المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌[الخطبة] الحمد لله على كل حال، كما يستوعب - الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم - جـ ١

[العصام الأسفراييني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المحقق

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌متن كتاب التّلخيص في علوم البلاغة وهو تلخيص كتاب «مفتاح العلوم» للسّكاكيّ

- ‌كلمة الافتتاح

- ‌مقدّمة فى بيان معنى الفصاحة، والبلاغة

- ‌الفنّ الأوّل علم المعاني

- ‌تنبيه (1/ 213) صدق الخبر: مطابقته للواقع، وكذبه: عدمها

- ‌أحوال الإسناد الخبريّ

- ‌إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر

- ‌أحوال المسند إليه

- ‌أولا: حذف المسند إليه، وذكره

- ‌ثانيا: تعريف المسند إليه، وتنكيره

- ‌[أتعريفه]

- ‌تعريف المسند إليه بالعلمية:

- ‌تعريف المسند إليه بالموصليّة:

- ‌تعريف المسند إليه بالإشارة:

- ‌تعريف المسند إليه باللام:

- ‌تعريف المسند إليه بالإضافة:

- ‌ب- تنكير المسند إليه

- ‌ثالثا: إتباع المسند إليه، وعدمه

- ‌وصف المسند إليه:

- ‌توكيد المسند إليه:

- ‌بيان المسند إليه:

- ‌الإبدال من المسند اليه:

- ‌العطف على المسند إليه:

- ‌رابعا:‌‌ تقديم المسند إليه، وتأخيره:

- ‌ تقديم المسند إليه

- ‌رأى عبد القاهر:

- ‌رأى السكاكى:

- ‌تأخير المسند إليه:

- ‌إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر:

- ‌أحوال المسند

- ‌ترك المسند اليه:

- ‌ذكر المسند إليه:

- ‌وأما تنكيره:

- ‌وأما تخصيصه بالإضافة أو الوصف:

- ‌وأما تركه:

- ‌وأما تعريفه:

- ‌وأما كونه جملة:

- ‌وأما تأخيره:

- ‌وأما تقديمه:

- ‌تنبيه

- ‌أحوال متعلّقات الفعل

- ‌القصر

- ‌[طرق القصر]

- ‌منها: العطف

- ‌ومنها: النفى والاستثناء

- ‌ومنها: إنّما

- ‌ومنها: التقديم

- ‌الإنشاء

- ‌منها التمنّي

- ‌ومنها: الاستفهام

- ‌ومنها: الأمر

- ‌ومنها: النهي

- ‌[ومنها: العرض]

- ‌ومنها: النداء

- ‌الفضل والوصل

- ‌الإيجاز والإطناب والمساواة

- ‌(المساواة)

- ‌(الإيجاز)

- ‌(الإطناب)

- ‌الفنّ الثاني علم البيان

- ‌ التشبيه

- ‌ طرفاه

- ‌ ووجهه

- ‌أركان التشبيه

- ‌(الغرض من التشبيه)

- ‌خاتمة

- ‌الحقيقة والمجاز

- ‌ الاستعارة

- ‌المجاز المرسل

- ‌المجاز المركّب

- ‌فصل (2/ 305) عرّف السكاكى الحقيقة اللغوية بالكلمة المستعملة فيما وضعت له، من غير تأويل فى الوضع

- ‌فصل (2/ 332) حسن كل من التحقيقيّة والتمثيل

- ‌فصل (2/ 336) وقد يطلق المجاز على كلمة تغيّر حكم إعرابها

- ‌(الكناية)

- ‌فصل (2/ 360) أطبق البلغاء على أنّ المجاز والكناية أبلغ من الحقيقة والتصريح

- ‌الفنّ الثالث علم البديع

- ‌ المطابقة

- ‌المحسّنات المعنويّة

- ‌المقابلة

- ‌مراعاة النظير

- ‌الإرصاد

- ‌المشاكلة

- ‌المزاوجة

- ‌العكس

- ‌الرجوع

- ‌التورية

- ‌الاستخدام

- ‌اللف والنشر

- ‌الجمع

- ‌التفريق

- ‌التقسيم

- ‌الجمع مع التفريق

- ‌الجمع مع التقسيم

- ‌الجمع مع التفريق والتقسيم

- ‌التجريد

- ‌المبالغة

- ‌المذهب الكلامي

- ‌حسن التعليل

- ‌التفريع

- ‌تأكيد المدح بما يشبه الذم

- ‌تأكيد الذم بما يشبه المدح

- ‌الاستتباع

- ‌الإدماج

- ‌التوجيه

- ‌الهزل يراد به الجد

- ‌تجاهل العارف

- ‌القول بالموجب

- ‌الاطراد

- ‌المحسنات اللفظية

- ‌رد العجز على الصدر

- ‌السجع

- ‌الموازنة

- ‌القلب

- ‌التشريع

- ‌لزوم ما لا يلزم

- ‌خاتمة: فى السّرقات الشّعريّة، وما يتّصل بها، وغير ذلك

- ‌ الاقتباس

- ‌التضمين

- ‌العقد

- ‌الحلّ

- ‌التلميح

- ‌فصل (2/ 523) ينبغى للمتكلّم أن يتأنّق فى ثلاثة مواضع من كلامه

- ‌[الخطبة]

- ‌[تسمية الكتاب]

- ‌[مقدمة]

- ‌[(الفصاحة)]

- ‌[والبلاغة]

- ‌[فالتنافر]

- ‌[والغرابة]

- ‌[والمخالفة]

- ‌[قيل ومن الكراهة في السمع]

- ‌[وفي الكلام خلوصه]

- ‌[أما في النظم]

- ‌[وأما في الانتقال]

- ‌[قيل ومن كثرة التكرار]

- ‌[وفي المتكلم ملكة يقتدر بها]

- ‌[والبلاغة في الكلام]

- ‌[فمقتضى الحال]

- ‌[ولها طرفان: ]

- ‌[وأن البلاغة مرجعها إلى الاحتراز]

- ‌(الفن الأول: علم المعاني)

- ‌[صدق الخبر]

- ‌(أحوال الإسناد الخبري)

- ‌[وقد ينزل العالم بهما منزلة الجاهل]

- ‌[ثم الإسناد منه حقيقة عقلية]

- ‌[ومنه مجاز عقلي]

- ‌[وأقسامه أربعة]

- ‌(أحوال المسند إليه)

- ‌[أما حذفه فللاحتراز عن العبث]

- ‌[وأما ذكره فلكونه إلخ]

- ‌[وأما تعريفه]

- ‌[فبالإضمار 291

- ‌[وأصل الخطاب]

- ‌[وبالعلمية]

- ‌[وبالموصولية]

- ‌[وبالإشارة]

- ‌[وباللام]

- ‌[وقد يفيد الاستغراق]

- ‌[وبالإضافة]

- ‌[وأما تنكيره]

- ‌[وأما وصفه]

- ‌[وأما توكيده]

- ‌[وأما بيانه]

- ‌[وأما الإبدال منه]

- ‌[وأما العطف]

- ‌[وأما الفصل]

- ‌[وأما تقديمه]

- ‌[وإن بنى الفعل على منكر]

- ‌[ومما نرى تقديمه كاللازم]

- ‌[مبحث كلمة كل]

- ‌[وأما تأخيره فلاقتضاء المقام]

- ‌[ويسمى هذا النقل عند علماء المعاني التفاتا]

- ‌[أحوال المسند أما تركه فلما مر]

- ‌[وأما ذكره فلما مر]

- ‌[وأما إفراده فلكونه غير سبب]

- ‌[وأما كونه فعلا فللتقييد بأحد الأزمنة الثلاثة]

- ‌[وأما كونه اسما فلإفادة عدمهما]

- ‌[وأما تقييد الفعل بمفعول ونحوه وأما تركه فللمانع منهما]

- ‌[وأما تقييده بالشرط]

- ‌[وأما تنكيره فلإرادة عدم الحاصر والعهد]

- ‌[وأما تخصيصه بالإضافة أو الوصف فلكون الفائدة أتم]

- ‌[وأما تعريفه فلإفادة السامع حكما]

- ‌(أحوال متعلقات الفعل)

- ‌[الحذف وأغراضه]

- ‌[أنواع القصر]

