الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)} [الأنبياء: 106]؛ قال: الذين يصلون الصلوات الخمس في الجماعات (1).
*
تَنْبِيْهٌ:
روى الإمام محمَّد بن نصر المرزوي في كتاب "الصَّلاة" عن أحمد ابن منصور الرمادي، عن يزيد بن أبي حكيم العدني قال: سألت سفيان الثوري رحمه الله تعالى عن هذه الآية: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)} [آل عمران: 113]، فحدثني عن منصور قال: بلغني أنهم كانوا يُصَلُّوْن بين المغرب والعشاء (2).
فقد تبين بذلك أنَّ الصَّلاة بين العشاءين مما يهتم به الصالحون بعد تأدية الفرائض؛ لأن الصالحين - خاصة عباد الله - من أوصافهم أنهم يصلحون حين يفسد الناس، كما تقدم، وهذه الساعة يكون أكثر الناس فيها في غفلة واشتغال عن الله تعالى بعَشائهم ومبيتهم، ومن ثَمَّ سميت الصلاة حينئذٍ صلاة الغفلة.
كما روى عبد الرزاق، والطبراني عن الأسود بن يزيد رحمه الله تعالى قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: نعمت السَّاعة ساعة الغفلة؛ يعني: الصلاة فيما بين المغرب والعشاء (3).
(1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(2912).
(2)
ورواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(3/ 739).
(3)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(4725)، والطبراني في "المعجم الكبير"(9450).
وروى محمَّد بن نصر بسند صحيح، عن عبد الرحمن بن الأسود رحمه الله تعالى قال: ما بين المغرب والعشاء صلاة (1).
وتسمى - أيضًا - صلاة الأوابين.
والأوابون هم الصالحون لقوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)} [الإسراء: 25].
وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزُّهد" عن محمَّد بن المنكدر رحمه الله تعالى مرسلاً، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ صَلَّىْ ما بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشاءِ فَإِنَّها مِنْ صلاةِ الأَوَّابِيْنَ"(2).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: صلاة الأوابين الخلوة التي بين المغرب والعشاء حتى يثوب الناس (3).
ومن صلاة الأوابين أيضًا - وهم الصالحون كما علمت - صلاة الضحى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "صَلاةُ الأَوَّابِيْنَ حِيْن تَرْمَضُ الْفِصالُ". رواه الإمام أحمد، ومسلم عن زيد بن أرقم منه، وعبد بن حميد عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه (4).
(1) رواه المروزي في "قيام الليل"(1/ 85) لكنه قال: "ما بين المغرب والعشاء صلاة الغفلة".
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 445).
(3)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 445).
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 367)، ومسلم (748) عن زيد بن أرقم.
ورواه عبد بن حميد في "المسند"(ص: 187) عن عبد الله بن أبي أوفى.
ورمض الفصال - جمع فصيل: وهو صغير الإبل -: حين يشتد حر الرمضاء، وذلك عند ارتفاع النهار (1).
وروى الحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُحافِظُ عَلَى صَلاةِ الضُّحَىْ إِلَاّ أَوَّابٌ"(2).
وروى البزار، والبيهقي في "الشعب" عن أنس رضي الله عنه قال: أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم بخمس خصال، قال:"أَسْبغِ الْوُضُوْءَ يَزِدْ فِيْ عُمُرِكَ، وَسَلِّمْ عَلَىْ مَنْ لَقِيْتَ مِنْ أُمَّتِيْ تَكْثُرْ حَسَناتُكَ، وَإِذا دَخَلْتَ بَيْتَكَ فَسَلّمْ عَلَىْ أَهْلِ بَيْتِكَ يَكْثُرْ خَيْرُ بَيْتِكَ، وَصَلِّ صَلاةَ الضُّحَىْ فَإِنَّها صَلاةُ الأَوَّابِيْنَ قَبْلَكَ، يا أَنسُ! ارْحَمِ الصَّغِيْرَ، وَوَقِّرِ الْكَبِيْرَ، تَكُنْ مِنْ رُفَقائِيَ يَوْمَ الْقِيامَةِ"(3).
