الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) باب التَّشَبُّه بِالأَخْيَار مِنْ بَنِي آدَم
(2)
باب التَّشَبُّه بِالأَخْيَار مِنْ بَنِي آدَم
اعلم - وفقني الله وإيّاك - أننا قدَّمنا أن الذين يحسنُ التشبه بهم من بني آدم هم الأخيار من الطوائف الأربعة المذكورين في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].
وإنما يكون العبد مع هؤلاء إذا تشبه بهم في أصل الطاعة لقوله تعالى في الآية {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم} [النساء: 69]، وقد بينا ذلك فيما سبق أيضًا.
ثم لا يكون مجرد التشبه بهم ملحقاً له بهم، وهو منحرف عن طريقتهم باقترافه المعاصي، أو بمخالفة ظاهره لباطنه، بل لا بد أن يشبه باطنُه بواطنَهم، كما يشبه ظاهرُه ظواهرَهم.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه؛ لا يشبه الزيُّ الزيَّ حتى تشبه القلوبُ القلوبَ. رواه ابن أبي شيبة، وغيره (1).
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34548).
وروى العُقيلي، والديلمي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَبْغَضُ الْعِبادِ إِلَىْ الله تَعَالَىْ مَنْ كانَ ثَوْباهُ خَيْرًا مِنْ عَمَلِهِ؛ أَنْ تَكُوْنَ ثِيابُهُ ثِيابَ الأَنْبِياءِ، وَعَمَلُهُ عَمَلَ الْجَبَّارِيْنَ"(1).
وروى الطبراني في "المعجم الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَزَيَّنَ بِعَمَلِ الآخِرَةِ وَهُوَ لا يَطْلُبُها، لُعِنَ فِيْ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ"(2).
وروى الإِمام أحمد، وابن حبان، والحاكم وصححاه، والبيهقي عن أُبَيِّ بن كعب أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بَشِّرْ هَذهِ الأُمَّةَ بِالتيْسِيْرِ، وَالسَّناءِ، وَالدِّيْنِ، وَالرِّفْعَةِ، وَالتَّمْكِيْنِ؛ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنْيا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيْ الآخِرَةِ نَصِيْبٌ"(3).
وروى الطبراني في "المعجم الكبير" عن الجارود رضي الله عنه قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ طَلَبَ الدُّنْيا بِعَمَلِ الآخِرَةِ طُمِسَ وَجْهُهُ، وَمُحِقَ
(1) رواه العقيلي في "الضعفاء الكبير"(2/ 163) وقال: سليم بن عيسى مجهول في النقل، حديثه منكر غير محفوظ، ورواه الديلمي في "مسند الفردوس"(1481). وحكم عليه السيوطي بالوضع في "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة"(2/ 225).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(4776). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 220): وفيه إسماعيل بن يحيى التيمي، وهو كذاب.
(3)
رواه الإِمام أحمد في "المسند"(5/ 134)، وابن حبان في "صحيحه"(405)، والحاكم في "المستدرك"(7862)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(6835).
ذِكرُهُ، وَأثبِتَ اسْمُهُ فِيْ النَّارِ" (1).
وقوله: "طُمِسَ وَجهه"، أي: وَجْهُ قَلْبِهِ، بمعنى: عَمِيَت بصيرتُه.
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَخْرُجُ فِيْ آخِرِ الزَّمانِ رِجالٌ يَخْتِلُوْنَ (2) الدُّنْيا بِالدِّيْنِ، يَلْبَسُوْنَ لِلنَّاسِ جُلُوْدَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّيْنِ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَىْ مِنَ الْعَسَلِ، وَقُلُوْبُهُمْ قُلُوْبُ الذِّئابِ، فَيَقُوْلُ اللهُ عز وجل: أَبِيْ يَغْتَرُّوْنَ؟ أَمْ عَلَيَّ يَجْتَرِؤُوْنَ؟ فَبِيْ حَلَفْتُ لأَبْعَثَنَّ عَلَىْ أُوْلَئِكَ مِنْهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيْمَ مِنْهُمْ حَيْرَانًا"(3).
وروى أبو نعيم في "الحلية" عن ابن أبي مُلَكية، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ذهب الناس، وبقي النَّسْنَاس، قيل: ما النسناس؟ قال: الذين يتشبهون بالناس وليسوا بناس (4).
وروى الدِّينوري في "المجالسة" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: ذهب الناس وبقي النسناس، ولو تكاشفتم ما تدافنتم (5).
وذكره الهروي في "الغريب"، والزمخشري في "الفائق"، وابن الأثير
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(2128). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 220): فيه من لم أعرفهم.
(2)
الختل: الخداع.
(3)
رواه الترمذي (2404) وقال: وفي الباب عن ابن عمر، وذكر حديث ابن عمر وحسنه.
(4)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 328).
(5)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 106).
