الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
هذا الذي أشرنا إليه من أعمال الصَّالحين وأوصافهم، إنما هو أصول أعمالهم، ومجامع أخلاقهم، وقد أحببت أن أشير إلى جملة صالحة من خصالهم، وشمائلهم، ومجامع أخلاقهم على وجه الإيجاز والتفصيل، دون الإخلال والتطويل؛ آخذًا لذلك، أو لمعظمه من كتاب الشيخ الإمام شيخ الإسلام؛ أبي زكريَّا يحيى بن شرف بن مري النواوي - رحمه الله تعالى، ورضي عنه - المسمى بِـ:"رياض الصالحين"؛ فإنه ذكر فيه معظم آدابهم وأخلاقهم، وقال فيه: وأرجو إن تم هذا الكتاب أن يكون - إن شاء الله تعالى - سائقًا للمعتني به إلى الخيرات، حاجزاً له عن أنواع القبائح والمهلكات (1).
وقال في خطبته - أيضًا -: ولقد أحسن القائل: [من الرمل]
إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا فُطُنًا
…
طَلَّقُوا الدُّنْيِاَ وَخَافُوا الْفِتَنا
(1) انظر: "رياض الصالحين" للإمام النووي (ص: 4).
نَظَرُوْا فِيْها فَلَمَّا عَلِمُوْا
…
أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحًىّ وَطَنا
جَعَلُوْها لُجَّةً وَاتَّخَذُوْا
…
صَالِحَ الأَعْمَالِ فِيْها سُفُنا (1)
ولقد روينا هذا الكتاب، وسائر كتب النووي رحمه الله تعالى عن جماعة، أجَلُّهُم شيخ الإسلام الوالد قال: أنا بها شيخ الإسلام البرهان ابن أبي شريف، عن الشيخ العلامة زين الدين القبابي المصري، عن ابن الخباز، عن النووي بكل كتبه، وكلها عمدة في بابها، لا يستغني طالبُ علمٍ وتقيٌّ عن طِلابِها.
وقد جمعتها في قصيدة لا بأس بإثباتها في هذا المقام، وكان نظمي لها قبل تمام الألف بأكثر من عام، فقلت:[من الوافر]
سَقَىْ قَبْرًا بِهِ سَكَنَ النَّوَاوِيْ
…
حَيَا مُزْنٍ عَنِ الْغُفْرَانِ رَاوِيْ
فَقَدْ نَشَرَ الْعُلُوْمَ لِطالِبِيْها
…
وَأَصْبَحَ وَهْوَ لِلأَفْضالِ طَاوِيْ
(1) انظر: "رياض الصالحين" للإمام النووي (ص: 3). والأبيات للإمام الشافعي، كما في "ديوانه" (ص: 109).
وَكَمْ أَبْدَىْ لَهُمْ تَصْنِيْفَ عِلْمٍ
…
بِهِ قَدْ شادَ رَبْعاً غَيْرَ خَاوِيْ
فَـ (ـروْضَتُهُ) الَّتِيْ زَهُرَتْ بِزَهْرٍ
…
يَفُوْقُ الزَّهْرَ لا لاوٍ وَذَاوِيْ
وَفِيْ (الْمِنْهَاجِ) كَمْ أَبْدَىْ عُلُوْماً
…
وَلِمْ لا وَهْوَ لِلتَّحْقِيْقِ حَاوِيْ
(دَقَائِقُهُ) زَهَتْ وَلَهَا نَظِيْرٌ
…
لِرَوْضَتِهِ رَوَاها كُلُّ رَاوِيْ
وَفِيْ (شَرْحِ الصَّحِيْحِ لِمُسْلِمٍ) كَمْ
…
لِدَاءِ الْجَهْلِ بَيَّنَ مَا يُدَاوِيْ
(كِتَابُ الْمُبْهَمَاتِ) وَ (أَرْبَعُوْهُ) الَّـ
…
ـتِيْ يَأْوِيْ إِلَيْهَا كُلُّ آوِيْ
وَفِي (الأَذْكَارِ) كَمْ مِنْ مُنْجِيَاتٍ
…
لِمُتَّبعِ السَّبِيْلِ مِنَ الْمَهَاوِيْ
وَ (آدَابُ الْفَتَىْ) الْمُفْتِيْ (رِياضٌ)
…