ولا تعارض بين ذلك وبين حديث ابن المُنكدر المتقدم فيما بين المغرب والعشاء؛ أي: لا بُعْدَ أن يكون للأوابين صلاتان وأكثر.
على أن صلاة الضحى وصلاة ما بين المغرب والعشاء متقابلتان في الوقت؛ لأن إحداهما في أول طرفي النهار، والآخر في أول طرفي الليل، فصلاة الضُّحى صلاة الأوابين نهارًا، وصلاة ما بين العشاءين صلاتهم ليلاً.
(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (6/ 35).
(2)
رواه الحاكم في "المستدرك"(1182)، ورواه البخاري في "التاريخ الكبير"(1/ 366)، وابن خزيمة في "صحيحه"(1224).
(3)
رواه البزار في "المسند"(7396)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(8762).
ولهم صلوات أخرى:
فروى البيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُحافِظُ عَلَىْ رَكْعَتِيِ الفجر (1) إِلَاّ أَوَّابٌ"(2).
وعن عبد الله بن بُريدة قال: كان يقال: صلاة الأوابين، وصلاة المنيبين، وصلاة التوابين؛ فصلاة الأوابين ركعتان قبل الصبح، وصلاة المنيبين ركعتا الضحى، وصلاة التوابين ركعتان قبل صلاة المغرب عند النداء.
وروى عبد الرزاق عن عروة بن رويم رحمه الله تعالى قال: من صلى ركعتي الفجر، وصلى الصبح في جماعة، كتبت صلاته يومئذ في صلاة الأوابين، وكتب يومئذ في وفد المتقين (3).
وروى ابن المبارك عن عثمان بن أبي سودة مرسلاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صَلاةُ الأَوَّابِيْنَ - وقال: صَلاةُ الأَبْرارِ - رَكْعَتانِ إِذا دَخَلْتَ بَيْتَكَ، وَرَكْعَتانِ إِذا خَرَجْتَ"(4).
وروى أبو نعيم: ثنا أحمد بن إسحاق، ثنا أبو بكر بن أبي داود [-بإسناده- عن عثمان بن أبي سودة] (5) قال: يقال: صلاة الأوابين
(1) في "أ": "الضحى".
(2)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(3065)، وقال: عدي بن الفضل ليس بالقوي.
(3)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(4783).
(4)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 453).
(5)
زيادة من "حلية الأولياء" لأبي نعيم (6/ 109).
ركعتان حين تخرج من بيتك، وركعتان حين تدخل (1).
وروى عبد الرزاق عن أبي سفيان مرسلاً، وأبو نعيم عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا فاءَتِ الأَفْياءُ، وَهَبَّتِ الأَرْواحُ، فَاذْكُرُوْا حَوائِجَكُمْ؛ فَإِنَّها ساعَةُ الأَوَّابِيْنَ"(2).
وروى ابن أبي شيبة عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه رحمهما الله تعالى قال: صلاة الأوابين بعد زوال الشمس (3).
وروى الخطيب في "التلخيص" عن جعفر بن محمَّد قال: عليكم بالورع، والاجتهاد، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الصُّحبة لمن صحبكم؛ فإن ذلك من سنن الأوابين.
وروى أبو نعيم عن عمرو بن دينار رحمه الله تعالى قال: الأواب الحفيظ الذي لا يقوم من مجلسه إلا استغفر الله؛ يقول: اللهم اغفر لنا ما أصبنا في مجلسنا سبحان الله وبحمده (4).
وروى ابن أبي شيبة عن عمرو بن دينار، عن عُبيد بن عُمير قال: كنا نعد الأواب الحفيظ الذي إذا قام من مجلسه قال: اللهم
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 109).