- ‌[شروط قصر الموصوف على الصفة]

- ‌(الإنشاء)

- ‌[أنواعه]

- ‌[من أنواع الطلب]

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌[الخطبة] الحمد لله على كل حال، كما يستوعب

بسم الله الرحمن الرحيم

[الخطبة]

الحمد لله على كل حال، كما يستوعب مزايا الإفضال، ويستجلب خواص الإقبال، ويتسبب بالافتتاح به ختم كل أمر ذي بال، والشكر لمنشئ النعم المنزه عن المثال، على حسب ما يقتضيه شواهد النوال، والصلاة والسّلام على من بيده مفتاح الجنان ومصباح الجنان (1)، وكشف طرق الحق بأوضح بيان، اللسن الذي بلسانه تلخيص خير الأديان، وببيانه إيضاح أفضل ملل الإنسان، محمد المبعوث من أشرف قبائل بني عدنان وعلى آله وأصحابه الذين كان الدنيا عندهم أخصر من كل مختصر، وكانوا ما كانوا فيها غرباء بل كالمحتضر، فوصلوا بالفصل عن لذاتها إلى عيشة أبدية أطيب، وفازوا بكمال الانقطاع عنها لكمال الاتصال (2) إلى حياة سرمدية أعذب، اللهم اجعل أوجز صلاة عليهم أطول من كل مطنب، واجعلهم في قلوب المؤمنين محبوبين لا يساوي حبهم حب كل أحب.

(وبعد) فيقول المفتقر إلى الله الغني، إبراهيم بن محمد بن عربشاه الإسفراييني، إن أفضل ما يتمسك به في تحصيل الكمال، وأمثل ما يتوسل به إلى نيل خير الآمال، وأعز ما يعتصم به للترقي إلى ذروة الجلال، قول على آل النبي خير آل: لا تنظر إلى من قال، وانظر إلى ما قال، وكيف لا وهو قاطع ربقة التقليد، الذي ابتلى صاحبه بأضيق تقييد، وبعد عن الحق الصريح غاية التبعيد، ولولا التقليد لما حرم عن معرفة الحق واحد من الجاهلين، ولما سمع منهم ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، من شاء ربه أن يكون العالم المتقن، وفقه بفقه الحكمة ضالة المؤمن، وجعله ملتزما أن يأخذ ما صفا ويدع ما كدر، ولا يفرق في مقام الانتفاع بين البحر والجدول والنّهر، وعرفه أن الخطأ من لوازم البشر، وأنه لا يكون بغير الوحي في مقعد محض الصدق ومستقر.

(1) بين الجنان والجنان جناس، والأولى جمع جنة، والثانية القلب.

(2)

اشتملت هذه المقدمة على جملة من مصطلحات علوم البلاغة وكتبها كالمفتاح والمصباح والتلخيص والإيضاح والبيان، وكمال الانقطاع وكمال الاتصال، وكانت هذه عادة المصنفين آنذاك إبرازا للبراعة في تلك الصناعة وذلك الفن.

ص: 133

ولا أظنك مرتابا في الصبح إن كنت بصيرا، عارفا بكريمه لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، الحمد لله الذي هدانا لهذا في عنفوان أواني حتى ما رضيت بالتقليد أحدا، وما قنعت إلا بالتحقيق معتمدا؛ إلى أن جنيت من هذه الجنة ما جنيت، فلجمع كثير منه في شرح التلخيص هذا سعيت، وبأوضح تقرير وأملح تحرير أمليت، ولسالكي مناهج الحق بعين التحقيق أهديت، ولم أخف أن أشرح كتابا قد صرفت غاية همته في شرح كل باب فيه من الأبواب، جم غفير من فحول أصحاب العقول، وقوم عظيم من عظماء أرباب الألباب، سيما العالم الرباني، أستاذ الفضلاء العلامة التفتازاني (1)، والمحقق الحقاني، قدوة العلماء الشريف الجرجاني (2)، روّح الله روحهما، ورزقنا غبوقهما وصبوحهما؛ كيف وقبض الصمد، لا يحيط به قبض أحد، وليس له حد، ولا يعرف له أمد؛ ولذلك ترى معي من بعدهم من مواهبه في هذا الكتاب ما يكاد يتحير فيه نواظر بصائر أرباب الذكاء؛ حيث زاد أي زيادة على ما امتلأ به أنهار المتأخرين وأجلة القدماء، فجاء بحمد الله تعالى عقدا مشتملا على فرائد اللآلى، لكل لفظ منه لفظ درر المعاني الغوالي، في أردان أذهان أذكياء الفضلاء الأعالي، وفي كل حرف منه للقلب العالي فرح في اصطياد أصناف المعالي، وكل نقطة منه لقطة نفيسة لأرباب الهمم العوالي، ظواهره مظاهر أزهار التحقيق، وبواطنه مواطن إثمار التدقيق، فلا غرو أن تجهد في اكتسابها بفكر عميق. يا ناظرا إلى قلة بضاعتي، وقصور باعتي؛ لا تكن مستبعدا لهذا النشو والنماء، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فنسأل (3) من الله أن يجعله معينا للطلبة في فهم دقائق كتابه، وظهيرا للأجلة في علم حقائق خطابه، وذخرا لهذا العاجز الذليل، يوم لا ينفع مال ولا بنون، وعملا مبرورا له أجر غير ممنون، إنه المنعم لكافة البرايا بعامة

(1) التفتازاني هو: مسعود بن عمر بن عبد الله بن مسعود التفتازاني، العالم بالعلوم العربية والكلام والأصول والمنطق، وكان في لسانه حبسة، ولد بتفتازان بلدة بخرسان في صفر سنة 722 هـ وتوفي بسمرقند سنة 792 هـ.

(2)

الشريف الجرجاني: هو علي بن محمد بن علي المعروف بالسيد الشريف والسيد السند والسيد الجرجاني ولد بجرجان في شعبان سنة 704 هـ وتوفي في ربيع الثاني سنة 816 هـ.

(3)

ضمن نسأل معنى نطلب، فلذا عدّاها بمن.

ص: 134

العطايا، وخاصة الصفايا.

(قال) المصنف- رحمه الله: (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله) الحمد: هو الثناء على الجميل الصادر بالاختيار على ما له الاشتهار، أو الصادر عن المختار، نعمة كانت أو غيرها، والشكر هو الإتيان بما يفيد التعظيم على النعمة، سواء كان ثناء أو غيره، فبينهما عموم من وجه؛ حيث يجتمعان في ثناء للنعمة، ويفارق الأول الثاني في ثناء على الفضيلة، ويفارقه الثاني فيما سوى الثناء مما يفعل بالأركان والجنان؛ لإفادة التعظيم للمنان. إذا تمهّد هذا فنقول: افتتح كتابه هذا بالبسملة التي الافتتاح بها أجل افتتاح باسم الله المتعال، ثم بالحمد البالغ أعلى درجات الكمال، من القول الدال على أنه تعالى مالك لجميع المحامد بالاستقلال، فحمد غيره كالعارية على نحو موجباته من الفضائل والأفضال، إذ الكل منه وإليه، وليس لغيره إلا مظهرية لما بين يديه؛ اقتداء بالكلام المجيد للعلام الحميد، وهربا عما جاء به السنة المشهورة لتاركهما من الوعيد، وأداء لحق شيء من النعم التي يذكرها هذا المختصر استبقاء للعتيد، واستيفاء للمزيد.

واختار قوله الحمد لله موافقا للمنزل على قوله: الشكر لله، برب الناس (1)؛ تحسينا للبيان ببديع الاقتباس، وتبيينا لاختصاصهما؛ إذ اختصاص الحمد لاختصاص موجبه يوجب اختصاص الشكر من غير الانعكاس، واختاره على المدح تنبيها على أنه تعالى هو الفاعل المختار على ما عليه أرباب الملل الأخيار، ولا يشكل الحمد على صفاته تعالى لأنها مستندة إلى المختار، وأن ليست بالاختيار، أو منزلة منزلة الاختياري؛ لاستقلال الذات فيها من غير مدخلية شيء من الأغيار، ونصب الكتابة علامة على افتتاحة باقية على مديد من صفحة الدهر الغير (2) المتناهي، إذ التيمن باسم الله، والافتتاح بحمده أجل منقبة بها الرجل يباهي، وبأجلة أئمة الدين واليقين يضاهي، ومع كون تلك الكتابة تلك العلامة على الحمد الحميد، شكر عظيم لا يخفى على شاكر رشيد؛ لأنه فعل ينبئ عن تعظيم المنعم، وتمجيد الكريم الملهم، وجعلهما جزءا من

(1) كذا بالأصل.

