الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البلاغة، ولا تتعلق له بمقتضى الحال الذي من وظيفة المعاني.
ومنه الحذف لضيق المقام بسبب تضجر وشآمة، أو فوات فرصة، أو محافظة على وزن، أو سجع أو قافية، فإن قلت: إيجاب السجع أو القافية حذف المسند إليه خفي؛ إذ القافية حينئذ غيره، وكذا آخر لفظ السجع، وهو يحصل بجعل ذلك الغير قافية أو آخر سجع بدون حذف المسند إليه! ! قلت: إذا توقف النظم أو حسن السجع على حذف المسند إليه أو غيره ويكون الغير قافية أو آخر السجع بحذف المسند إليه للمحافظة على القافية أو السجع.
قال الشارح المحقق: وقد يكون من حذف المسند إليه حذف الفاعل، وحينئذ يجب إسناد الفعل إلى المفعول، ولا يفتقر هذا إلى القرينة الدالة على تعيين المحذوف؛ بل إلى مجرد الغرض الداعي إلى الحذف، مثل: قتل الخارجي لعدم الاعتناء بشأن قاتله، وإنما المقصود أن يقتل ليؤمن من شره، وفيه بحث، لأنه لا يجب إسناد الفعل بل إسناد الفعل أو اسم المفعول، ولو أريد بالفعل ما يعم شبهه يشكل بفاعل المصدر، فإنه يحذف، ولا يجب إسناد المصدر إلى المفعول، ولأنه يحذف الفاعل في: اضربنّ، واضربن، واضربوا القوم، واضربي القوم، وضرب القوم، وضربا القوم، مما لا يحصى.
ولا يجب الإسناد إلى المفعول ولأن المحذوف هنا ليس مجرد المسند إليه، بل المسند والمسند إليه، ويجب الداعي بحذف الجملة لا بحذف المسند إليه، بل لتبديل جملة بجملة، والداعي أن لا غرض متعلقا بإفادة صدور الفعل، بل الغرض إفادة وقوع الفعل على المفعول، ولأنه ربما يحذف الفاعل.
ولا يجب الإسناد إلى المفعول، وتجب القرينة والغرض الداعي نحو يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (1) أي الملة التي هي أقوم، حذف إشعارا بأنه بلغ من الفخامة مبلغا لا يمكن ذكره، ونحو: جاء القرية بمعنى أهل القرية.
[وأما ذكره فلكونه إلخ]
(وأما ذكره فلكونه) أي الذكر لا ذكر المسند إليه كما توهمه عبارة المفتاح، حيث قال أو لأن الأصل في المسند إليه كونه مذكورا؛ إذ أصالة الذكر لا يخص شيئا، (الأصل) الذي لا يعدل عنه إلا بسبب، ولا مقتضى للحذف كذا في
(1) الإسراء: 9.
الإيضاح، فإن قلت: لا يتوقف اقتضاء كون الذكر الأصل للذكر على انتفاء مقتضى الحذف؛ بل يكفي انتفاء القرينة (1)! ! .
قلت: كأنه لم يرد بالمقتضى ما يزيد على المصحح، بل ما يندرج فيه المصحح، إذ بوجود المصحح يتم المقتضى، ويثبت الاقتضاء، وجعله أول نكتة، والمفتاح أخر ذكره عن الكل، وكأن المفتاح جعله نكتة متبذلة، ولهذا قال السيد السند الذكر لكونه أصلا لا يوجب نكتة زائدة على كونه أصلا، والحذف لمخالفته الأصل يوجب نكتة باعثة عليه، معتدّا بها، فالحذف أعرف وأقوى في اقتضاء المعاني الزائدة على أصل المعنى، التي هي المقاصد في علم المعاني، فلذا يقدم الذكر.
والمصنف خالفه وجعله نكتة غريبة لا تنالها إلا أيدي نظر الخواص؛ لأنه لا يحتاج إلى معرفة أنه ليس في المقام شيء من مقتضيات الحذف، وهذه شأن الأنظار الجليلة، لكن ينبغي أن يذكر معه ولا مقتضى للعدول عنه، ولا يفوته القيد الذي به صار جليلا كما فات المفتاح.
(أو للاحتياط لضعف التعويل) على القرينة (أو التنبه على غباوة السامع) أو لغباوة السامع، أو توبيخه بالغباوة (أو زيادة الإيضاح والتقرير) إما للمسند إليه، أو لغرض تعلق بتكرير المسند إليه، كما في قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (2) حيث كرر اسم الإشارة، ولم يكتف في الحكم الثاني بما ذكر من اسم الإشارة للتنبه على أن هؤلاء الموصوفين بشرف الإيمانين ممتازون بكل من يستخر الهدى وكمال الفلاح، وكل منهما يكفي في تمييزهم فلإيضاح هذا الغرض ذكر المسند إليه، ولم يحذف بنصب القرينة على تقديره؛ إذ مع الحذف لا يتضح التكرار كمال الاتضاح، ولا يفصح عن الغرض المذكور كمال الإفصاح، وبهذا ظهر فساد رأي من قال: ليس الآية من قبيل اختيار الذكر على الحذف، إذ لو ترك (أولئك) الثاني لم يكن مقدرا بل كان ما بعده معطوفا على مسند «أولئك» الأولى.