(2)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(4818) عن أبي سفيان، ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 227) عن ابن أبي أوفى.
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4079).
(4)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 349).
اغفر لي ما أصبت في مجلسي (1).
وروي عن عبيد بن عمير - أيضًا - في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)} [الإسراء: 25]، وفي قوله:{لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)} [ق: 32]؛ قال: الأواب الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها (2).
وروى ابن أبي الدُّنيا في كتاب "التوبة" عن مجاهد قال: الأواب الحفيظ الذي يذنب سراً، ثم يتوب [منه](3) سرًا (4).
ورواه عنه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" في تفسير قوله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)} [الإسراء: 25]، (5).
وروي في الأَوْبِ أقوال أخرى مذكورة في مَحَالِّها (6).
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(29329)، ورواه الطبري في "التفسير" (15/ 71) ثم قال: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: الأواب: هو التائب من الذنب، الراجع من معصية الله إلى طاعته، ومما يكرهه إلى ما يرضاه؛ لأن الأوَّاب إنما هو فعَّال، من قول القائل: آب فلان من كذا، إما من سفره إلى منزله، أو من حال إلى حال.
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(15/ 70).
(3)
زيادة من "التوبة" لابن أبي الدنيا (ص: 240).
(4)
رواه ابن أبي الدنيا في "التوبة"(ص: 240).
(5)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 213).
(6)
انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (5/ 26)، فقد ذكر عشرة أقوال في معنى الأوابين.
وقوله تعالى في الآية السابقة في ذكر أوصاف الصالحين: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (114)} [آل عمران: 114]، هذا أصل أحوال الصَّالحين.
ولو جاء العبد بكل عمل صالح - وهو لا يؤمن بالله، أو يكذب باليوم الآخر - لا يقبل منه شيء.
قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23]
وقال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)} [محمد: 1].
وقوله تعالى في الآية: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (114)} [آل عمران: 114]، لا شك أن من شأن التاجر المصلح النصيحة لإخوانه المؤمنين، ولا يخفى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص النصائح، بل هو من كمال الإيمان المؤسَّس عليه قواعد الصلاح.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَىْ مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيَّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ؛ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيْمانِ". رواه مسلم، وغيره عن [أبي سعيد] الخدري رضي الله تعالى عنه (1).
(1) رواه مسلم (49).
قال ابن الحاج في "المدخل": ورد أن موسى عليه السلام مر على قرية وقد أهلكها الله تعالى فقال: يا رب! كيف أهلكتهم وكنت أعرف منهم رجلاً صالحاً؟ فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى! إنه لم يغيرْ لي منكرًا (1)؛ أي: فلم يكمل صلاحه (2).
وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: يذهب الصالحون، ويبقى أهل الرِّيَب، قالوا: يا أبا عبد الرَّحمن! ومن أهل الرِّيَب؟ قال: قوم لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر (3).
وقوله تعالى: {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ (114)} [آل عمران: 114]؛ اعلم أن من تمام صلاحية التاجر بماله أن يبادر إلى اقتناص الأرباح، والفوائد مهما سمع بها، وإلا فإن التهاون ربما فوَّت عليه أرباحاً كثيرة، على أن التأني مطلوب إلا في أعمال الآخرة؛ قال تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ (148)} [البقرة: 148].
وقال تعالى بعد أن ذكر طائفة من الأنبياء عليهم السلام:
{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ (90)} [الأنبياء: 90]، والآيات في ذلك معروفة.
(1) في "أ": "لم يغر لي".
(2)
انظر: "المدخل" لابن الحاج (1/ 81).
(3)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 531).
