الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
واعلم أن من تشبه بقوم فإنه تارة يكون منهم حقيقة كمن تشبه بالصالحين في أعمال الصلاح الآتية؛ فإنه يكون منهم حقيقة، وإن تأخر عنهم زمانًا.
وعلى هذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 74، 75].
فجمع بين المهاجرين والأنصار وبين تابعيهم بإحسان فيما وعدهم به من الرضوان والخلود في الجنان وإن تفاوتت مراتبهم باعتبار زيادة الإيمان، وقوة اليقين، والترقي في مدارج الرضا عن الله تعالى.
وهذا لا ينافي ما نطق به الكتاب والسنة من تقديم الصحابة على من
بعدهم؛ أي: من حيث عموم الطبقة، لا من حيث خصوص الأشخاص كما اختاره ابن عبد البر من أنه لا مانع من أنه يكون في التابعين والمتأخرين من هو أفضل من بعض الصحابة الذين هم ليسوا من أفاضلهم (1).
ونقل القرطبي في "تفسيره": أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ: {وَالْأَنْصَارُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ} ، برفع (الأنصار)، وإسقاط الواو من (الذين) على أنه نعت للأنصار، فراجعه زيد بن ثابت رضي الله عنه، فسأل عمر أُبَيَّ بن كعب رضي الله تعالى عنه فصدق زيدًا، فرجع إليه عمر، وقال: لقد كنا نرى أنا رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد، وفي رواية: كنت أظن أنا رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد، فقال أُبي رضي الله تعالى عنه: إني أجد مصداق ذلك في كتاب الله تعالى في أول سورة الجمعة: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3]، وفي سورة الحشر:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]، وفي سورة الأنفال:{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 75](2).
نعم، للصحابة رضي الله تعالى عنهم فضل اللُّقِيِّ والاجتماع بالنبي صلى الله عليه وسلم، فمن تشبه بهم من بعدهم فإنما يكون منهم من حيث إنهم
(1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (20/ 251).
(2)
انظر: "تفسير القرطبي"(8/ 238)، وقد روى الطبري نحوه في "التفسير"(8/ 238).
صالحون وشهداء وصدِّيقون، لا من حيث إنهم صحابة؛ لأنه لم يتشبه بهم في نفس الصُّحبة، وبذلك يتضح لك أن من تشبه بقوم في خصلة من خصالهم دون خصلة: أنه لا يكون منهم من كل وجه، وإنما يكون منهم من حيث الخصلة التي شاركهم فيها.
وتارة لا يكون المتشبه بقوم منهم حقيقة، وإنما يكون منهم بمعنى معهم، أو من أوليائهم، كما في الحديث:"مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِيْ فَلَيْسَ مِنِّيْ"(1)؛ أي؛ من أوليائي.
وفي الحديث أيضًا: "سَلْمانُ مِنَّا آلَ الْبَيْتِ"(2)؛ أي: من أوليائنا. وكذلك قول طالوت: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249].
فالمتشبه بالأنبياء منهم بمعنى أنه يحشر معهم، أو يكون من أوليائهم، لا على معنى أنه منهم حقيقة فيكون نبيًا؛ فإن النبوة موهبة لا تدخل تحت الاختيار، ولأنها الآن خُتمت بالنبي صلى الله عليه وسلم.
أو نقول (3): المتشبه بالأنبياء عليهم السلام إنما يتشبه بهم في الأعمال والأخلاق، فهو منهم من حيث إنهم صالحون وصديقون ومتقون ومحسنون إلى نحو ذلك، لا من حيث إنهم أنبياء.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(6040)، والحاكم في "المستدرك"(6541).
(3)
في "أ": "يقول".
وكذلك المتشبه بالملائكة عليهم السلام فهو منهم؛ أي: في منزلتهم، أو من أوليائهم؛ لأن الملائكة يتولَّون أمر المؤمنين المستقيمين في الدنيا والآخرة بنص القرآن، والمتشبه بالملائكة ملحق بهم في التجرُّد عن الشهوة، أو في الأمن من غوائلها، أو في القربة من الله تعالى، أو نحو ذلك.
فلما كانت النبوة والصحبة والملكية مما لا يمكن الإنسان التوصل إليه مطلقًا في الملكية، وفي هذه الأزمنة في النبوة، والصحبة بالنبي صلى الله عليه وسلم انقطعت بانتقاله إلى الدار الآخرة، لم يحرم الله الإنسان من الحشر مع هؤلاء، واللحاق بهم، فجعل التشبه بهم طريقًا لإلحاقهم بهم، وحشرهم معهم:{فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة: 265].
وروى أبو الحسن علي بن عبد الله بن الحسن بن جهضم الهمداني في "بهجة الأسرار" عن محمَّد بن حسان قال: شهدت فُضيل بن عِياض رحمه الله تعالى وجلس إليه سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى فتكلم الفضيل بكلام، وقال فيما تكلم: كنتم معشرَ العلماء سُرُجَ البلاد يُستضاء بكم، فصرتم ظلمة، وكنتم نجوماً يهتدى بكم، فصرتم حيرة، ثم لا يستحيي أحدكم يأخذ من مال هؤلاء، وقد علم من أين هو حتى يسند ظهره ويقول: حدثني فلان عن فلان، وحدثنا فلان عن فلان، فرفع سفيان رأسه -وكان مطأطئًا- فقال: هاه هاه! والله لئن كنا لسنا بصالحين فإنا نحب الصالحين، قال: وسكت الفضيل، فطلب إليه سفيان، فحدثنا بثلاثين حديثاً.