في "النهاية" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (1)
وقد قلت في ذلك: [من الكامل]
لا تَظْهَرَنَّ بِزِيِّ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ
…
أَهْلِ التُّقَىْ وَالدِّيْنِ أَوْ أَهْلِ الْكَرَمْ
حَتَّىْ تَكُوْنَ النَّفْسُ مِنْكَ شَرِيْفَةً
…
وَعَنِ السَّفَاسِفِ فِيْ نِهَايَاتِ الشَّمَمْ
فَإِذَا اتَّسَمْتَ بِوَسْمِ قَوْمٍ فَامْتَطِ
…
بِلَحَاقِهِمْ دُهْمَ الْعَزَائِمِ وَالْهِمَم
لا تَأتِيَنَّ بِخَصْلَةٍ لا تُرْتَضَىْ
…
مِمَّنْ بِأوْصَافِ الأَمَاجِدِ يَتَّسِمْ
لا تَدْخُلَنَّ مَوَالِجاً رُوَّادُهَا
…
بَيْنَ الأَنَامِ بِقُبْحِ فِعْلى تُتَّهَمْ
لا يَتَّقِيْ مِنْ قُرْبِهَا وَنزوْلِهَا
…
إِلَاّ كِرَامٌ فِيْ الْخَلائِقِ وَالشِّيَمْ
(1) كذا عزاه السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 356) إلى الهروي في "الغريبه". وذكره الزمخشري في "الفائق"(3/ 427)، وابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث"(5/ 49)، وكذا رواه الخرائطي في "مساوئ الأخلاق"(1/ 324).
مَهْمَا أتيْتَ بِمَا يُخَالِفُ سَمْتَهُمْ
…
أَثَّمْتَ فِيْهِمْ مَنْ يَرَاكَ مِنَ الأُمَمْ
وَتَرَكْتَ مَنْ قَدْ كانَ يَهْوَىْ قُرْبَهُمْ
…
يَبْغِيْ الْهِدَايَةَ فِيْ التَّحَيُّرِ وَالْوَهَمْ
وَحَرَمْتَهُ مِنْ نَفْعِهِمْ وَتَرَكْتَ مَنْ
…
حَقَّتْ رِعَايَةُ حَقِّهِ لا يُحْتَرَمُ
يَا عَابِثاً مَا أَنْتَ إِلَاّ عَابِثٌ
…
فِيْ الأَرْضِ لَمْ تَرع الذِّمَامَ وَلا الذِّمَمْ
آلَيْتَ بِاللهِ الْعَظِيْمِ وَلا أَرَىْ
…
بِسِوَىْ اسْمِهِ عَقْدُ الأَلِيَّةِ وَالْقَسَمْ
مَا أَنْتَ إِلَاّ فِيْ غُرُوْرٍ فَاتَّعِظْ
…
أَرَضِيْتَ مِنْ إسْمِ التَّزَهُّدِ بِالْعَلَمْ
وَمِنَ الْفُتُوَّةِ بِالْكَلامِ وَبِالْمُنَىْ
…
وَمِنَ الْمَعَالِمِ بِالْمَرَاسِمِ وَالرّقَمْ
مَا نِلْتَ مَجْداً يا فَتَىْ إِنْ لَمْ يَكُنْ
…
لَكَ فِيْ خِلالِ الصِّدْقِ رَاسِخَةُ الْقَدَمُ
أَوْ لا فَمَا لَكَ يَوْمَ كَشْفِ السِّرِّ فِيْ
…
يَوْمٍ بِهِ حُشِرَ الْوَرَىْ إِلَاّ النَّدَمْ
ومن لطائف أهل الإشارة: ما روي عن أبي عبد الله السِّجْزي رضي الله تعالى عنه: أن قائلًا قال له: لِمَ لا تلبس المرقعة؟ فقال: من النفاق أن تلبس لباس الفتيان، ولا تدخل في حمل أثقال الفتوة (1).
وحكي: أن جماعة من أصحاب المرقعات دخلوا على بِشْر بن الحارث الحافي فقال: يا قوم! اتقوا الله فلا تظهروا هذا الزي؛ فإنكم تعرفون به، وتكرمون له، فسكتوا كلهم، فقام شاب من بينهم فقال: الحمد لله الذي جعلنا ممن يعرف به، ويكرم له، والله لنظهرن هذا الزي حتى يكون الزي كله لله، فقال له بشر: أحسنت يا غلام؛ مثلك من يلبس المرقعة.
وقال أبو سعيد الحسن بن علي الواعظ في كتاب "الحدائق لأهل الحقائق": يقال: إن أربعة من الكبائر: لبس الصوف لطلب الدنيا، وادعاء فضل الصالحين وترك فعلهم، وذم الأغنياء والأخذ منهم، وادعاء بغض الفاسقين والعمل بمثل أعمالهم.