(2)

كذا وردت في الأصل «الغير» بإضافة «أل» وهى كثيرة في لغة المصنف.

ص: 135

الكتاب، الذي هو العبارات المفيدة للمقاصد المكتوبة بين الدفتين، على ما هو المختار، أو هو نقوش الكتابة على احتمال ما، إتماما للاقتداء بالكلام، وإيماء للذكي الفهام، إن الحمد والبسملة أيضا كسائر ما بين الدفتين، في إيجاب الحمد، فيعجز كل ذي منة عن أداء محامده، بل شمّة، ولا يريبك فيّ ما ألفيت مما ألقيت عليك أنه مبني على جعل اللام في الحمد لام الاستغراق، وقد جعله العلامة الزمخشري (1) علامة تعريف الجنس ولا يوثق به؛ لأنه صرح بأن في هذا النظم دلالة على اختصاص الحمد به تعالى، فهو لا يتحاشى عن إفادة الاختصاص وإن يتحاش، فبناء على قاعدة الاعتزال من أن العباد هم الخالقون لأفعالهم؛ فالحمد على أفعالهم ليس حمدا له تعالى، ونحن- معاشر أهل السنة- ونخالفهم بناء على أن لا مؤثر إلا الله (2)، فالمحامد ترجع إليه ولا تتعلق في الحقيقة بما سواه، على أنه قيل: إنما جعل التعريف للجنس دون الاستغراق من موجبات القرائن كما سيتحقق في بحث التعريف للجنس دون الاستغراق؛ إما لبيان أن مدلول اللام هو الجنس، والاستغراق من موجبات القرائن كما سيتحقق في بحث التعريف، وإما لاختيار إثبات اختصاص الأفراد بجعل اختصاص الجنس كناية عنه لأنه أبلغ.

وما قدمناه لك من أن جملة الحمد قول دال على مالكيته تعالى بجميع المحامد، لا ينافي سلوك طريق الكناية وليس بالصريح في اختيار التصريح.

(والله) كالرحمن، مختص بواجب الوجود، لم يطلقا على غيره فيما بين المتدينين وغيرهم، إلا أن الله اسم هو قسم من العلم، والرحمن صفة، وقد اشتهر الذات في ضمن اسم الله بالاتصاف بجميع صفات الكمال، كالحاتم بالجود في ضمن هذا الاسم؛ فهو يدل على جميع الصفات على سبيل الإجمال؛ ففي ذكره للحمد (3) مزيد الإكمال؛ فلهذا اختير من بين الأسماء الحسنى المأثورة، فإن شيئا منها لا دلالة له عليه، والمتصف بجميع صفات الكمال، وما له من النظائر

(1) الزمخشري: هو أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الملقب بجار الله وبفخر خوارزم، الإمام الكبير في التفسير والنحو واللغة والأدب، ولد بزمخشر في رجب سنة 467 هـ، وتوفي في ذي الحجة سنة 538 هـ.

(2)

هذا مما يدل على سلامة اعتقاد المصنف والتزامه مذهب أهل السنة في تحقيقاته البلاغية.

(3)

لأن الحمد القول الدال على الوصف الجميل.

ص: 136

والأمثال، كالكامل من كل وجه ليست من الأسماء المأثورة، على أنه لو قيل:

الحمد للخالق أو الرازق أو غير ذلك؛ لأوهم أن علية ثبوت جميع المحامد له هي الصفة المخصوصة. قال الشارح المحقق: (قال) الحمد لله تنبيها على الاستحقاق الذاتي، أي الاستحقاق الغير المختص بوصف دون وصف، ثم تعرض للإنعام بعد الدلالة على استحقاق الذات تنبيها على تحقق الاستحقاقين، وفيه نظر؛ لأن التنبيه على الاستحقاق الذاتي لا يحصل بتعليق الحمد باسم العلم؛ لأنه لا يدل على علية الوصف، ولو سلم فاستحقاق جميع المحامد أو اختصاص جنس الحمد به لا يكون باعتبار كل وصف، حتى لا يختص الاستحقاق بوصف دون وصف، بل ذلك الاستحقاق بالنظر إلى جميع الأوصاف، وإنما الاستحقاق الذاتي لثبوت جنس الحمد، فإنه ثابت بالنظر إلى أي وصف كان. على أن تعليق الحمد بلفظ الله لو أفاد الاستحقاق الذاتي إنما يفيده لأن كل وصف له يوجب استحقاق الحمد، فيفيد الاستحقاق الوصفي أيضا، فلا يستدعي التنبيه عليه ذكر الوصف الخاص. وأيضا ليس تعليق الحمد بالذات كتعليقه بالإنعام على ما يدل عليه كلامه، فإن العلية المستفادة من التعليق باسم الذات هو علية الوصف لثبوت الحمد لله، والعلية المستفادة من التعليق بالإنعام علية الإنعام لإنشاء الحمد؛ إذ لو كان علة لثبوت الحمد له تعالى لكان المعنى أن جميع المحامد ثابتة لله تعالى لأجل الإنعام، ولا يخفى عدم صحته؛ وتحقيق ذلك أن العلل المذكورة بعد الإنشاءات وقد تكون علة للإنشاء، وقد تكون علة لما تعلق به الإنشاء، فعلى الأول إنشاء معلل، وعلى الثاني إنشاء معلل، وعلى الأول: قوله: على ما أنعم، من جملة المحمود به، وعلى الثاني: خارج عنه محمود عليه، وبهذا ظهر أنه لا تنافي بين جعل الإنعام علة للحمد وجعله غير مختص بوصف دون وصف، فنقول تعرض للإنعام لأن الداعي إلى الحمد تأليف هذا المختصر الذي هو من آثار الإنعام، وقدم الحمد لأنه مسند إليه في الحال، وعامل في قوله لله في الأصل؛ لأن أصله حمد الله، وهو من المصادر السادّة مسدّ الأفعال، عدل إلى الرفع للدلالة على الدوام والثبات، فمرتبته التقدم حالا ومآلا وليكون اقتباسا على ما مر.

ص: 137

وأما تأخير الله في الكلام القديم؛ فليتصل بما ذكره بعده مما يتعلق به، قال الشارح: وقدم الحمد لاقتضاء المقام مزيد اهتمام به، وإن كان ذكر الله أهم في نفسه، وأورد عليه أن الحمد مجموع قول القائل: الحمد لله، ولا اختصاص بالحمد لكلمة الحمد، بل جزأ الجملة متساوية النسبة إلى الحمد، ويمكن أن يدفع بأن للحمد اختصاصا غير الجزئية باعتبار صدق مفهومه على هذا الحد. (على ما أنعم) تعليل لإنشاء الحمد، و (على) تعليلية كما في قوله تعالى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ (1) أي لما هداكم، و (ما) حرفية مصدرية لا اسمية موصولة، أو موصوفة إما لفظا فلاحتياج الاسمية إلى تقدير العائد في المعطوف بتكلف، أي:

وعلم به من البيان ما لم نعلم، فيكون من البيان بيان ما لم نعلم، ويكون ما علم به عبارة عما يتوقف عليه التعليم من الشعور وغيره، أو: وعلمه من البيان وقت عدم العلم بأن يكون ما لم نعلم مصدرا حينيا، لا للاحتياج في المعطوف هو عليه إلى التقدير كما ذكره الشارح المحقق؛ لأن احتياج أنعم إلى التقدير أو التنزيل منزلة اللازم لا يندفع بجعل ما مصدرية، وما ذكره الشارح أيضا في التقدير في المعطوف متعذر لكون (ما لم نعلم) مفعوله، وجعله بدلا من الضمير- تعسف؛ وكذا جعله خبر مبتدأ محذوف أو مفعول أعني فمذهول عما ذكرناه.

