الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يشمل الجوامد، نحو: كان زيد إنسانا، ورفع نحو ينفعك في هذا المقام أيضا.
(وأما تركه) أي: ترك تقييد الفعل بمفعول، ونحوه (فلمانع منها) أي: من التربية جعل انتفاء المقتضي- أيضا- من المانع، ويعلم من بيان ترك تقييد الفعل ترك تقييد الخبر بكان وأخواتها، كما علم من بيان فائدة تقييد الفعل فائدة تقييد خبر كان بكان. قال الشارح: كعدم العلم بالمقيدات، أو عدم الاحتياج إليها، لظهور انحسار المطلق في المقيد، أو لعدم تعلق عرض بالقيد، أو لعلم السامع بالقيد، فإذا قلت: فما فائدة الإخبار؛ لأن المطلق- أيضا- معلوم حين معرفة القيد، قلنا: يمكن أن يعرف المخاطب: أن جاء رجل في هذا الوقت، ولا يعرف: أنه زيد، فإن قلت: جاء زيد يعرف مجيء زيد في هذا الوقت مستغنيا عن بيان القيد، ثم قال: أو خوف انقضاء الفرصة، أو عدم إرادة أن يطلع السامع، أو غيره، يعني: بإخبار السامع إياه، أو خوف أن يتصور المخاطب: أن المتكلم مكثار، يعني: أن يصدق بذلك، وإلا فتصور كونه مكثارا لا يضر، وضرر التصديق به أن يتنفر منه، ولا يصغى إلى كلامه أو قادر على التكلم، فيتولد منه عداوة وما أشبه ذلك.
[وأما تقييده بالشرط]
(وأما تقييده)(1)، أي: الفعل وما يشببه (بالشرط) نحو: إن تكرمني أكرمك، وإن تضربني، فأنا ضارب، وفيه: أن التقييد في قولك: إن كان زيد أبا لعمرو فأنا أخ له، وليس للفعل، ولا شبهه، بل للنسبة، فالشرط قيد للجزاء لا لمسنده، وبالجملة جعل الشرط قيدا تقتضي أن يكون الكلام التام هو الجزاء ويكون الشرط قيدا له، إما بمجموعه، أو لمسنده، وهو المنطلق لجعل الإسناد إليه من خواص الاسم، ولحصر الكلام في المركب من اسمين أو فعل واسم، إلا أنه يخالف ما ذهب إليه الميزانيون: أن كلا من الشرط والجزاء خرج عن التمام بدخول أداة الشرط على جملتين، والجزاء محكوم به والشرط محكوم عليه، والنسبة المحكوم بها بينهما، وليس شيئا من نسبتي الشرط والجزاء.
قال السيد السند: ليس كون الشرط قيد الجزاء إلا ما ذكره السكاكي، وفي
(1) أي الفعل مسندا في الجزاء، فالشرط قيد لحكم الجزاء كالمفعول ونحوه؛ لأن قولك:«إن جئتني أكرمك» بمنزلة أكرمك وقت مجيئك.
كلام النحاة برمتهم، حيث قالوا: كلم المجازاة تدل على سببية الأول، ومسببية الثاني إشارة إلى أن المقصود هو الارتباط بين الشرط والجزاء، فينبغي أن يحفظ هذه الإشارة، ويجعل مذهب عامتهم ما يوافق الميزانيين، وكيف لا؟ ولو كان الحكم في الجزاء لكان كثير من الشرطيات المقبولة في العرف كواذب، وهو ما لا يتحقق شرطه، فيكون قولك: إن جئتني أكرمك كاذبا إذا لم يجئ المخاطب، مع أنه لا يكذبه العرف، وذلك لأن انتفاء قيد الحكم يوجب كذبه، وفيه ما عرفت من أنه لا يخص السكاكي؛ لأن حصر الكلام في القسمين المذكورين يقتضيه اقتضاء بينا، وجعل الإسناد إليه من خواص الاسم ظاهر فيه، ولا يلزم كذب القضايا التي شروطها غير متحققة؛ لأنه يجوز أن يكون المراد بالجزاء في قولك: إن جئتني أكرمك: أني بحيث أكرمك على تقدير مجيئك، وفي قولك: إن كان زيد حمارا فهو حيوان، أنه كائن بحيث يكون حيوانا على تقدير الحمارية، وفي قولك:
إن كان الآن طلوع الشمس، كان النهار موجودا أنه يكون النهار بحيث يتصف بالوجود على تقدير طلوع الشمس الآن، وعلى هذا القياس.