وقد قيل: [من السريع]
سَابِقْ إِلَىْ الْخَيْرِ وَبَادِرْ بِهِ
…
فَإِنَّمَا خَلْفَكَ مَا تَعْلَمُ
وَقَدِّمِ الْخَيْرَ فَكُلُّ امْرِئٍ
…
عَلَىْ الَّذِيْ قَدَّمَهُ يَقْدُمُ (1)
والخيرات شاملة لسائر أعمال البر من صلاةٍ، وصيامٍ، وحجٍّ، وجهادٍ، وصدقةٍ، وصلةٍ، وإحسانٍ
…
إلى غير ذلك، سواء كان فرضاً أو نفلاً.
ومنها التجنب عن سائر الأعمال القبيحات، قولاً وفعلاً ونية.
وهذا - أيضًا - مفهوم من الآية؛ لأنه من كمال الإيمان، وهو من أَجَلِّ الخيرات، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اتَّقِ الْمَحارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ". رواه الإمام أحمد، والترمذي، والبيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (2).
وقد علمت أن التقوى أخص أعمال الصَّالحين، وأي تقوى لمن لا يتقى المحارم، بل الشبهات؛ بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُوْنَ مِنَ الْمُتَّقِيْنَ حَتَّىْ يَدَعَ ما لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِما بِهِ بَأْسٌ". رواه ابن ماجه، والترمذي، والحاكم وصححاه، من حديث
(1) ذكر البيتين: ابن حبان في "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء"(ص: 247) من قول علي بن محمد البسامي.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 310)، والترمذي (2305)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(9543).
عطية السعدي رضي الله تعالى عنه (1).
وقال أبو العتاهية: [من الطويل]
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَكْفُفْ عَنِ النَّاسِ شَرَّهُ
…
فَلَيْسَ لَهُ مَا عاشَ مِنْهُمْ مُصَالِحُ
إِذَا كَفَّ عَبْدُ اللهِ عَمَّا يَضُرُّهُ
…
وَأَكْثَرَ ذِكْرَ اللهِ فَالْعَبْدُ صَالِحُ
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَمْدَحْهُ حُسْنُ فِعَالِهِ
…
فَلَيْسَ لَهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مادحُ
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "العقل" عن الضَّحَّاك بن مزاحم رحمه الله تعالى قال: ما بلغني عن رجل صلاح فاعتددت بصلاحه حتى أسأل عن خِلالٍ ثلاث، فإن تمت تم له صلاحه، [وإن نقصت منه خصلة كانت وصمة عليه في صلاحه](2)؛ أسأل عن عقله فإن الأحمق يفعل صلاحاً (3) عنده ربما هلك وأهلك فِئَاماً من الناس؛ يمر بالمجلس فلا يسلم، فإذا قيل له، قال: من أهل الدنيا، ويترك عيادة
(1) رواه ابن ماجه (4215)، والترمذي (2451) وقال: حسن غريب، والحاكم في "المستدرك "(6899).
(2)
زيادة من "العقل وفضله" لابن أبي الدنيا (ص: 53).
(3)
في "أ": "بفضل صلاح".
الرجل من جيرانه، فإذا قيل له، قال: من أهل الدنيا، ويدع الجنازة لا يتبعها لمثل ذلك، ويدع طعام أبيه يبرد (1)، فإذا هو قد صار عاقًا.
قال: وأسأل عن النعمة العظيمة التي لا نعمة أعظم منها ولا أوضح؛ الإسلام، فإن كان أحسن احتمال النعمة، ولم يدخلها بدعة ولا زيغًا، وإلا لم أعتد به فيما سوى ذلك.