وإما معنى؛ فلأن الحمد على ما قام بالمنعم أمكن من الحمد على ما يتعلق به ما قام به من نفس النعم إما لأن دعوة النعمة إلى حمد المنعم لارتباطها به بواسطة الإنعام، بخلاف الإنعام، فإنه مرتبط به بنفسه، وإما لأنه أدخل في الإخلاص لأن النظر في النعمة على وصوله إلى العبد بخلاف الإنعام، فإن النظر فيه على إحضار كمال المحمود، ولتجريد النظر عن شوب الالتفات إلى ما يصل إليه، والمبالغة في قصر النظر على الكمال لم يتعرض للمنعم به.

ثم بعد الحمد على الإنعام أراد الحمد على ما هو مدار الحمد من البيان تنبيها على أن الحمد أيضا مما يوجب الحمد، لما يشتمل عليه من جلائل النعم؛ فلا يكون الخروج عن عهدته مقدورا، فعطف على أنعم ما اندرج تحته فقال:

(وعلم من البيان ما لم نعلم) بطريق عطف الخاص على العام؛ تنبيها على فضله

(1) سورة البقرة، الآية (185).

ص: 138

على ما عداه من الإنعام، وأراد بما لم نعلم: ما لم نعلم بوجه من الوجوه، وذلك التعليم لا يتأتى إلا من الله، فإن المعلم إنما يعلم بوجه ما ما نعلم بوجه آخر، فلا يكون ذكره تطويلا، وقيل: إن المراد ما لم نكن نعلم، أخذا من قوله تعالى:

وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ (1) أي ما لم نف جوابا ما نعلم به، ودفع التطويل لا يتم بمجرد إثبات فائدة رعاية السجع كما قيل، أو فائدة صنعة الطباق ورعاية تناسب الاشتقاق، لأن هذه محسنات بديعية، ولا بد لدفع التطويل مما يدخل في أصل البلاغة.

وقوله: (من البيان بيان لما لم نعلم) قدم عليه لرعاية السجع وفيه ترك رعاية جانب المعنى لرعاية جانب اللفظ إذ حق البيان أن يتأخر عن المبهم ليتمكن بالبيان في النفس فضل تمكن، ولا يرد أن رعاية السجع لا تقتضي تقديم البيان، إذ يمكن بأن يقال: وما لم نعلم من البيان علم؛ لأن فيه أيضا تأخير الفعل على خلاف الأصل، وإيهام أن ما لم نعلم هو المحمود عليه، ولا يخفى حسن البيان وما فيه من براعة الاستهلال، ثم أتى بالصلاة تكميلا للشكر؛ إذ ورد في الشرع من لم يشكر الناس لم يشكر الله، واقتفاء لما علمنا الله من جعل ذكره مقارنا لذكر نبيه في كلمة التوحيد، فقارن بين حمد الله وصلاة نبيه وإظهارا لحاجة النبي إليه، مع أنه أفضل المخلوقات، ومظهر خوارق العادات، صيانة عن وقوع هذه الأمة فيما وقع فيه النصارى، فقال:(والصلاة) وهي من الله الرحمة، وكلمة (على) متعلقة بالنزول؛ أي الرحمة نازلة.

(على سيدنا) أي سيد خير الأمم أو البشر أو المخلوقات، وعلى كل تقدير يفيد سيادته المبالغة في الحامدية، وهو أحمد لجميع المخلوقات (محمد) أي من حمد كثيرا، اشتق له من الحمد اسمان: أحدهما يفيد المبالغة في المحمودية والآخر المبالغة في الحامدية، وهو أحمد، واشتهر من بين الاسمين الأول أكثر اشتهار، وخصّ به كلمة التوحيد لأنه أنسب بما له من مقام المحبوبية، ووصفه بقوله:

(خير من نطق بالصواب) على المذهب الراجح من تفضيل خواص البشر على خواص الملك، والمراد بالصواب ضد الخطأ فإما أن يراد به الصواب في التكلم

(1) سورة النساء، الآية (113).

ص: 139

وعدم الخطأ فيه فصاحة وبلاغة وهو أنسب بالمقام، وإما أن يراد به مطابقة النطق، وبراءته عن الكذب، وفيه مسألة عصمة النبي عن الكذب، واختار الوصف به؛ لأنه مما وصف الله به الملائكة المقربين؛ حيث قال: وَقالَ صَواباً (1) ثم فضله ثانيا على الأنبياء صريحا بقوله: (وأفضل من أوتي الحكمة وفصل الخطاب) يحتمل العطف على (أوتي الحكمة) فيكون جملة فعلية، كما يحتمل العطف على الحكمة عطف مفرد على مفرد، وهو الحكمة، ولم يتحاش من حديث «لا تفضلوني على موسى» (2) ومن حديث «لا تفضلوني على يونس بن متى» (3)؛ لأن المذهب أنه أفضل الأنبياء، وكل نهي ورد في الأحاديث عن تفضيله مؤول تكلف يطلب تأويله في شروح كتب الحديث، واختار الإبقاء على من له الحكمة ومن جاء بالحكمة تنبيها على أنه من عند الله لا من عند نفسه، وترك الفاعل لأنه متعين.

(والحكمة): العدل والعلم والنبوة على ما في القاموس، وفسرها الكشاف بعلم الشرائع (وفصل الخطاب) بمعنى الخطاب الفاصل بين ما قصد به وغيره بكمال وضوحه فيما قصد به، أو الخطاب المفصول المتميز عن غيره لذلك، أو الخطاب الفاصل بين الحق والباطل، والخطاب المفصول المتميز عن غيره بحيث لا يشتبه بكلام البشر لإعجازه، فيكون إشارة إلى المعجزة الباقية بعد الإشارة إلى النبوة في وجه، جمعا بين المدلول والدليل في وجه، وبين العلم وحسن التعليم والتبليغ في وجه.

(وعلى) أعاد كلمة (على) ردّا على الشيعة أن جمع الآل مع الرسول في الصلاة بكلمة (على) لا يجوز، ويجب ترك الفصل بينه وبين آله.

(آله) أصله: أهل بدليل أهيل، خص استعماله في الأشراف، ومن له خطر، بمعنى أنه لا يستعمل إلا في من هو أهل الأشراف، بحسب الدين أو الدنيا. قال صاحب الكشاف: ينافي تصغيره اختصاصه بالأشراف، وكأنه يريد

(1) النبأ: 38.

(2)

أخرجه ابن كثير في البداية والنهاية (1/ 213)، وقال: هو في الصحيحين، ولم نجده فيهما.

(3)

أورده القاضي عياض في الشفا (1/ 265). وفي صحيح البخاري، باب في فضائل الأنبياء:«لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى» .

ص: 140

أنه بعد الاختصاص لم يصغر لمنافاته بحسب الوضع للتحقير، وما روي عن الكسائي (1) أنه سمع أعرابيّا يقول أهل وأهيل وآل وأويل كان قبل التخصيص، فأهيل ليس تصغيرا إلا للأهل؛ لا للآل فما اعترض به من أن الشرف بحسب ما أضيف إليه لا ينافي التحقير بحسب نفسه، وأن التصغير يكون للتعظيم، وما يمكن أن يورد من أن التصغير المنقول لا يصح أن يكون قبل التخصيص مندفع؛ لأنه تنبيه على عدم تصغير الآل بعد التخصيص، وبيان سره على أن التصغير يكون لتحقير الشيء في مفهومه ما صغر به، فالرجيل تحقير في الرجولية، فتصغير الآل يكون لتحقيره في الألية، فلا يناسب في لفظ يقصد به شرف الألية، ويجيء الآل بمعنى الأتباع، فلو حمل على أهل بيت النبي فالصلاة عليه وعلى الأصحاب لأداء حقوقهم علينا؛ لأنهم وسائط بيننا وبين الرسول، كما أن الرسول واسطة بيننا وبين الله تعالى، ولو أريد به الاتباع يكون اقتداء به عليه السلام في الدعاء للأمة فإن أمر أمته كان جل همته، ويكون ذكر الأصحاب المشتمل على أهل البيت تخصيصا بعد التعميم لشرفهم.