وإشارة قولهم المجازاة تدل على سببية الأول ومسببية الثاني إلى أن المقصود الارتباط بينهما غير سديد، بل هو كقولهم: في للظرفية، أي: لظرفية مجرورة لغيره، وله نظائر لا تحصى، ولم يقصد بشيء أن المقصود الارتباط بينهما، فإن قلت: إذا دار الأمر بين ما قال الميزانيون وبين ما قاله النحويون، فهل يعتبر كل منهما مسلكا لأهل البلاغة أو يجعل الراجح مسلكا؟ وأيهما أرجح؟ قلت: الأرجح تقليل المسلك تسهيلا على أهل التخاطب والاصطلاح، ولعل الأرجح ما اختاره النحاة، لئلا يخرج الجزاء عن مقتضاه، كما خرج الشرط؛ إذ مقتضى التركيب أن يكون كلاما تامّا، وأيضا هو أقرب بالضبط؛ إذ فيه تقليل أقسام الكلام، ولو اعتبره الميزانيون كما اعتبره النجاة؛ لاستغنوا عن كثير من مباحث القضايا والأقيسة، فكن حافظا لهذه المباحث النفيسة.
ومثل الشارح المحقق للتقييد بالشرط بقوله: أكرمك إن تكرمني، وإن تكرمني أكرمك، ولم يقصد بذلك: أن التقييد كما يكون للجزاء المذكور يكون للمحذوف؛ لأن النحاة جعلوا: أكرمك إن تكرمني محذوف الجزاء لعدم صحة
تقديم الجزاء على الشرط، بل قصد أن الشرط كما يكون قيدا للجزاء المتقدم يكون قيدا للجزاء المتأخر، فإن علماء المعاني لا يجعلون المتقدم على الشرط دالا على الجزاء، بل يجعلونه نفس الجزاء كما صرح به الشارح نفسه في بحث الإيجاز والإطناب والمساواة، وقال: حذف جزاء الشرط في مثل هذا التركيب لحذف المستثنى منه في المستثنى المفرغ له لرعاية أمر لفظي، لا يعتبره علماء هذا الفن، فإن قلت: لو جعل أكرمك إن تكرمني، من تقديم الجزاء على الشرط كان فيه مخالفة القانون النحوي المشهور، فلا يكون بليغا لانتفاء الفصاحة، قلت: لا شبهة في قوة هذه الشبهة، ولا يندفع إلا لتخصيص قولهم: مخالفة قانون النحوي المشهور بقانون لم يدع إليه أمر لفظي، ثم كون الشرط قيدا للجزاء بينه الشارح المحقق: بأن قولك: إن جئتني أكرمتك، بمعنى أكرمك وقت مجيئك، وليس كذلك بأنه قيد للجزاء؛ لأنه بمنزلة أكرمك على تقدير مجيئك، وكيف ولو لم يكن كذلك لكان إذا جئتني أكرمك من التقييد بالظرف لا بالشرط؟ لأن إذا ظرف مصرح، وله حيثيتان ظرفية، وتعليق، فباعتبار الظرفية تقييد بمفعول ونحوه، وباعتبار التعليق تقييد بالشرط، ومن مرجحات اعتبار النحوي أنه على مذهبهم لا يحتاج قولهم: إن تكرمني، فأكرم زيدا إلى تأويل؛ لأنه إما لطلب إكرام مقيد بتقدير إكرام، وإما لتقييد طلب الإكرام بتقدير إكرام على إطلاق اختلاف بين الشافعية والحنفية، وعلى مذهب الميزانيين لا بد من تأويل الإنشاء بالخبر لتمكن الحكم بين الشرط والجزاء.
(فلاعتبارات لا تعرف إلا بمعرفة ما بين أدواته من التفصيل) أي بما ذكر مفصلا (وقد بين ذلك) التفصيل (في علم النحو)(1)، والأولى: الاقتصار على قوله: من التفصيل في علم النحو، وفيه تعريض للسكاكي بأنه أتى بتطويل، حيث أتى بتفصيل في علم النحو، وإشارة إلى وجه إسقاطه تفصيله، واختار أدواته ليشمل الحروف والاسماء، ولا يخفى أن الحوالة إلى علم النحو إنما تصح لو كفى معرفة ما بين أدواته في معرفة الاعتبارات، وما ذكره لا يفيد إلا توقف
(1) لا يخفى أن تلك الاعتبارات اعتبارات نحوية، وليست في شيء من اعتبارات البلاغة إلا أن ينظر إلى دلالة أدوات الشرط على تعليق الجزاء بالشرط في أخصر عبارة، فتكون نظير حروف العطف فيما سبق، وذلك وجه ضعيف من وجوه البلاغة. بغية الإيضاح (1/ 186).
