجبولين على الطاعة، وعدم المعصية لا يمنع وقوع المعصية منهم على وجه الندور والقلة، كما أن كون بني آدم مجبولين على الخطأ لا يمنع حصول العصمة لبعضهم كما هي للأنبياء عليهم السلام، وإنما جاز وقوع المعصية من الملائكة عليهم السلام لتظهر الحكمة الإلهية، والسطوة العظموتية، ويتمحض الكمال لله تعالى، ويبدو عذر بني آدم في عصيانهم من حيث تركيب
= حديث مرفوع صحيح، متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال.
(1)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 198)، وابن ماجه (4251)، والترمذي (2499) وقال: غريب، والحاكم في "المستدرك"(7617).
الشهوة فيهم، ويعلم فضلهم إذا عصوا وأطاعوا، بل لا مانع من حصول الزلة من خواص الملائكة، ولو أن تكون بخلاف الأولى؛ فإن ذلك زلة بالنسبة إلى مقامهم.
وقد صدر ذلك منهم حيث قال الله تعالى لهم {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]، فأدَّبهم الله تعالى بقوله:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، أي: من أن خلق آدم وذريته - وإن كان منهم العاصي والمفسد - أليق بالحكمة لتظهر مظاهر الأسماء الإلهية كالحليم، والستار، والعَفُوِّ، والغفور، والرحيم، والحَكَم، والعدل، والمقسط، والمنتقم، والكبير، والعظيم، ونحوها إلى غير ذلك من الأسرار الإلهية المستودعة في خلق الإنسان الذي به، وفيه لتظهر هذه المظاهر الإلهية، ولذلك أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لأبي البشر بعد أن علمه {الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 31 - 33]، أي: وأعلم ما كنتم تكتمون من أنكم معصومون، وكيف يخلق مع وجودنا في السماوات والأرض ونحن بهذه الصفة من يعصي الله، ويفسد، ويسفك الدماء، ففي ذلك تعريض بمعاتبتهم، كما قال شيخ الإسلام
والدي في "تفسيره": [من الرجز]
مُعَرِّضاً فِيْ ذاكَ بِالْعِتابِ
…
لَهُمْ عَلَىْ شَيْءٍ مِنَ الآدابِ
بِهِ أَخَلُّوا وَهْو أَنْ يَرْتَقِبُوا
…
ظُهُوْر حِكْمَةٍ إِلَيْهِ تُنْسَسبُ
فِي خَلْقِهِ وَأنَّهُ حَكِيْمُ
…
وَهْو بِكُلِّ خَلْقِهِ عَلِيْمُ
وما كان قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} إلى آخره، اعتراضاً على الذات العليَّة، ولا انحرافاً عن الاستحسان لأفعالها المرضية، ولكن كان على سبيل الاستفسار والاستخبار عن وجه الحكمة في خَلْقِ خَلْقٍ خطائين مع وجود خَلْقٍ معصومين، وكان اللائق بمقامهم - لأنهم مقربون - أن لا يستفسروا عن وجه الحكمة أيضاً، بل يصمتوا حتى يفيض الله تعالى عليهم من علم وجه الحكمة ما قسمه لهم؛ فإن هذا خلق الحكماء.
كما روى الحاكم، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن لقمان كان عند داود عليهما السلام وهو يسرد الدِّرع، فجعل يفتله هكذا بيده، فجعل لقمان يتعجب، ويريد أن يسأله، ويمنعه حكمه أن يسأله، فلما فرغ منها عرضها على نفسه، فقال: نِعْمَ درع الحرب هذه، فقال لقمان: الصمت من الحكمة، وقليلٌ فاعله؛ كنت أردت أن أسألك، فسكت حتى لقنتني (1).
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(3582)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(5026)
وقيل: إن لقمان كان يتردد سنة وهو يريد أن يعلم ذلك، ولم يسأل حتَّى قال داود ما قاله (1).
ولو وقع الاستفسار المذكور من غير الملائكة ممن هو دون مقامهم لم يكن محسوباً عليه بزلة؛ إذ لم يُعَدَّ ذلك زلة عليهم إلا من حيث إنهم عباد مكرمون، ولذلك أدبوا عليه، وعوتبوا، ولو وقعت من أحدهم زلة أعظم منها لزاد الله تعالى في عقوبته فوق ما يعاقب به من دونهم على تلك الزلة، ألا ترى إلى تعذيب الملكين ببابل هاروت وماروت إما بحبسهما في سِرب تحت الأرض، واما بتعليقهما منكسين ليس بينهما ويين الماء إلا قريب من شبر وهما يلهثان عطشاً عذابا دائماً إلى يوم القيامة؟ ! وكان يكفي في عقوبة غيرهما على الشرب والزنا مع عدم الإحصان الجلدُ وحده في الأول، ومع التغريب في الثاني، وعلى قتل النفس القتلُ، ولا شك أن التألم به ينقضي بسرعة، بخلاف هذا العذاب الشديد الدائم إلى يوم الوعيد، فدل ذلك على أن الذنب كلما كان صاحبه مقرباً عند الله تعالى كان عظيماً، وكان عقابه شديداً، ولذلك اشتدت عقوبة العلماء إذا لم يعملوا بعلمهم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ويلُ لِمَنْ لا يَعْلَمُ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَعَلَّمَهُ، وَويلٌ لِمَنْ يَعْلَمُ وَلا يَعْمَلُ؛ سَبع مِنَ الْوَيْلِ". رواه سعيد بن منصور في "سننه" عن جَبَلَة بن سُحيم مرسلاً (2).
(1) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (3/ 114).
(2)
ورواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 158) موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه، ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 211) موقوفا على أبي الدرداء رضي الله عنه.
وأنشدوا: [من الكامل]
لا يَحْقِرِ الرَّجُلُ الشَّرِيْفُ جَرِيْرةً
…
فِيْ مِثْلِها كَمْ لِلْحَقِيْرِ مَعاذِرُ
فَصَغائِرُ الرَّجُلِ الْكَبِيْرِ كَبائِرٌ
…
وَكَبائِرُ الرَّجُلِ الصَّغِيْرِ صَغائِرُ (1)
(1) ذكرها الألوسي في "روح المعاني"(5/ 18) دون أن ينسبها لأحد.