(الأطهار) نفى الجوهري كون الأفعال جمع فاعل، فلذا قال: المثل المشهور من قولهم أحياءها أبناءها أي جماعة جنوا على الدار يهدمها هم الذين بنوها- أظنه تحريف جناتها بناتها (2)، فلذا قيل: جمع طهر مصدرا مستعملا في الطاهر مبالغة، لكن يتجه عليه أنه ينافي ما في الكشاف أن الحرض في قوله تعالى:

حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (3) يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لكونه مصدرا، وفي القاموس: طهر كنصر وكرم فهو طاهر وطهر وطهير والجمع أطهار.

(وصاحبته) هو في الأصل مصدر كالصحابة بالكسر يستعملان في الرفقاء، والمراد أصحاب الرسول، وهم الذين طالت صحبتهم مع النبي مسلمين، وقيل:

شرط الرواية، وقيل: هم مسلمون رأوا النبي صلى الله عليه وسلم.

(1) الكسائي: هو أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي الكسائي، إمام في اللغة والنحو والقراءة، ولد بالكوفة وتوفي سنة 189 هـ.

(2)

هذا الترجيح هو كلام المصنف نفسه.

(3)

سورة يوسف، الآية (85).

ص: 141

(الأخيار) في القاموس جمع خير مخففا أو مشددا، على وزن سيد بمعنى كثير الخير، أو جمع خير مشددا بمعنى كثير الخير في الدين والصلاح، والمخفف في الجمال وأثر الحسن، وكأنه بهذا الاعتبار، قال الشارح: جمع خير بالتشديد فإن المناسب هو المدح بالدين والصلاح لا بالحسن والجمال، وليس جمع خير اسم تفضيل، وإن كان يلائم وصف الأصحاب به ما روي عنه صلى الله عليه وسلم:«خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (1)؛ لأن خيرا لا يتغير في التأنيث والجمع والتثنية على ما في الصحاح، وقال في القاموس: إذا أردت التفضيل تقول فلان خير الناس وفلانة خير الناس.

(أما) لتفصيل مجمل سابق، مع التأكيد لمضمون الجزاء، وقد يستعمل لمجرد التأكيد، كذا في الرضى، فهي هنا للتأكيد، وتصحيح التفصيل هنا بتمحلات في التقدير خال عن التحصيل (بعد) أي بعد الحمد والصلاة، هذا هو المشهور في هذا المقام، ونظائره، والحق بعد البسملة والحمد والصلاة، والمقصود منه تذكير ابتداء تأليفه بهذه الأمور المتبركة ليكون مع التبرك والتيمن آن الشروع غير ذاهل عنها، فيزيد في التيمن والتبرك والفصل لأن ما سبق إنشاءات وما سيأتي إخبارات وتحقيق كلمة أما وبعد أغناك عنه قطع مسالك معرفتهما وإعراب علم آخر عنه، فلا يناسب قصد نحوهما هنا.

(فلما كان) لما: لوقوع أمر لوقوع غيره، بحيث يكون وقوع الثاني مع الأول معية المسبب مع السبب المقتضي؛ فيلزم من ذلك اتحاد زمانهما، وهل الزمان مدلوله، فيكون اسما كمتى؟ ذهب إليه ابن السراج وأبو علي، وابن جني (2)، وجماعة، ورده ابن خروف لصحة «لما أسلم دخل الجنة» وأجيب بأنه مبني على المبالغة، وكلام سيبويه محتمل حيث قال: لما: لوقوع أمر لوقوع غيره، وإنما يكون مثل (لو) فإنه يحتمل القصد إلى أنه مثل لو في المضي أو في عدم العمل، والقصد إلى أنه حرف، وهذا مسلك يصعب فيه القطع، وإن جزم الشارح بكونه

(1) صحيح، وهو عند البخاري ومسلم بلفظ «خير الناس» بزيادة «ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته» .

(2)

ابن جني: هو أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي، من أئمة الأدب والنحو ولد بالموصل وتوفي ببغداد سنة 392 هـ.

ص: 142

اسما وجعل كونه حرفا وهما، وبالجملة يليه ماض محقق أو مقدر لفظا ومعنى.

وجوابه أيضا يكون ماضيا ربما يكون مقرونا بالفاء بالاتفاق، واختلف في وقوعه جملة اسمية مقرونة بالفاء أو إذا الفجائية، وفعلا مضارعا، وإن شهد بالكل القرآن.

(علم البلاغة) أي علم الغرض من تدوينه تحصيل البلاغة، وهو علم المعاني الذي الغرض منه تحصيل ملكة تأدية المعاني الزائدة على أصل المراد على وجه الصواب، وعلم البيان الذي الغرض منه تحصيل ملكة تأدية المعنى الواحد بطرق مختلفة على وجه الصواب، وأما ما سواهما مما تتوقف عليه البلاغة، فالغرض من تدوينها تأدية أصل المعنى على وجه الصواب، ولهذا يستوي فيه الخواص والعوام، وكذا المراد بعلم توابعها علم دون لمعرفة توابع البلاغة (1)، فلا يرد أنه لو أريد بعلم البلاغة العلم كان عطف (وتوابعها) عطفا على جزء العلم، ويكون ضمير توابعها راجعا إلى جزء العلم، وإن أريد المركب الإضافي فإن جعل بمعنى علم يتعلق بالبلاغة دخل فيه النحو والصرف ومتن اللغة، وإن أريد علم له مزيد اختصاص بالبلاغة فليس له ضابط يقتضي دخول المعاني والبيان وخروج البواقي.

(من أجلّ العلوم قدرا) تمييز إما من نسبة الأجل إلى العلوم، فيكون أصله: ولما كان علم البلاغة وتوابعها من أجل قدر العلوم، وإما من نسبة الأجل إلى علم البلاغة فيكون أصله: ولما كان علم البلاغة وتوابعها من قدر أجلّ العلوم، وعلى التقديرين لا بد من تقدير مضاف في علم البلاغة، ومن تقدير معطوف عليه، أي لما كان قدر علم البلاغة وسره من أجل قدر العلوم وأدق سرها وليس لك أن تجعل قدرا تمييزا عن نسبة الأجل إلى فاعله المضمر، وإن كنت تستغني عن التقدير؛ إذ الأصل حينئذ لما كان علم البلاغة وتوابعها من طائفة أجل قدرها من العلوم لأنه يلزم عمل اسم التفضيل في الظاهر من غير شرط، والقدر كالفرس والخيل المقدار.

(1) يقصدون بذلك علم البديع الذي ظلمه هؤلاء المتأخرون وجعلوه علما تابعا للعلمين الأصليين وهما المعاني والبيان، وليس علما أصليا؛ لأنه على زعمهم لا تتحقق به مطابقة الكلام لمقتضى الحال؛ بل وظيفة له سوى التحسين والتزيين وقد بينت بطلان ذلك كله، والدور اللائق بعلم البديع في تحقيقه المطابقة في رسالتى للماجستير عن الطيبي وجهوده البلاغية- نشر المكتبة التجارية بمكة المكرمة.

ص: 143

(وأدقها سرّا) هو ما يكتم، أو لبّ الشيء، وإنما جعل علم البلاغة وتوابعها من أجل العلوم قدرا لأنه أراد تفضيل كل واحد من أفراد علم البلاغة وعلم توابعها وهي ثلاثة: علم المعاني، والبيان، والبديع، فلا يصح جعل كل أجل جميع العلوم والألزم تفضيل الشيء على نفسه بل لا بد من اعتبار الثلاثة طائفة هي أجل العلوم، وجعل كل واحد منها؛ فيستفاد جعل كل أجل مما سوى الثلاثة وحينئذ يتجه أن كلا منها ليس أجل من شيء من أصول الشرع وفروعه، فيجاب بأن المراد بالمفضل عليه العلوم العربية كما يتبادر من إطلاقها في كتب العربية، وهذا هو الجواب الحق، وأما ما قال الشارح المحقق من أنه لا حاجة إلى التخصيص لأنه لم يجعله أجل العلوم بل من طائفة هي أجل العلوم، ولا يلزم منه كونه أجل من جميع ما سواه ففيه أنه حينئذ لم يعلم لهذا العلم درجة يعتد بها مزيد اعتداد فيما بين العلوم العربية، لأنه يجوز أن لا يكون أجل من شيء منها أو لا يكون أجل إلا من واحد منها، وكذا ما قاله من أن هذا ادعاء منه، وكل حزب بما لديهم فرحون، فللفرح به يدعي، ولا يبالي بمخالفة الواقع فيه أن أهل الملة لا يفرحون بشيء بحيث يدعون تفضيله على علم الدين.

