الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
فهذه جملة صالحة من أخلاق الملائكة عليهم السلام، وأعمالهم، وهي من أخلاق الأنبياء عليهم السلام أيضاً، فينبغي التشبه بهم فيها؛ فإن الطمع في أخلاقهم، واللحاق بهم من شأن العُبَّاد والصَّالحين، ولولا الطمع في الالتحاق بالملائكة عليهم السلام ما أكل آدم وحواء عليهما السلام من الشجرة، كما تقدم بيان ذلك أول الباب.
وقال القاضي ناصر الدين البيضاوي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20]: كان من المعلوم أن الحقائق لا تنقلب، وإنما كانت رغبتهما في أن يحصل لهما - أيضاً - ما للملائكة من الكمالات الفطرية، والاستغناء عن الأطعمة والأشربة (1)، انتهى.
وفي هذا إشارة إلى أن الإنسان قد يترقى في كمال الذات حتى يغلب عليه عالم الروح، ويلتحق بالملائكة.
قال الشيخ أبو النجيب عبد القاهر السُّهْرَوردي رضي الله تعالى
(1) انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 12).
عنه في كتاب "آداب المريدين": وأجمعوا أن العبد ينتقل في الأحوال حتَّى يصير إلى نعت الروحانيين، فتنطوي له الأرض، ويمشي على الماء، ويغيب عن الأبصار.
وقال جدي شيخ الإسلام الرضي الغزي في منظومته المسماة بِـ: "الدرر اللوامع في الأصول": [من الرجز]
وَالْعَبْدُ يَنْتَقِلُ (1) بِالإِحْسانِ
…
إِلَىْ صِفاتِ الْمَلَكِ الرُّوْحَانِي
تُطْوَىْ لَهُ مَسَافَةُ الْبَيْداءِ
…
وَيَعْتَلِيْ فِيْ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ
قلت: ومن الأدلة الواضحة على ذلك تلطف جثمانية النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان لا يرى له في الشمس ظل (2).
روى الحكيم الترمذي عن ذكوان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يرى له ظل في شمس ولا قمر (3).
وقال ابن سبع: من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن ظله كان لا يقع على الأرض، وأنه كان نوراً، وكان إذا مشى في الشمس والقمر لا يظهر له ظل.
(1) كذا في "أ" و"ت".
(2)
ذكر ابن الجوزي في ذلك أثراً عن ابن عباس صلى الله عليه وسلم في "الوفا بأحوال المصطفى"(ص: 412).
(3)
كذا عزاه السيوطي في "الخصائص الكبرى"(1/ 116) إلى الحكيم الترمذي.
قال السيوطي - نقلاً عن بعضهم -: ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: "وَاجْعَلْنِيْ نوْراً"(1)(2)
قلت: الخصيصة به إنما هي عدم ظهور ظله في ضياء الشَّمس ونور القمر، وأما النورانية فقد تكون لغيره من الأنبياء والأولياء، ولقد قال الله تعالى حكاية عن صواحبات يوسف عليه السلام:{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31].
روى الحاكم عن كعب الأحبار: أن يوسف عليه السلام كان إذا تبسَّم رأيت النور في ضواحكه (3).
وروى أبو الشيخ عن إسحاق بن عبد الله قال: كان يوسف عليه السلام إذا سار في أزقة مصر يُرَى تلألؤ وجهه على الجدران كما يرى تلألؤ الماء والشمس على الجدران (4).
وروى هو، وابن أبي حاتم، وآخرون عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كان وجه يوسف عليه السلام مثل البرق، وكانت المرأة إذا أتته لحاجة غطى وجهه مخافة أن تفتتن به (5).
(1) رواه مسلم (763).
(2)
انظر: "الخصائص الكبرى" للسيوطي (1/ 116).
(3)
رواه الحاكم في "المستدرك"(4092).
(4)
وكذا عزاه السيوطي في "الدر المنثور"(4/ 532) إلى أبي الشيخ.
(5)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(7/ 2136)، والطبراني في "المعجم =
يعني: لشدة حيائه وكرمه.
ومن ثَمَّ قال النسوة فيه: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31].
قال القاضي البيضاوي في هذه الآية: كأن الجمع بين الجمال الرائق، والكمال الفائق، والعصمة البالغة من خواص الملائكة (1)، انتهى.