معرفة الاعتبارات على معرفة التفصيل، ولا يفيد معرفتها بمعرفته، فالأولى فلاعتبارات يعرف بمعرفة ما بين أدواته من التفصيل، ولا يذهب عليك: أن التقييد بمفعول ونحوه- أيضا- لاعتبارات لا تعرف إلا بمعرفة ما بين المفاعيل، وما بين أشباهها من التفاوت وقد فصل في النحو، ولا اختصاص لما ذكره بالشرط، وقد عرفت وجه التخصيص إن كنت ذا تنبه في سماع ما ألقى إليك.
(ولكن لا بد هاهنا من النظر في (إن وإذا ولو)) لأن لها اعتبارات، لا نفي معرفة التفاوت تنبيها على ما فصل في النحو بمعرفة تلك الاعتبارات والتفاوت بين إذا وأن لا ينفيها قول النحاة: إن إذا تتضمن معنى إن: لأنهم لم يقصدوا إلا تضمنه أصل معنى أن دون خصوصياته، ولا بد من النظر في ما ومن- أيضا- لأن أحدهما للعاقل، والآخر لغير العاقل، وفي استعمال أحدهما مقام الآخر اعتبارات لطيفة محتاجة إلى البيان، وتقديم (إن) على إذا، مع أن مفهومه عدمي، ومفهوم إذا وجودي؛ لأنه الأصل في الشرط (فإن وإذا للشرط) أي:
لتعليق أمر بغيره في الاستقبال (1)(لكن أصل إن عدم الجزم) من المتكلم، بل عدم التصديق لقول النحاة إنها تستعمل للمعاني المحتملة المشكوكة (بوقوع الشرط) أو لا وقوعه، إذ الشرط قد يكون سلبا (وأصل إذا الجزم) فاستعمال (إن) في عدم الجزم، واستعمال إذا في الجزم على الأصل لا يستدعي نكتة سوى اعتبار كون ذلك الأصل، وإذا عرفت أن المراد بالجزم التصديق، ونظيره ما في تعريف القضية بالقول الجازم الموضوع للتصديق والتكذيب، فإن الجزم فيه بمعنى التصديق، وذكر وقوع الشرط، لا بخصوصه لظهور أن الشرط ربما يكون سلبا فلا يرد أن بيانه لا يشمل ما إذا كان الشرط سالبا، وأنه لا يفيد أنه ليس الظن موقعا لأن، وأنه موقع لإذا، نعم، في عبارته إغلاق ما، فإن قلت: كما أن الأصل (إن) عدم الجزم (بوقوع الشرط) أولا وقوعه، كذلك الأصل فيه عدم الجزم بنقيض الشرط، فلم لم يتعرض له؟ قلت: لأنه لم يذكر فيه إلا ما عدل فيه من عدم الجزم بالوقوع أو عن عدم الجزم باللاوقوع، ولم يذكر ما عدل فيه عن عدم الجزم بنقيض الشرط، وقال الشارح المحقق؛ لأنه بصدد الفرق بين «إن وإذا»
(1) أي لتعليق حصول الجزاء بحصول الشرط في الاستقبال.
وعدم الجزم بالنقيض مشترك بينهما، وفيه بحث؛ لأن عدم الجزم بالنقيض في «إن» بمعنى الشك فيه وعدم الجزم بالنقيض في إذا بمعنى الإنكار، فلا اشتراك، بل الفرق باعتباره أيضا قائم، وما سوى إذا من أسماء الشرط لم يفارق إن، فلذا خص الفرق بإن وإذا، لم يتعرض لما سواهما. قال الرضى في بحث المجازاة، وجب إبهام كلمات الشرط، لأنها كلها تجزم لتضمنها معنى إن التي هي للإبهام، فلا يستعمل في الأمر المتيقن المقطوع به، لأنه لا يقال: إن غربت الشمس أو طلعت، فجعل العموم في أسماء الشرط كاحتمال الوجود والعدم في الشرط الواقع بعد «إن» لأنه نوع عموم أيضا، والشرط بعد هذه الأسماء كالشرط بعد «إن» في احتمال الوجود والعدم هذا.