وأنشدوا: [من الوافر]
لَبِسْتَ الصُّوْفَ مَرْقُوْعا وَقُلْتَا
…
أَنَا الصُّوْفيُّ لَسْتَ كَمَا زَعَمْتا
فَمَا الصوْفيُّ إِلَاّ مَنْ تَصَافا
…
مِنَ الأكدَارِ وَيْحَكَ لَوْ عَقَلْتَا
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 351).
وهذا الباب متسع جداً، وقد عرجت على طرف منه صالح في كتاب "منبر التوحيد".
وفي "الحلية" عن ابن شَوذَب قال: سمعت فَرْقدًا -يعني: السَّبخي رحمه الله تعالى - يقول: إنكم لبستم ثياب الفراغ قبل العمل، ألم تروا إلى الفاعل إذا عمل كيف يلبس أدنى ثيابه، فإذا فرغ اغتسل ولبس ثوبين نفيسين؟ وأنتم تلبسون ثياب الفراغ قبل العمل (1).
الإشارة في كلامه أن زي الصلاح ينبغي أن لا يظهر على أهله إلا بعد حصوله، فأما لبسه قبل الحصول فإنه خلاف الحكمة.
وقد ضرب الإِمام أبو حامد في "الإحياء" للمتصوفة الذين تزيوا بظاهر زي الصوفية ومراسمهم، ولم يتبعوا نفوسهم في المجاهدة، والرياضة، ومراقبة القلب، وتطهير الباطن والظاهر من الآثام الخفية والجلية مثالاً عجيبا ينطبق عليهم، وعلى كل من تشبه بقوم كرام من العلماء، والفقهاء، والوُعَّاظ، والمدرسين، والمتعبدين في ظاهر الزي مع خلوه من مكارم أخلاقهم، ومحاسن خصالهم.
وذلك أنه مثَّلهم بامرأة عجوز سمعت أن الشجعان والأبطال من المقاتلين تثبت أساميهم، ويقطع كل واحد منهم قطرًا من أقطار المملكة، فتاقت نفسها إلى أن يقطع لها مملكة، فلبست درعا، ووضعت على رأسها مغفراً، وتعلمت من رجز الأبطال أبياتًا، وتعودت إيراد تلك الأبيات بنغماتهم حتى تيسرت عليها، وتعلمت
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 47).
كيف هيئة تبخترهم في الميدان، وكيف تحريكهم الأيدي، وتلقفت جميع شمائلهم في الزي والمنطق، والحركات والسَّكَنات، ثم توجهت إلى المعسكر ليثبت اسمها في ديوان الشُّجعان، فلما وصلت إلى المعسكر أُنْفِذت إلى ديوان العرض، وأمر بأن تجرد عن المغفر والدرع، وينظر ما تحته، وتمتحن بالمبارزة مع بعض الشجعان ليعرف قدر عَنائها في الشَّجاعة، فلما جردت إذا هي عجوز ضعيفة زَمِنَة لا تطيق حمل الدِّرع والمغفر، فقيل لها: أجئت للاستهزاء بالملك؟ ولاستحماق أهل حضرته، والتلبيس عليه؟ خذوها فألقوها إلى الفيل، فألقيت إليه.
قال حجة الإِسلام: وهكذا يكون حال المدعين للتصوف في القيمة إذا كشف عنهم الغطاء، وعرضوا على القاضي الأكبر الذي لا ينظر إلى الزي والمرقع، بل إلى سر القلب (1)، انتهى.
ومن لطائف ما يلحق بهذا الباب قول سالم بن وابصة بن قيس الأسدي -وكان من الطَّبقة الأولى من التابعين الأنجاب -: [من البسيط]
يَا أيَّهَا الْمُتَحَلِّيْ غَيْرَ شِيْمَتِهِ
…
وَمَنْ خَلِيْقَتُهُ الإِفْرَاطُ وَالْمَلَقُ
عَلَيْكَ بِالْقَصْدِ فِيْمَا أَنْتَ قائِلُهُ
…
إِنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِيْ دُوْنَهُ الْخُلُقُ
(1) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (3/ 404).
وَلا يُؤَاتِيْكَ فِيْمَا نَالَ مِنْ حَدَثٍ
…
إِلَاّ أَخُوْ ثِقَةٍ فَانْظُرْ بِمَنْ تَثِقُ
لا تُنْكِرِ الْحَقَّ مَظْلُوْمًا وَلا وَكِلًا
…
فِيْ النَّائِبَاتِ وَلا هَيَّابةٌ فَرِقُ
يَا صاحِ إِنْ تُبْلِ سِرْبَالَ الشَّبَابِ فَلا
…
يَبْقَىْ جَدِيْد عَلَىْ الدُّنْيَا وَلا خَلِقُ
وإنَّمَا النَّاسُ وَالدّنْيَا عَلَىْ سَفَرٍ
…
فَنَاظِرٌ أَجَلاً مِنْهُمْ وَمُنْطَلِقُ (1)
***
(1) ذكر الأبيات الجاحظ في "البيان والتبيين"(ص: 130)، وثعلب في "مجالسه" (ص: 53).