قلت: وصدق القاضي رحمه الله تعالى؛ فلا يكون العبد ملحقاً بالجمال والحسن بالملائكة عليهم السلام إلا إذا كان معصوماً أو محفوظاً، والذي استقرأته في مدة عمري - ولا أعتقد إلا أنه سنة من سنن الله تعالى جارية - أنه ما من جمال حفظه صاحبه، وصانه بالتقوى إلا ازداد بهاؤه وضياؤه كما طعن صاحبه في السن، وما من جمال عرضه صاحبه للتهم فامتهنه الفساق بأبصارهم (2)، وانتهكه الشعراء بأشعارهم (3) إلا عاد قبحاً وإجراماً في الْكِبَر.
وقد شاهدت جماعة من أولياء الله تعالى - في سن الشيخوخة؛ بحيث لو كان غيرهم لأدركه الهرم - يتلألأ في وجوههم أنوار التقوى
= الكبير" (8557)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (4/ 532) إلى أبي الشيخ.
(1)
انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 286).
(2)
في "أ": "بأبصارها".
(3)
في "أ": "بأشعارها".
والصيانة، وكمال الخلقة والخليقة حتى لا تكاد الأبصار تروى من النظر إلى جمالهم؛ منهم شيخ الإسلام الوالد رضي الله تعالى عنه، ولم تر عيناي مثله جلالاً وجمالاً في عالم الحسن، ولعلي لا أنفرد بهذا الاعتقاد عن سائر من شاهد الشيخ رضي الله تعالى عنه، ولقد كان بالصفة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البيهقي في "الشعب" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ آتاهُ اللهُ وَجْهاً حَسَناً، وَاسْماً حَسَناً، وَجَعَلَهُ اللهُ فِيْ مَوْضعٍ غَيْرِ شائِنٍ، فَهُوَ مِنْ صَفْوَةِ اللهِ مِنْ خَلْقِهِ".
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: قال الشاعر: [من الخفيف](1)
أَنْتَ شَرَطُ النَّبِيِّ إِذْ قالَ يَوْماً
…
اطْلُبُوْا الْخَيْرَ مِنْ حِسَانِ الْوُجُوْهِ
وروى أبو نعيم في "الحلية" عن عون بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: من كان ذا صورة حسنة في موضع لا يشينه، ووسع عليه
(1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(3543) وضعفه، والطبراني في "المعجم الأوسط"(4506)، وذكره ابن القيم في "المنار المنيف في الصحيح والضعيف" (ص: 62) كمثال للأحاديث التي لا تشبه كلام الأنبياء، والتي تدل على وضعه، ثم قال: وكل حديث فيه ذكر حسان الوجوه، أو الثناء عليهم، أو الأمر بالنظر إليهم، أو التماس الحوائج منهم، أو أن النار لا تمسهم، فكذب مختلق، وإفك مفترى.
رزقه، ثم تواضع لله، كان من خالصة الله عز وجل (1).
وقال الحافظ أبو الفضل بن حجر العسقلاني في معناه: [من السريع]
مَنْ كانَ ذَا حُسْنٍ وَذا حَسَبٍ
…
زَاكٍ وَوُسِّعَ رِزْقُهُ وَغَدَا
مُتَوَاضِعاً لِلَّهِ فَهُوَ إِذَنْ
…
مِنْ خَالِصِ الرَّبِّ الرَّحِيْمِ غَدَا
وقلت في ذلك: [من البسيط]
مَنْ وَسَّعَ اللهُ فِيْ أَرْزاقِهِ وَلَهُ
…
فِيْ غَيْرِ مَوْضعِ شَيْنٍ صُوْرَةٌ حَسَنَة
وَقَدْ تَوَاضَعَ فَهْوَ مِنْ خُلاصَةِ خَلـ
…
ـقِ اللهِ حَيْثُ تَرَاهُ جاءَ بِالْحَسَنَة
وقد صار في غاية القلة مَنِ اتصفَ بهذه الخلة، بل يكاد أن يكون معدوماً مَنْ كان بهذه الصفة موسوماً.
ومنذ زمان ومدد قال الحارث بن أسد - وقد روى عنه هذه المقالة
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 250)، وكذلك رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34964)، وابن أبي الدنيا في "التواضع والخمول" (ص: 114).
جماعة؛ منهم القشيري في "الرسالة" -: فقدنا ثلاثة أشياء: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن القول مع الأمانة، وحسن الإخاء مع الوفاء (1).