(أو إظهار تعظيمه) لأن اللفظ مما يدل على كمال أو لتعظيمه (أو إهانته)
(1) قال في الإيضاح: وقيام القرينة شرط في الجميع: أي في جميع أغراض الحذف؛ لأنه لا يصح الحذف إلا مع القرينة، واعتبار البلاغة إنما يكون بعد اعتبار الصحة.
(2)
البقرة: 5.
إذا كان اللفظ مما يدل على نقصان (أو التبرك بذكره أو استلذاذه) أي وجدانه لذيذا أو إظهار هذه الأمور (أو بسط الكلام حيث الإصغاء مطلوب) قيل:
الأولى حيث السماع مطلوب للمتكلم؛ ليصح التمثيل بقوله: (نحو: هِيَ عَصايَ)(1) إلا فهو تعالى منزه عن الإصغاء، والأذن، وأقول أشار إلى أن القرآن نازل على لسان العباد عومل فيه معاملتهم في محاوراتهم، وينبغي أن يقول حيث زيادة الإصغاء مطلوب؛ لأن الإصغاء يحصل مع حذف المسند إليه بذكر المسند، وما يتعلق به، ولا يقتصر البسط على ما ذكره، بل ربما كان له دواع أخر، كالابتهاج والافتخار، وحيث للمكان أي في مكان الإصغاء مطلوب فيه، ولا قرينة على جعله مستعارا للزمان، حتى يصح تجويزه، ومما ينبغي أن يتنبه عليه- ولا تغفل- أن قوله: أو نحو ذلك في بحث الحذف في تركه في هذا البحث ليس لأن نكات الذكر استوفيت بالتفصيل، بخلاف نكات الحذف، فاحتيج إلى إشارة إجمالية إلى ما بقي هنالك، بخلاف هذا البحث، بل الإجمال فيما سبق إشارة إلى أن الأحوال المقتضية للخصوصيات ليست سماعية صرفة، بل مدارها على العقل السليم والطبع المستقيم، وتركها هاهنا للاكتفاء بالإشارة السابقة، وهكذا عادته كما سنشاهد أنه قد يأتي بالإشارة الإجمالية، وقد يتركه متابعة لدأب المفتاح.
ولا يخفي أن كون الذكر لأمثال هذه النكات لا يختص بما إذا قامت قرينة مصححة للحذف، حتى إذا لم تكن قرينة كان الذكر لانتفاء القرينة، لا لشيء من هذه النكات، إذ لا تزاحم بين أسباب الذكر. فقول الشارح المحقق: هذا كله مع قيام القرينة بظاهره لا يتم، والصواب: أن هذا كله يكون مع قيام القرينة، ومما ذكره المفتاح أنه قد يكون الذكر لكون الخبر عام النسبة إلى كل أحد، وأريد تخصيصه وتركه المصنف، لأنه زعم أنه فاسد؛ لأنه إن قامت قرينة على الخصوص فكونه عامّا، وإرادة التخصيص لا يوجب الذكر، وإن لم تقم قرينة فالذكر واجب لعدم قرينة الحذف، لا لاقتضاء عموم النسبة، وإرادة التخصيص،
(1) طه: 18، وفي ذكر المسند إليه هنا نكتة، وهي أنه لما كان السؤال عن العصا، وهي شيء معلوم لا يرتاب فيه، ولا يحتاج إلى السؤال عنه، فكأن ذلك أوقع في نفس موسى تشكيك السائل سبحانه له في حقيقة المسئول عنه، فلجأ موسى إلى التأكيد بذكر المسند إليه.
ودفعه الشارح المحقق بأن ينقح كلامه أنه قد يكون الذكر لانتفاء القرينة إلا أنه جعل عموم النسبة وإرادة التخصيص تفصيلا لذلك الانتفاء، لأنه بانتفاء كون الخبر خاصّا ينتفي قرينة الخصوص، وبانتفاء إرادة العموم ينتفي قرينة العموم، واعترض عليه السيد السند بأن عموم النسبة مع إرادة الخصوص بجامع مع قرينة الخصوص كأن يكون جوابا لسؤال أو غير ذلك. نعم يوجب عدم كون الخبر قرينة على المسند إليه وانتفاء كون الخبر قرينة لا يستلزم انتفاء القرينة مطلقا، والجواب أن مراد الشارح بعموم النسبة عمومه في هذا المقام، وشموله لمتعدد؛ وهو يستلزم انتفاء دلالة الخبر على الخصوص، وانتفاء دلالة غيره أيضا، وإلا لم يكن الخبر في هذا المقام عام النسبة إلى متعدد. ونحن نرده على الشارح بأن مراد المصنف أن الذكر لعدم القرينة لتحصيل فصاحة الكلام، والاحتراز عن التعقيد اللفظي؛ لأن الحذف بلا قرينة خلل في النظم، يوجب كون اللفظ غير ظاهر الدلالة، ولأنه مخالف القانون النحوي، لأن حذف المبتدأ عندهم لا يكون إلا لقيام قرينة، فلا تعلق له بهذا العلم، بل يكون مرجعه علم النحو.