على أن قوله: لا حاجة إلى التخصيص يشعر بأن الظاهر الإطلاق، وقد عرفت أن الظاهر من إطلاق أرباب العربية التخصيص وأن الاستدلال عليه يشعر بأنه ليس ادعاء، إلا أن يقال إنه صورة استدلال ترويجا للادعاء، وحينئذ لا يناسب المنازعة في مقدمات الدليل، ولا يحمل مؤنة التوجيه لدفعها.

(إذ به يعرف) مباشر مكتسبي السليقة فلا يرد أن العرب تعرف بالسليقة من غير علم البلاغة وتوابعها، وقال الشارح: أراد الحصر الإضافي أي به يعرف لا بغيره من العلوم (دقائق العربية) أي اللغة العربية أو العلوم العربية (وأسرارها) وهي أدق الدقائق والأسرار؛ فيكون أدقها سرّا، وإنما قدم بيان كونه أدق العلوم سرّا لأن ما ذكره في بيان كونه أجل العلوم قدرا إنما ينكشف بما ذكره في بيان كونه أدق العلوم سرّا.

(ويكشف) على صيغة المجهول معطوف على يعرف على صيغة المجهول مشارك له في الظرف المقدم؛ أي به يكشف، ولا يصح أن يكون على صيغة المعلوم

ص: 144

مسندا إلى ضمير علم البلاغة فيكون في تقدير: إذ يكشف علم البلاغة عن وجوه الإعجاز أستارها لأنه وإن يغنيك عن تصحيح الحصر المنتقض بالكشف بالسليقة والكشف بعلم الكلام فإنه أثبت فيه إعجازه بالبلاغة؛ لكنه يمنع عنه وجوب نصب الأستار حينئذ لتوقف مصلحة السجع على رفعه، وحينئذ تصحيح الحصر إما بالنسبة إلى السليقة فقد عرفت، وإما بالنسبة إلى الكلام؛ فأولا: بأن المراد الحصر بالنسبة إلى غيره من العلوم العربية، إذ حققنا أن الدعوى كونه أجلها لا أجل جميع العلوم.

وثانيا: بأن كشف الكلام لا يتم بدون هذا العلم؛ لأن الإعجاز إنما يعرف بالذوق المكتسب منه، وليس مدركه إلا الذوق بكونه معجزا، ولا يعرف بالتحقيق إلا بهذا العلم (عن وجوه الإعجاز) أي عن أسباب الإعجاز، وهو ما يراعيه المتكلم في كلامه والمزايا والخصوصيات، فبمعرفة هذه الوجوه ورعايتها يحصل ذوق يدرك به أن القرآن يخرج عن أن يتمكن البشر من الإتيان بمثله، فمعرفة الوجوه تحصل بالكشف عنها، ومعرفة الإعجاز لا يمكن بالكشف عنه، بل بالذوق المكتسب من كثرة استعمال الوجوه المكشوفة بهذا العلم، فلذا قال:

يكشف عن وجوه الإعجاز، ولم يقل: عن الإعجاز، فلا يرد أنه ينافي ما ذكره المفتاح أنه لا يمكن كشف القناع عن الإعجاز، بل مدركه الذوق ليس إلا، وما ذكرنا مما يصرح به صاحب المفتاح حيث يقول: اعلم أن شأن الإعجاز أمر غريب يدرك ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة، ومدرك الإعجاز عندي هو الذوق ليس إلا، وطريق اكتساب الذوق طول خدمة هذين العلمين (1)، نعم للبلاغة وجوه ملثمة (2) ربما يتيسر إماطة اللثام عنها؛ ليتجلى عليك، وأما نفس وجه الإعجاز فلا، هذا والشارح لما لم يفرق بين الكشف عن وجوه الإعجاز والكشف عنه حمل الكشف على المعرفة دون الوصف، ودفع الإشكال بأن المراد بكشف معرفة الإعجاز وبعدم إمكان كشف المفتاح عن الإعجاز عدم إمكان وصفه ومنهم من قال: معنى قول المصنف: إنه يكشف بهذا

(1) يعني علمي المعاني والبيان، وما يتبعهما من علم البديع.

(2)

في الأصل (تلثمة) والصواب: ملثمة.

ص: 145

العلم عن وجوه الإعجاز لو أحيط بهذا العلم، وحكم المفتاح بامتناع الكشف لامتناع الإحاطة، ولا ينافي وليس بشيء؛ لأنه لا يمكن وصف الإعجاز وبيانه للغير؛ لأنه ما لا يمكن معرفته إلا بالذوق، فلو كان من يوصف له صاحب هذا الذوق فهو مدركه بالذوق لا بالوصف، وإلا فلا يدرك بالوصف. على أن المقصود بيان جلالة العلم بجلالة غايته، فإذا لم تحصل تلك الغاية لأحد فأية فائدة في بيان تلك الغاية له؟ ثم هذا دليل على قوله أجل العلوم قدرا، وجهات شرف العلوم ثلاثة لا تعدوها في اعتبارهم شرف الموضوع، وشرف المسائل لكونها يقينية، وشرف الغاية، فلا شرف للعلوم الظنية باعتبار المسائل. إذا عرفت هذا فملخص الاستدلال أن علم البلاغة يعرف به الإعجاز، فهو أجل موضوعات عن سائر العلوم العربية، وأجل غاية.

أما الأول، فلأنه باحث عن اللفظ العربي البليغ من حيث يتعلق به الإعجاز، واللفظ العربي البليغ من هذه الحيثية أشرف من اللفظ العربي العاري عن هذه الحيثية، وهو موضوع سائر العلوم العربية.

وأما الثاني، فلأن غايته التصديق بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم على ما قيل أو التصديق بأن القرآن كلام الله، وهو من أجلّ غايات سائر العلوم العربية، وبهذا ظهر ضعف ما قال الشارح المحقق من أن معلوم علم البلاغة أن القرآن معجزة، وهذه وسيلة إلى تصديق النبي- عليه السلام في جميع ما جاء به ليقتفي بأثره فيفاز بالسعادة الدنيوية والأخروية، فيكون من أجلّ العلوم لكون معلومه من أجلّ المعلومات، وغايته من أشراف الغايات؛ لأن معرفة أن القرآن معجز غاية هذا العلم، وليس منه، ولا شرف لهذا العلم باعتبار مسائله لأنه ظني.

(في نظم القرآن أستارها) نظم القرآن تأليف كلماته مترتبة المعاني متناسقة الدلالات على حسب ما يقتضيه العقل (1)، بخلاف نظم الحروف فإنه تواليها من غير اعتبار معنى يقتضيه، حتى لو قيل مكان ضرب ربض، لم يخل بنظم الحروف، وليس الإعجاز بمجرد الألفاظ وإلا لما كان للطائف العلمين مدخل فيه؛

(1) لو قال: (حسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية) لكان أولى، فإن العقل قاصر عن إدراك جميع وجوه الإعجاز القرآني.

ص: 146

لأنها لا تتعلق بنفس اللفظ فلذا اختار النظم على اللفظ. ولأن فيه استعارة لطيفة متضمنة بجعل كلمات القرآن كالدرر، وكذا في الشرح، وفيه أولا: أن النظم ليس مجرد تأليف كلماته على الوجه المذكور؛ بل يكون تأليف أجزائها أيضا، ولا يتم بدون تأليف جملة أيضا، كذلك إذ النظم كما يتعلق بكلام واحد يتعلق بكلامين أو أكثر، فالصواب: والنظم تأليف أجزائه

إلخ؛ والنظم يتحقق بمجرد ترتيب المعاني من غير تناسق الدلالات إذا لم يكن في الكلام لفظ مجازي كما في سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1).

وثانيا: أنه لولا الداعي إلى ذكر النظم لقيل عن وجوه الإعجاز في القرآن إذ لا داعي إلى ذكر اللفظ، فالداعي ليس لترجيحه على اللفظ، بل لترجيح ذكره على تركه.