(ولذلك) المذكور من الأمرين، وهو كون الأصل في «إن» عدم الجزم بوقوع الشرط، والأصل في «إذا» الجزم (كان) أي صار الحكم (النادر موقعا) أما تميزه، فيكون بمعنى النادر الوقوع، وحينئذ قوله (لأن) متعلق بكان، وأما خبر لكان، أي: كان الحكم النادر محل وقوع أن، والمراد بكونه؛ لأن حقيقة وتجوزا، فإنه لندرته، إما مشكوك؛ فيكون موقع إن حقيقة، وإما مجزوم به، فهو لكونه ملحقا بالمشكوك موقع؛ لأن لا يقال: كيف يكون النادر موقعا؛ لإن حقيقة؟
والندرة ترجح جانب العدم، لأنا نقول: المراد بالنادر أعم من النادر المطلق، والنادر بالنسبة كما يدل عليه ما سيأتي.
(وغلب) إما من التغليب أو الغلبة (لفظ الماضي) أي: اللفظ الدال بالوضع على الزمان الماضي، سواء كان الفعل الماضي أو المضارع، مع لم، ولذا قال: لفظ الماضي، ولم يقل الماضي؛ لئلا يتبادر منه الفعل الماضي، فإن قلت:
عرف الفعل الماضي بما فسرت به لفظ الماضي، فلا يترجح على الماضي، قلت:
أردت بالوضع أعم من الوضع التركيبي، فكان شاملا للم يضرب؟ والمعتبر في التعريف الوضع الإفرادي، فخرج عنه: لم يضرب (مع إذا) لأنه أنسب بالجزم بالوقوع؛ لأن الواقع فيما مضى أحق به، ويستفاد مما ذكر، أن اللفظ (1) المستقبل غلب مع «إن» ، وإن الكثير صار موقعا لإذا (نحو: فَإِذا جاءَتْهُمُ
(1) إنما كان هذا بالنظر إلى اللفظ، لأن الماضي معها ينقل إلى الاستقبال.
الْحَسَنَةُ) أي: قوم موسى جنس الحسنة قالُوا لَنا هذِهِ أي: لأجلنا هذه لا لغيرنا، يعني: لا سبب لهذه الحسنة إلا نحن (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي:
بلية (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى) ويقولون هذه بشآمة موسى (وَمَنْ مَعَهُ)(1) من المؤمنين، وسبب حدوثها هم، والأظهر أن المراد بمن معه: هارون، والتطير بموسى، من معه لتنزيل موسى ومن معه منزلة الفال الرديء؛ إذ التطير التشاؤم بالفال الرديء، على ما في القاموس، ولا يخفى أن اللام في: لنا، للتعليل، لا للاختصاص؛ لأنه مقتضى تطيروا بموسى، ومن معه، فتفسير الشارح قوله لنا:
هذه ناقة بأنه مختصة بنا محل نظر، وإنما حصروا سببية الحسنة في أنفسهم دون سببية السيئة في موسى ومن معه، ولم يقولوا بموسى، ومن معه: يطيروا؛ لادعاء ظهور حصر الشآمة في موسى، ومن معه، بخلاف السببية للحسنة، فإن الله تعالى يرزق كل بر وفاجر وينعّم كل صالح وطالح، ولذا كثرت الحسنة، وغلبت على السيئة، ولم يراع في التمثيل ترتيب الممثل؛ لأن الآية منعتها (لأن المراد) أي: أتى بالماضي مع إذا في جاءت الحسنة؛ لأن كذا في الإيضاح، والأظهر صح تمثيل المجيء بإذا مع الماضي، للقطع بوقوعه، ورعاية المناسبة بقوله:
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ لأن المراد (الحسنة المطلقة) لا المقيدة التي هي فرد من أفرادها نوعا كان أو جنسا (ولهذا عرفت تعريف الجنس)(2) دلالة على إطلاقها؛ لأن الجنس الكثير الأفراد، كالواجب الوقوع، لكثرته واتساعه في الأنواع الكثيرة، وفيه تعريض بالسكاكي (3)، حيث قال: ولهذا عرفت تعريف العهد أو الجنس والعهد أقضى لحق البلاغة، ووجهه: أن العهد ينافي الإطلاق فضلا عن أن يكون أقضى لحق البلاغة، ولعمري أن هذا من مطارح الأنظار ومسارح الأفكار، ولقد أطال فيه الشارح المحقق، وزاد عليه ما زاد السيد السند المدقق، ونحن لا نرضى بأن نورد كلماتهم المستجلبة لمزيد الإطالة بعد أن هدينا إلى وجه كلامه، وشممنا نكهة مرامه فنهدي بذلك للهداية، ونعينك بالدراية عن كثرة الرواية، فنقول: المراد الحسنة المطلقة ولإرادته طريقان أحدهما: الواضح
(1) الأعراف: 131.
(2)
يعني الحقيقة في ضمن فرد مبهم بدليل إسناد المجيء إليها.
(3)
المفتاح ص 130.