والجواب عن اعتراض المصنف أنه كما يكون الحذف لمجرد التعميم لأنه إذا حذف المسند والخبر عام، ولا قرينة على الخصوص- يحمل الكلام على عموم الحكم، دفعا للترجيح بلا مرجح، بكون الذكر عند قصد التخصيص، والخبر عام النسبة لئلا يتبادر الذهن إلى أن الحذف لمجرد التعميم، لشيوع الحذف لذلك، فمع وجود القرينة على الخصوص بذكر المسند إليه الخاص، لئلا يفهم في بادئ الرأي العموم ويغفل عن القرينة ورعايته.
(وأما تعريفه) أي جعل المسند إليه معرفة وهو ما وضع ليستعمل في شيء بعينه أما وضع لشيء بعينه والأول هو المشتهر بين الجمهور، والثاني هو الذي حققه بعض المتأخرين، وهو المعتبر المنصور، وإن أردت كمال تحقيقه فعليك بشرح الرسالة الوضعية لنا، فإنا بذلنا فيه جهدنا المقدور.
وبالجملة لترجيح التعريف على التنكير نكتة هي ملاك التعريف، ولا بد منها في اختيار كل قسم من أقسام التعريف، إذ اختيار كل قسم منها في إفادة المسند إليه مثلا، أن مقام الإفادة لطالب التعريف يقتضيه، وقد بينه المفتاح، وكأنه
تركه المصنف ظنّا منه أن العام لا يتحقق إلا في ضمن الخاص، فنكتة الخاص يكفي لإيراد العام، وليس كذلك لما عرفت أن اختيار الخاص لنكتة تدعو طالب التعريف إليه، وهذا أتم مما قيل: ارتفاع شأن الكلام بأن لا يغفل من نكتة العام بعمومه، ومن نكتة الخاص بخصوصه، وقد تنبه المصنف لذلك فأوردها في الإيضاح (1)، وهي قصد إفادة المخاطب فائدة كاملة معتدا بها، وفائدة الخبر إما الحكم بكون المسند للمسند إليه، وإما الحكم بعلم المتكلم بها، وكلما زاد على أصل الحكم بشيء على شيء خصوص زاد الفائدة، لكن ما لم يوجب البعد عن حد الوقوع إلى أن لا يقبل الخبر من المتكلم، وخصوص الحكم إما بخصوص المسند إليه إما بالتعريف أو التقييد، أو تكثير المحكوم عليه بالتعميم، لا على سبيل الترديد، وإما بغير ذلك، ولكل مقام، كما أن لكل قسم من التعريف مقاما ولذا فصل.
وبما ذكرنا نقحنا ما ذكروا في هذا المقام واندفع ما يرد على قولهم، كلما كان الحكم أبعد كانت الفائدة في الإعلام به أقوى، لأنه لا يتم لأن الحكم ربما يخرج بالبعد عن خبر القبول، واندفع ما يتجه على كون الفائدة في المعرفة أتم أنه يمكن تخصيص النكرة بالوصف حتى لا يشارك فيه غيره، ولا يكون للمعرفة عليه مزية، وذلك لأنه خصوص حصل بما زاد على التنكير من الوصف، وناب مناب التعريف، وله مقام ربما لا يوجد حيث وجد مقام التعريف. وأما ما ذكره الشارح من أن التعريف أتم من هذا التخصيص لأنه وضعي بخلاف تخصيص النكرة قبيحة عليه أن الفائدة التي تدور على الخصوص بعد فهم الخصوص لا محالة من النكرة المخصوصة، لا يمكن أن يكون في المعرفة أقوى، لكون الخصوص فيه وضعيّا. على أنه إن أراد الوضع الإفرادي فلا يوجد في المعرف باللام والمضاف، وإن أراد ما يعم الوضع التركيبي فيوجد في النكرة الموصوفة، واندفع أيضا ما يرد على قولهم: كلما ازداد المسند إليه خصوصا ازداد الحكم بعدا وصارت فائدة الحكم أتم، وكلما ازداد عموما ازداد الحكم قربا، وصارت أنقص، من أن:
جاءني كل عالم أبعد من: جاءني زيد؛ إذ قد عرفت أن المراد العموم على سبيل
(1) انظر الإيضاح ص 40 وما بعدها.