ومن الأدلة على أن المرء قد يترقى في الصفاء والنورانية بالتقوى حتى يلتحق بالملائكة: ما رواه الترمذي، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة (2) رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"رَأَيْتُ جَعْفَرَ بْنَ أِبيْ طالِب مَلَكاً يَطِيْرُ فِيْ الْجَنَّةِ بِجَناحَيْنِ"(3).
وروى الطبراني بسندين - أحدهما حسن - عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ جَعْفَرَ بْنَ أَبِيْ طالبٍ صلى الله عليه وسلم مَلَكاً يَطِيْرُ فِيْ الْجَنَّةِ ذَا جَناحَيْنِ، يَطِيْرُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ مَقْصُوْصَةً قَوادِمُهُ بِالدِّماءِ"(4).
(1) رواه القشيري في "الرسالة"(ص: 276)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(8/ 212).
(2)
في "أ" و"ت": "عن جابر"، والمثبت من مصادر التخريج.
(3)
رواه الترمذي (3763)، والحاكم في "المستدرك"(4935)، وقال الترمذي: هذا حديث غريب من حديث أبي هريرة، لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن جعفر، وقد ضعفه يحيى بن معين وغيره، وعبد الله بن جعفر هو والد علي ابن المديني، وفي الباب عن ابن عباس.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(7/ 76): في إسناده ضعف، لكن له شاهد من حديث علي عند ابن سعد.
(4)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(1466)، و (1467). قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 206): رواه الطبراني بإسنادين أحدهما حسن.
وفي هذا الباب أحاديث أخر.
وما أخبر به صلى الله عليه وسلم عن جعفر - وإن كان ذلك بعد موته، وهو رضي الله تعالى عنه في البرزخ - فإن حال العبد في البرزخ مرتبةٌ على حاله في الدُّنيا، وقد كان جعفر في حياته كأنه ملك كريم، ولذلك أثَّرَتْ قراءته لسورة مريم بين يدي النجاشي في النجاشي، ومن عنده من الأساقفة والقسيسين حتى فاضت أعينهم من الدمع مما عرفوا من الحق (1) - وإن كان القرآن في نفسه كافياً في تأثير القلوب التي سبقت لها السعادة - فإن صدق المؤدي وتقواه مما يزيد في تأثيرها، ورُبَّ قاسي قلب لا يتأثر من سماع القرآن عمره حتى إذا سمعه من صادق تقيٍّ دُكَّتْ جبالُ نفسه وهواه لما تجلى في قلبه من كلام مولاه، فلعل جعفراً رضي الله تعالى عنه كان يشاهده الصادقون كما شاهد النسوة يوسف عليه السلام؛ فإنَّ من كان في مثل هذه الحالة لا يخفى في الغالب عن بصائر الصَّادقين.
كما روى أبو نعيم في "الحلية" عن كثير بن الوليد قال: كنت إذا رأيت ابن شَوذب ذكرت الملائكة عليهم السلام (2).
وروى ابن السمعاني في "أماليه" عن الإمام أبي الفتح ناصر بن الحسين العمري قال: لم يكن في زمان أبي بكر القفال أفقه منه،
(1) انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (2/ 180).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 131)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(29/ 170).
ولا يكون بعده مثله، وكنا نقول: إنه ملك في سورة إنسان (1).
وفي قوله: ولا يكون بعده مثله، نظر.
وقد يكون للمؤمن حالة يلتحق فيها بالملائكة عليهم السلام كان لم يكن معصوماً ولا محفوظاً، وهي حالة الضعف والافتقار إلى الله تعالى من مرض أو فقر أو جوع أو غلبة عدو أو انقطاع بمضيعة؛ فإنه حينئذ يرق قلبه، ويقرب من ربه ما لا يتفق له في حال القوة والاستغناء باعتبار ما يتوكله العبد - وإن كان افتقاره لازماً باعتبار الحقيقة - ولذلك كانت دعوة المسافر والصائم والمريض والمضطر مستجابة كما نطق بذلك الأحاديث الشريفة.
وروى ابن ماجه عن عمر رضي الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا دَخَلْتَ عَلَىْ مَرِيْضٍ فَمُرْهُ يَدْعُوْ لَكَ؛ فَإِنَّ دُعاءَهُ كَدُعاءِ الْمَلائِكَة"(2).
(1) ذكره ابن الصلاح في "طبقات الفقهاء الشافعية"(1/ 499).
(2)
رواه ابن ماجه (1441)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص: 508). قال النووي في "خلاصة الأحكام"(2/ 915): منقطع، ولد ميمون بعد وفاة عمر بنحو ثمان عشرة سنة.