إِلَيْهَا الصَّالِحُوْنَ الْغُرُّ تَاوِيْ
وَفِيْ (الإِرْشادِ) كَمْ أَبْدَىْ رَشَاداً
…
لِمَنْ لِصِنَاعَةِ التَّحْدِيْثِ هَاوِيْ
وَفِيْ (تَقْرِيْبِهِ) كَمْ دَانَ بُعْدٌ
…
وَفِيْ (تَيْسِيْره) لِلْيُسْرِ زَاوِيْ
وَفِيْ (الطَّبَقَاتِ) لِلْفُقَهَاءِ وَافِيْ
…
بِـ (ـتَهْذِيْبٍ) سَمِيْنٍ غَيْرِ ضَاوِيْ
وَ (تَرْجَمَةُ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ) الَّـ
…
ـتِيْ فَاقَتْ سُلافتهَا الْقَهَاوِيْ
وَ (تِبْيَانٌ) لِقَارِئِ ذِكْرِ رَبِّي
…
نَفِيْسٌ جَامعٌ ثُمَّ (الْفَتَاوِيْ)
(مَنَاسِكُ) سِتَّةٌ تَهْدِيْ الْبَرَايَا
…
كَنَجْمِ فَيْ الدَّيَاجِيْ غَيْرِ هَاوِيْ
وَفِيْ (تَحْرِيْرهِ) كَمْ مُشْكِلاتٍ
…
عَلَىْ التَّنْبِيْهِ تُكْشَفُ لِلْمُهَاوِيْ
(ضَوَابِطُ) ثُمَّ (إِمْلاءٌ) و (جُزْءٌ)
…
لِمَنْ هُوَ لاغْتِرَافِ الْمَاءِ نَاوِيْ
وَذَا مَا قَدْ تَكَمَّلَ وَانْتهَىْ مِنْ
…
تَآلِيْفٍ كَرِيْمَاتِ الْمَثَاوِيْ
وَفِيْ (شَرْحِ الْمُهَذَّبِ) حُسْنُ ضَبْطٍ
…
بِهِ عَرَفَ الْوَرَىْ قَدْرَ النَّوَاوِيْ
وَ (مُخْتَصَرٌ) نَفِيْسٌ مِنْهُ أَيْضًا
…
(كِتَابَ خُلاصَةِ الأَحْكامِ) حَاوِيْ
وَألَّفَ بَعْضَ (شَرْح لِلْبُخَارِيْ)
…
وَ (لِلتَّنْبِيْهِ شَرْحاً) غَيْرَ نَاوِيْ
وَبِـ (الْبُسْتَانِ) خَتْمُ السِّرِّ يَحْلُوْ
…
فَخُذْ بِالْعِلْمِ وَاطَّرِحِ الدَّعَاوِيْ
وَإنَّ لَهُ سِوَىْ مَا قَدْ ذَكَرْنَا
…
كَمَا قَدْ قَالَهُ الشَّمْسُ السَّخَاوِيْ
إِلَىْ الْخَمْسِيْنَ قَدْ وَصَلَتْ وَإِنَّا
…
لَنُلفِيْهَاَ كَثِيْرَاتِ الْجَدَاوِيْ
وَنَجْمُ الدّيْنِ نَاظِمُهَا عُقُوْدًا
…
يَفُوْقُ ضِيَاؤُهَا النَّجْمَ السَّمَاوِيْ
وَبَدْرُ الدّيْنِ وَالِدُهُ وَعَنْه
…
رَوَاها وَهْوَ لَيْسَ لَهُ مُسَاوِيْ
عَنِ الْبُرْهَانِ وُهْوَ عَنِ الْقِبَابِيْ
…
تَلَقَّاهَا بِثَبْتٍ وَهْوَ رَاوِيْ
عَنِ الشَّيْخِ ابْنِ خَبَّازِ الْمُزَكَّىْ
…
لَدَىْ الْعُلَمَاءِ عَنْ وَصْمِ الْمَسَاوِيْ
عَنِ الْحَبْرِ الإِمَامِ هُوَ النَّوَاوِيْ
…
جَزَاهُ اللهُ جَناتِ الْمَآوِيْ
وفي تسمية النووي رحمه الله تعالى كتابه المشار إليه "رياض الصَّالحين" إشارة إلى أن الصالحين ترتاح قلوبهم، وتنشرح صدورهم للأعمال الصالحة المذكورة في هذا الكتاب، كما ترتاح القلوب وتنشرح الصدور في الرياض التي هي جمع روض، أو روضة، وهما البستان، وهذا كما شبه النبي صلى الله عليه وسلم حِلَقَ الذكْرِ بالرياض في قوله صلى الله عليه وسلم:"إِذا مَرَرْتُمْ بِرِياضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوْا"، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: "حِلَقُ الذِّكْرِ". رواه الإمام أحمد، والترمذي، والبيهقي في "الشعب" من حديث أنس رضي الله عنه (1).