(وكان القسم الثالث من مفتاح العلوم) سمى كتابه مفتاح العلوم لأنه مفتاح للعلوم التسعة التي اشتمل عليها من الصرف والنحو والاشتقاق والمعاني والبيان والبديع والقوافي والعروض والمنطق، أو لأنه مفتاح للعلوم كلها؛ لأنه يورث الناظر فيه قوة يتمكن بها من تحصيل تلك العلوم، وجعلها مفتاحا لها إشارة إلى أن فيض العلم من الفياض الوهاب، والكتاب ليس إلا لفتح باب فيضه لأولي الألباب.

(الذي صنفه الفاضل العلامة أبو يعقوب يوسف السكاكي تغمده الله بغفرانه)(2) في التعبير عن جعله مغفورا بتغمده بالغفران إشارة لطيفة إلى تشبيهه بالسيف القاطع في حدة القريحة (أعظم) خبر كان، والعظيم فوق الكبير شيء كما أن مقابله أعني الحقير دون الصغير الذي يقابل الكبير، صرح به الزمخشري في تفسير: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (3).

(ما صنف فيه من الكتب المشهورة) بيان لفاعل صنف، وفي ذلك البيان

(1) سورة الإخلاص، الآية (1).

(2)

حققت هذا الكتاب على أدق نسخة، وصوبت بحمد الله كثيرا من أغلاطه وأخطائه في طبعاته السابقة، وأعادت دار الكتب العلمية طباعته في طبعة أنيقة وقد زودناها بفهارس علمية متنوعة.

(3)

سورة البقرة، الآية (7).

ص: 147

مزيد مبالغة في نفعه؛ إذ الاشتهار لا يكون إلا للنفع، وصيانة عن تهمة الكذب، إذ دعوى الاطلاع على جميع ما صنف فيه ودعوى إثبات النفع العظيم بجميع ما صنف فيه بعيدة عن مظنه التصديق، وإنما جعلنا البيان للضمير دون ما كما في الشرح لأن البيان حال من المبين، وما صنف مضاف إليه، وليس فاعلا ولا مفعولا؛ لكن في مقارنة زمان الاشتهار لزمان التصنيف نظر يحوج دفعه إلى تكلف، وجعل القسم الثالث كتابا وهو بعض من الكتاب أيضا يستدعي تكلفا.

(نفعا) لا بد من اعتبار مضاف: أي لما كان نفع القسم الثالث أعظم منافع ما صنف فيه، فنفعا إما تمييز عن نسبة كان إلى القسم الثالث فتقدير المضاف في ما صنف فيه وإما عن نسبة أعظم إلى ما صنف فيه، فتقديره في القسم الثالث، وكأنه مراد الشارح حيث قال تمييز من أعظم، وجعله تمييزا عن المشهورة بعيد، وإن كانت أقرب أي المشهور نفعها، وبين كونه أعظم نفعا بكونه جامعا لثلاثة أمور كل منها مشتمل على عظم نفع، لا بكل من الثلاثة، كما يشعر به كلام الشارح، حيث جعل قوله وأتمها تحريرا وقوله وأكثرها للأصول جمعا، في تقدير ولكونه أكثرها للأصول جمعا، أما كون حسن الترتيب سببا لعظم النفع فلأنه لما حسن الترتيب يوجد كل مقصد في محله فلا يفوت الطالب، وأما كون تمام التحرير سببا فلأنه إذا خلا عن الزوائد وما لا نفع فيه لم يكن للناظر فيه تضييع وقت، ويكون خالص النفع فيعظم نفعه، وأما كون كثرة الجمع للأصول سببا فظاهر.

واعلم أن قوله: (وكان القسم الثالث إلى قوله نفعا) فقرة يعادلها قوله:

(لكونها أحسنها ترتيبا وأتمها تحريرا وأكثرها للأصول جمعا) فقد بعد من قال الأولى أن يقول: أعظم ما صنف فيه من الكتب المشهورة نفعا لكونه أكثرها للأصول جمعا، ليكون كلاما مسجعا، ويكون قوله:(لكونه أحسنها ترتيبا وأتمها تحريرا) مشتملا على صنعة الموازنة والترتيب، جعل كل شيء من المجموع في مرتبته، والتحرير جعل الشيء حرّا استعير لأخذ الخلاصة وإظهارها؛ فإن الكلام المقتصر على الخلاصة منزه عن ذل الاشتمال على الحشو، فكأنه حرر بالتحرير، وكون الكتاب أتم تحريرا عبارة عن كون أجزائه المحررة أكثر من محررات أخر،

ص: 148

فلا يرد أن التحرير لا يجامع الاشتمال على الحشو، فلا يتصور فيه النقصان حتى يجعل محررا أتم تحريرا من أخر؛ لأن الكلام للمحرر لا يجامع الاشتمال على الحشو، بخلاف الكتاب المحرر فإنه عبارة عما حرر فيه شيء، ومن لم يفرق بين الكتاب المحرر والكلام المحرر فسر الأتم تحريرا بأقرب إلى التمام. وقوله:(لكونه أحسنها ترتيبا وأتمها تحريرا) في تقدير لكون ترتيبه وتحريره أحسنها ترتيبا، أي أحسن ترتيبات الكتب وأتمها تحريرا، أي أتم تحريرات الكتب، ففي الكلام حذف مضاف ومعطوف، وقد فصل مثله فأجمل معرفته، وجميع الأصول مقدم على الترتيب إلا أنه أخره رعاية السجع، والمراد بالأصول إما الشواهد لأنها أصل القواعد، وإما القواعد لأن الأصل جاء مرادفا للقاعدة، وقوله: للأصول متعلق بجمعا قدر، وفسر بجمعا على نحو: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ (1) فقوله جمعا عطف بيان للتمييز المحذوف، وذلك لأن النحاة لم يجوزوا تقديم معمول المصدر عليه، لأنهم جعلوا عمله لتأويله بأن مع الفعل، ومعموله فعل أن لا يتقدم عليه لأن أن ومدخوله كحرف كلمة شرط الترتيب فيها، فكما لا يجوز تقديم بعض حروف الكلمة على بعض لا يجوز تقديم شيء من مدخول أن عليه، ولذا أوّلوا كلّ معمول مقدم على المصدر بأنه معمول ما يفسره المصدر، وفيه أنه تكلف جدّا مع ضعف الداعي إليه لوجهين: الأول: ما قال المحقق الرضي: (إنا لا نم إن)(2) المؤول بالشيء حكمه حكم المؤول به مطلقا، ويؤيد بأن أن مع الفعل لا بد له من فاعل، ولا يخلو عن الدلالة على زمان، والثاني ما ذكره الشارح المحقق إنا لا نسلم أن المصدر عند العمل في الظرف يحتاج إلى جعله في تأويل أن مع الفعل؛ لأن الظرف يكفيه رائحة الفعل لأن له شأنا ليس لغيره؛ لتنزله للشيء منزلة نفسه، لوقوعه فيه وعدم انفكاكه عنه، ولهذا اتسع في الظروف ما لم يتسع في غيرها، لكن فيما قاله الرضي نظر؛ لأن تأويل المصدر بأن مع الفعل ليصلح للعمل بتضمنه الفعل، فيجب أن يكون حكمه في العمل حكم هذا الفعل، أو دونه، ولا يثبت له عمل لا يتمكن هذا الفعل منه، فالحق جواز تقديم الظرف على عامله المصدر كما جوزه الرضي، وإن لم يكن لما جوزه فتأمل. لكن في كون

(1) سورة التوبة، الآية (6).

(2)

كذا بالأصل، ولعل المقصود «إنا لا نسلم أن» ويشهد له السياق بعده.

ص: 149

قوله للأصول ظرفا نظر؛ لأنه مفعول به زيد فيه اللام تقوية للعمل.