فتأمل! فإن الفضيل لم ينكر على ابن عيينة تعلقه بمحبة الصالحين على فرض أنه لم يكن منهم، ولقد قيل:[من الوافر]
أُجِلُّ الصَّالِحِيْنَ وَلَسْتُ مِنْهُمْ
…
لَعَلِّيْ أَنْ أَنَالَ بِهِمْ شَفَاعَةْ
وَأَكْرَهُ مَنْ بِضَاعَتُهُ الْمَعَاصِي
…
وإنْ يَكُ لِيْ شَرِيْكا فِيْ الْبِضَاعَةْ
وحدثني شيخنا الإِمام العلامة محب الدين الحنفي -فسح الله في مدته-: أن شيخه العلامة العارف بالله سيدي أبا الوفاء ابن الشيخ العارف بالله سيدي علوان الحموي رضي الله تعالى عنهما كان كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت: [من الكامل]
إِنْ لَمْ تَكُوْنُوْا مِثْلَهُمْ فَتَشَبَّهُوْا
…
إِنَّ التَّشَبهَ بِالْكِرَامِ فَلاحُ
وهذا البيت من قصيدة مشهورة للسُّهروردي المقتول بحلب المعروف بالشاب الظريف، وهي:[من الكامل]
أَبَداً تَحِنُّ إِلَيْكُمُ الأَرْوَاحُ
…
وَوِصَالُكُمْ رَيْحَانها وَالرَّاحُ
وَقُلُوْبُ أَهْلِ وِدَادِكُمْ تَشْتَاقُكُمْ
…
وَإِلَىْ لَذِيْذِ لِقَاكُمُ تَرْتَاحُ
وَارَحْمَتَا لِلْعَاشِقِيْنَ تَكَلَّفُوْا
…
سُنَنَ الْمَحَبَّةِ وَالْهَوَىْ فَضَّاحُ
بِالسِّرِّ إِنْ بَاحُوْا تُبَاحُ دِمُاؤُهُمْ
…
وَكَذَا دِمَاءُ الْبَائِحِيْنَ تُبَاحُ
فَإِذَا هُمُ كَتَمُوْا تَحَدَّثَ عَنْهُمُ
…
عِنْدَ الْوُشَاةِ الْمَدْمَعُ السَّحَّاحُ
وَكَذَا شَوَاهِدُ لِلسِّقَامِ عَلَيْهِمُ
…
فِيْهَا لِمُشْكِلِ أَمْرِهِمْ إِيْضَاحُ
خُفِضَ الْجَنَاحُ لَكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمُ
…
لِلصَّبِّ فِيْ خَفْضِ الْجَناح جُنَاحُ
فَإِلَىْ لِقَاكُمْ نَفْسُهُ مُرْتَاحَةٌ
…
وإلَىْ رِضَاكُمْ طَرْفُهُ طَمَّاحُ
عُوْدُوْا بِنُوْرِ الْوَصْلِ مِنْ غَسَقِ الْجَفَا
…
فَالْهَجْرُ لَيْلٌ وَالْوِصَالُ صَبَاحُ
صَافاهُمُ فَصَفَوْا لَهُ فَقُلُوْبُهُمْ
…
فِيْ نُوْرِهَا الْمِشْكَاةُ وَالْمِصْبَاحُ
وَتَمَتَّعُوْا فَالْوَقْتُ طابَ بِقُرْبِكُمْ
…
راقَ الشَّرَابُ وَرَاقَتِ الأَقْدَاحُ
يا صاحِ لَيْسَ عَلى الْمُحِبِّ مَلامَةٌ
…
إِنْ لاحَ فِيْ أُفْقِ الْوِصالِ صَبَاحُ
لا ذَنْبَ لِلْعُشَّاقِ إِنْ غَلَبَ الْهَوَىْ
…
كِتْمَانهمْ فَنَمَى الْغَرَامُ وَباحُوا
سَمَحُوْا بِأَنْفُسِهِمْ وَما بَخِلُوا بِها
…
لَمَّا درَوْا أَنَّ السَّمَاحَ رَباحُ
وَدَعاهُمُ داعِيْ الْحَقائِقِ دَعْوَةً
…
فَغَدَوْا بِها مُسْتَأْنِسِيْن وَراحُوا
رَكِبُوا عَلى سُفُنِ الدُّجَى فَدُمُوْعُهُمْ
…
بَحْرٌ وَشِدَّةُ شَوْقِهِمْ مَلَاّحُ
وَاللهِ ما طَلَبُوا الْوُقُوْفَ بِبابِه
…
حَتَّى دُعُوْا وَأتاهُمُ الْمِفْتاحُ
لا يَطْرَبُوْنَ لِغَيْرِ ذِكْرِ حَبِيْبِهِمْ
…
أَبَداَ فَكُل زَمَانِهِمْ أَفْراحُ
حَضَرُوا وَقَدْ غابَتْ شَواهِدُ ذَاتِهِمْ
…
فَتَهَتَّكُوْا لَمَّا رَأَوْهُ وَصاحُوْا
فَتَشَبَّهُوْا إِنْ لَمْ تَكُوْنُوا مِثْلَهُمْ
…
إِنَّ التَّشَبهَ بِالْكِرامِ فَلاحُ
قُمْ يا نَدِيْمُ إِلَى الْمُدامِ فَهاتِها
…
فِيْ كَأْسِها قَدْ دارَتِ الأَقْداحُ
مِنْ كَرْمِ إِكْرام بِدَنِّ دِيانَةٍ
…
لا خَمْرَةٍ قَدْ داسَها الْفَلَاّحُ (1)
***
(1) انظر: "معجم الأدباء" لياقوت الحموي (5/ 614)، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان (6/ 271).