وينبغي أن نسرح في هذه الرياض، وننتهل من أعذب الحِياض، ونذكر من شمائل الصَّالحين ما تنقاد له النفوس وترتاض، وتحيى به القلوب من الأمراض.
وقبل ذلك نذكر مقدمة لطيفة، وهي:
إن التشبه بالصالحين في هذه الأزمنة يشق على النفوس كثيرًا، فلا ينبغي للعبد أن يدع نفسه انتظاراً لفيئتها إلى الخيرة فمن النفوس الآن لا تكاد تنقاد إلى خير إلا بأعظم أنواع الزجر والتخويف، وأشد ألوان التوبيخ والتعنيف.
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 150)، والترمذي (3510) وحسنه، والبيهقي في "شعب الإيمان"(529).
ومنذ زمان قديم قال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: إن الصَّالحين فيما مضى كانت نفوسهم تواتيهم على الخير عفواً، وإن أنفسنا لا تكاد تواتينا إلا على كرهٍ، فينبغي لنا أن نُكْرِهَهَا. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "محاسبة النفس"(1).
وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] على القول (2) بأن المراد في الآية مجاهدة النفس؛ لأنه أفضل الجهاد؛ أي: والذين جاهدوا أنفسهم في مرضاتنا لنهدينهم سبلنا التي تُوصِل عبادنا الصالحين إلينا؛ فعليك بحمل النفس على أخلاق الصَّالحين وأعمالهم (3).
وقد روى الأستاذ أبو القاسم القيشري رحمه الله في "رسالته" عن إبراهيم بن أدهم - رحمه الله تعالى، ورضي عنه - قال: لن ينال
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس"(ص: 150).
(2)
انظر الأقوال في تفسير الآية في "تفسير القرطبي"(13/ 364).
(3)
قال الإمام ابن القيم في "الفوائد"(ص: 59): علق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكملُ الناس هداية أعظمهم جهادًا، وأفرض الجهاد: جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه، الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد، قال الجنيد: والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة، لنهدينهم سبل الإخلاص، ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنًا، فمن نصر عليها نصر على عدوه، ومن نصرت عليه نصر عليه عدوه.
الرجل درجة الصَّالحين حتى يجوز ست عقبات:
أوله: يغلق باب النعمة، ويفتح باب الشِّدة.
والثاني: يغلق باب العز، ويفتح باب الذُّل.
والثالث: يغلق باب الراحة، ويفتح باب الجهد.
والرابع: يغلق باب النوم، ويفتح باب السهر.
والخامس: يغلق باب الغنى، ويفتح باب الفقر.
والسادس: يغلق باب الأمل، ويفتح باب استعداد الموت (1). انتهى.
ومع هذا لا بد من طلب التوفيق والمعونة من الله تعالى على سلوك طريق الصَّالحين؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5].
وقال شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [هود: 88]؛ أي: وما توفيقي في صلاح نفسي المفهوم من قوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} ، وإلى إصلاح مَنْ سِوَايَ إلا بالله.
وقوله: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ} [هود: 88]؛ أي: لنفسي ولكم، لكن لا يتم لي ذلك إلا بالتوفيق من الله تعالى.
(1) رواه القشيري في "رسالته"(ص: 134).