قال: وأسأل عن وجه معاشه، فإن لم يكن له معاش، لم آمن عليه أن يأكل بدينه، ولا آمن عليه أن تغلب عليه الشهوات فيأكل الحرام والشبهات؛ فأي خير بعد هذا؟ (2)
وروى الدينوري في "مجالسته"، والبيهقي في "شعبه"، والخطيب في "تاريخه" عن يحيى بن معين رحمه الله تعالى: أنه أنشد لنفسه: [من الكامل]
الْمَالُ يَذْهَبُ حِلُّهُ وَحَرَامُه
…
يَوْماً وَيَبْقَىْ فِيْ غَدٍ آثامُهُ
لَيْسَ التَّقِيُّ بِمُتَّقٍ لإِلَهِهِ
…
حَتَّىْ يَطِيْبَ شَرَابُهُ وَطَعَامُهُ
وَيَطِيْبَ مَا تَحْوِيْ وَتَكْسِبُ كَفُّهُ
…
وَيَكُوْنَ فِيْ حُسْنِ الْحَدِيْثِ كَلامُهُ
(1) في "أ": "تبرراً"، والمثبت من "العقل وفضله" لابن أبي الدنيا (ص: 53).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "العقل وفضله"(ص: 53).
نَطَقَ النَّبِيُّ لَنَا بِهِ عَنْ رَبِّهِ
…
فَعَلَىْ النَّبِيَّ صَلاتُهُ وَسَلامُهُ (1)
ومن أجمع الأحاديث لأعمال الصالحين: ما رواه الإمام الفقيه الزاهد الشيخ نصر المقدسي رحمه الله تعالى في كتاب "الحجة على تارك المحجة" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ابْنَ سلامٍ! عَلَىْ كَمِ افْتَرَقَتْ بَنُوْ إِسْرائِيْلَ؟ " قال: إحدى وسبعين فرقة، واثنتين وسبعين فرقة؛ كلهم يشهد بعضهم على بعض بالضلالة.
قالوا: أفلا تخبرنا يا رسول الله لو قد خرجت من الدنيا فتفرقت أمتك، على ما يصير أمرهم؟ فقال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ بَنِيْ إِسْرائِيْلَ تَفَرَّقُوْا عَلَىْ ما قُلْتَ، وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِيْ عَلَىْ ما افْتَرَقَتْ عَلَيْهِ بَنُوْ إِسْرائِيْلَ، وَسَتِزْيُد فِرْقَةٌ واحِدَةٌ لَمْ تَكُنْ فِيْ بَنِيْ إِسْرائِيْلَ".
قال ابن سلام: أفلا تدلنا على قوم ترضى لنا نخبرُ أولادنا، وتخبرُ أولادُنا أولادَهم، فنكون فيهم في آخر الزمان؟ قال - رسول الله صلى الله عليه وسلم:"انْظُرُوْا إِلَىْ قَوْمٍ يُصَلُّوْنَ الْخَمْسَ فِيْ جَماعَةٍ، وَيصُوْمُوْنَ رَمَضانَ، وَيَأْتُوْنَ الْجُمُعَةَ، وَيَعُوْدُوْنَ الْمَرِيْضَ، وَيُشَيِّعُوْنَ الْجَنائِزَ، جيْرانُهُمْ آمِنُوْنَ مِنْ أَيْدِيْهِمْ وَألسِنَتِهِمْ وَبَوائِقِهِمْ، فَتكُوْنُوْنَ مِنْ أُوْلَئِكَ؛ فَإِنَّهمْ قَوْمٌ صالِحُوْنَ".
(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 226)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(5788)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(14/ 185).
قيل: يا رسول الله! ومن هم؟ قال: "الْمُتَّقُوْنَ"(1).
وليس المراد أن الصالحين ليس لهم من الأخلاق والأعمال إلا ما ذكر؛ بدليل قوله آخرًا: "هُمُ الْمُتَّقُوْنَ"، وبدليل أنه وصفهم بإقامة الصَّلوات في الجماعة، وقد قال الله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (45)} [العنكبوت: 45].
وفي الحديث إشارة لطيفة، وهي أن هذه الخصال التي اشتمل الحديث عليها لا تجتمع في عبد إلا كان صالحًا موفقا في سائر أعماله، فعلامة صلاح العبد اجتماع هذه الخصال فيه؛ فافهم.
(1) انظر "مختصر الحجة على تارك المحجة للمقدسي"(159)، ورواه الآجري في "الشريعة"(1/ 312).