(ولكن) يوهم أن المذكور بعده لدفع توهم نشأ من السابق لأن وصف القسم الثالث بما وصف يوهم أنه مصون عن العيوب، وليس كذلك؛ بل المذكور تتمة الشرط؛ إذ سبب تأليف مختصر يتضمن ما فيه من القواعد، ويشتمل على ما يحتاج إليه من الأمثلة والشواهد أمور ثلاثة: كون علم البلاغة وتوابعها موصوفة بما وصف به، وكون القسم الثالث كما وصف، وكونه غير مصون عن الأمور المذكورة فالأوضح: و (كان غير مصون) أي غير خال، عبّر عن عدم الخلو بعدم الصيانة تنبيها على جلالة قدر السكاكي، وإشعارا بأن اشتمال القسم الثالث على الحشو والتطويل والتعقيد لم يكن لعجزه بل لمسامحته وعدم احتياطه عن الحشو، هو فضل الكلام على ما في القاموس والتطويل، وهو جعل الكلام مطولا بذكر فضل فيه، فالحشو لغو في الكلام، والتطويل عيب يحدث في الكلام المفيد بذكر الحشو فيه، وفرق آخر بينهما بحسب الاصطلاح سيجيء لكنا حملناهما على اللغة لأن مبنى الخطب على الأوضاع اللغوية، لأنه خطاب قبل معرفة الاصطلاح والشروع في تحصيله.

(والتعقيد) وهو كون الكلام مغلقا يعسر تحصيل معناه (قابلا للاختصار) لما فيه من التطويل، والفرق بين الاختصار والإيضاح والتجريد يجعل الاختصار مقبولا، والآخرين محتاجا إليهما- غير ظاهر، ولو أريد بالتطويل جعل الكلام مطولا من غير اشتمال على الحشو مع أداء إمكان؛ إذ المقصود بأقصر منه واضح، فلم يكن فيه مؤاخذة إلا بترك الأولى يكون لتخصيص الافتقار بالإيضاح والتجريد وجه (مفتقرا إلى الإيضاح) الألطف إلى التلخيص (والتجريد) لما فيه من الحشو آخره مع تعلقه بأول ما ذكر للمحافظة على السجع (ألّفت مختصرا) جواب لما والمتسبب عن الشرط المذكور تأليف كتاب في المعاني والبيان والبديع يتضمن ما فيه، خاليا عن عيوبه، إذ كمال هذه العلوم، يقتضي تأليف كتاب فيها، وكمال المفتاح، واشتماله على عيوبه تقتضي تضمين ذلك الكتاب ما فيه خاليا عن العيوب، فلذا قال:(ألفت مختصرا)، ولم يقل: اختصرته، والقول بأن اختصرته أخصر منه وهم؛ لأنه لو قال اختصرته لوجب أن يقول اختصرته بحيث

ص: 150

(يتضمن ما فيه من القواعد) ولا يخفى أن من تتمة داعي تأليف مختصر بكذا أنه كان عنده فوائد يختص به لم يسبقه هنا أحد، فكان الأنسب أن يضمه إلى ما ذكر في الشرط بأن يقول لما كان علم البلاغة وتوابعها كذا وكذا، وكان المفتاح كذا وكذا، واجتمع عندي فوائد كذا وكذا ألفت مختصرا يتضمن ما فيه إلى آخر ما ذكره. والقاعدة قضية كلية تشتمل على أحكام جزئيات موضوعة بالقوة القريبة من الفعل، بحيث لو ضمت مع صغرى سهلة الحصول أفادت حكم جزء منها سميت قاعدة لأنها أساس معرفة أحوال الجزئيات، وكثيرا ما يتسامح فيعرف بحكم كلي

إلخ؛ تعبيرا للقضية بأشرف أجزائها، ولا يخفى أن قوله يتضمن كقوله:(ويشتمل على ما يحتاج إليه من الأمثلة والشواهد) يدل على أن صيغ الماضي مستعارة للمعنى الاستقبالي تفاؤلا (1)، والشاهد جزء لموضوع القاعدة يصلح لأن يذكر لإثبات القاعدة، والمثال جزء له يصلح لأن يذكر لإيضاح القاعدة، وهذا هو المراد بقولهم المثال جزئي يذكر لإيضاح القاعدة، والشاهد جزئي يستشهد بها في إثبات القاعدة، ولذا قيل الشاهد أخص، والظاهر أن الشاهد كالمثال لا يخص بالكلام العربي كما يستفاد من كلام الشرح، حيث قال هو جزئي يستشهد به في إثبات القاعدة لكونه من التنزيل أو كلام من يوثق بعربيته؛ فإن قلت: يستفاد من قوله: يحتاج إليه من الأمثلة والشواهد أن القاعدة تحتاج إليهما، وإذا كان الشاهد أخص فيندفع الحاجتان به فلا يحتاج إليهما! ! قلت: الاحتياج إليهما لا ينافي الاحتياج إلى واحد له حيثيتان.

(ولم آل) من الألو، كالنصر، أو الألو، كالعتو، أو الألي، كالعتي بمعنى التقصير. (جهدا) أي لم ينته اجتهادي واستفراغ طاقتي، أو لم يعجز فإن التقصير عن الشيء يكون بكلا المعنيين، أو من الألو كالنصر والألو كالعدو بمعنى الترك أي لم أترك اجتهادا؛ كل ذلك من القاموس. وقد أثبت الشارح الألو متعديا إلى مفعولين كقولهم لا آلوك جهدا؛ فجعله لمعنى المنع، والظاهر أنه من قبيل الحذف والإيصال، والأصل لا آلوك جهدا أي لا أترك. (في تحقيقه)

(1) أي تفاؤلا بالوقوع والحدوث لأنها تجعل ما سيقع كالواقع حقيقة في الحال لا محالة كقوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ النحل: الآية (1).

ص: 151

متعلق بالجهد أو آل، والضمير راجع إلى ما فيه، وما يحتاج إليه، ويعلم عدم تقصيره في حق ما أضاف إليه مما اختص به بالطريق الأولى، أو إلى المختصر.

(وتهذيبه) أي تنقيحه (ورتبته ترتيبا أقرب تناولا) أي أخذا، وهو في الأصل مد اليد إلى الشيء ليؤخذ (من ترتيبه) أي السكاكي، أو القسم الثالث، أو المختصر، وحينئذ من تعليلية، وأقرب تناولا حال من المفعول أي حال كونه أقرب تناولا من القسم الثالث، من أجل ترتيبه، (ولم أبالغ في اختصار لفظه) هذا الظرف إما قيد للنفي، أو المنفي والمآل واحد، وفائدة التقييد الإشارة إلى أنه بالغ في اختصاره بالتجريد عن التطويل؛ لكن قوله:(تقريبا لتعاطيه وطلبا لتسهيل فهمه على طالبيه) - تعليلان للنفي- وليس النفي نفي المعلل؛ إذ لا وجه لقصد أن الاختصار لتقريب التعاطي، وطلب تسهيل الفهم على الطالبين ترك؛ بل لو كان في الاختصار تقريب التعاطي وطلب تسهيل الفهم لوجب أن يلتزم، وهذا غير ما رد به الشارح من أنه على أصل الشيخ أن نفي كلام فيه قيد يرجع إلى القيد، ويستدعي بقاء الأصل، فيكون المعنى أن المبالغة في اختصار لفظه تحققت لا لتقريب تعاطيه وطلب تسهيل الفهم على طالبيه، وليس الأمر كذلك، والعامل في علة النفي كالعامل في علة المنفي الفعل المنفي، والفرق بالنفي قبل التقييد أو بعده، ألا ترى أن العامل في المفعول به في لم أضرب زيدا على الوجهين هو الفعل لا معنى النفي؟ ! فما في الشرح أنه يجب تأويل لم أبالغ بالفعل المثبت أي تركت المبالغة حتى لو لم يؤول لكان المعنى على نفي التعليل سقيما عليلا (1)، وعلى ما ذكرنا من الفرق التعويل والله الهادي إلى سواء السبيل.

وإنما علل ترك المبالغة في اختصار اللفظ لأن الاختصار في المتون مطلوب، والمبالغة فيه شعار مهرة البيان، والتسابق فيه مما يحرص فيه غاية الإمكان، فنفي المصنف بالتعليل تهمة عجزه في مقام البيان عن التعليل.

وأما عدم التقصير في التحقيق والتهذيب والإتيان بأحسن الترتيب فمقبولان لأنفسهما لا يستدعيان داعيا، فمن جعل التعليلين محتملين لكونهما متعلقين بجميع ما ذكر أو منقسمين إليه على ترتيب أو غير ترتيب فكان جواد فهمه مضطربا

(1)(سقيما عليلا) جاءت في الأصل مرفوعة، فلا أدري أهي عجمة لسان من المصنف أم من الناسخ!

ص: 152