غير المختفي عن أحد، وهو الذي ذكره المصنف، والثاني: أن يراد بالحسنة: ما يطلق عليه الحسنة، فيجمع لفظ الحسنة بين الجنس، وكل فرد فيعرف تعريف العهد بناء على أن الجنس الذي هو حصة من هذا المفهوم، لتعينها بكثرتها واتساعها صار كالمعهود المذكور في التقرر في ذهن السامع، ويراد بهذا الاعتبار من لفظ الحسنة، ولا شك أنه أفضى لحق البلاغة، حيث جعل تعينه لكثرتها نصب العين، ورجح في التعين على كل فرد من أفرادها، مع أن المتوقع إبهامها، وتعين الفرد؛ إذ الفردية- إنما يحصل بالتعين.
(والسيئة نادرة بالنسبة إليها) أي: الحسنة، قال المصنف: أي: أتى في جانب السيئة بلفظ المضارع مع أن، ونحن نبهناك على وجه آخر (ولهذا نكرت)(1) تنبيها على أن الجنس لقلة أفرادها لم يخرج عن الإبهام، ولم يستحق التعريف المقتضى للتعيين، وقال الشارح المحقق: نكرت للتقليل، وما ذكرنا أنسب، والأحسن الأبلغ أن يقال: أريد بالسيئة سيئة حقيرة، أي: إن أصابتهم سيئة حقيرة يتطيروا فضلا عن أكثر، وهذا كما يقال: إن حسر فلان فلها يراه مني، وهذا الذي ذكره من مجيء إذا مع الماضي في الكثير، وإن مع المضارع في النادر هو مقتضى الظاهر، ولا يمنع استعمال إذا في النادر مع التنكير والتعريف في النادر هو مقتضى لنكتة فلا يشكل. عليك قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ (2) وقوله: وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (3)؛ لأن استحقاق الإنسان لكل ضر، اقتضى أن يكون مباشرته لقدر يسير، كما يدل عليه لفظ المس كالمقطوع به، وأن ابتلاء الإنسان المتكبر المعرض بالشر المتعين؛ لكونه نصب العين بالنسبة إليه، يجب أن يكون مقطوعا به؛ إذ ضمير:«إذا مسه الشر» لذلك الإنسان المدلول عليه بقوله: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ (4) ولا منافاة بين جعل المساس مفهما للمباشرة القليلة، ومنع دلالته على قلة فاعله بدليل قوله تعالى: لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ
(1) لأن التنكير في أصله يفيد التقليل لدلالته على الوحدة، بخلاف «أل» الجنسية.
(2)
الروم: 33.
(3)
فصلت: 51.
(4)
فصلت: 51.
عَظِيمٌ (1) فما ذكره السيد السند أن جعل الشارح المس منبئا عن القلة هنا ينافي في ما ذكره سابقا من أنه: لا دلالة للفظ المس على القلة بالدليل المذكور ليس بشيء.
(وقد تستعمل (إن) في الجزم) عبارة المفتاح، والإيضاح في مقام الجزم، وهو الصواب؛ لأن إن لم تستعمل في الجزم فقوله في الجزم مصدر حينية، أي:
في وقت الجزم، وهو أنسب من تقدير المقام، كما فعله الشارح، والمراد الجزم بوقوع الشرط أو لا وقوعه، كما في شروح المفتاح، وإن قيده الإيضاح بالوقوع وتبعه الشارح المحقق في شرحيه (تجاهلا) لاقتضاء المقام التجاهل، كقولك: لمن سألك: هل زيد في الدار؟ وأنت تعلم أنه فيها إن كان فيها أخبرك، فتتجاهل؛ لتعلم هل مصلحة زيد في الإخبار؟ أو تعلم أنه ليس فيها فتقول: إن كان فيها أخبرك، فتتجاهل، لئلا يرجع السائل على الفور، وينتظر ساعة لعل زيدا يحضر (أو لعدم جزم المخاطب، كقولك لمن يكذبك)(2) أي: ينسبك إلى الكذب دائما، ويعدك من الكاذبين (إن صدقت فماذا تفعل؟ ) وقد عدل عن عبارة المفتاح: لمن يكذبك فيما تخبره إن صدقت، فقل لي: ماذا تفعل؟ لأنه يفيد النسبة إلى الكذب في قول ألقى عليه، وحينئذ إن صدقت بحسب أن يؤول: بأن ظهر صدقي، وظهور الصدق يحتمل أن يكون مشكوكا للمتكلم، ولا يكون فيه خلاف مقتضى الظاهر بخلاف صدقه، فإنه يعلمه جزما، فالمثال بظاهره ينطبق على ما ذكره، لا على ما في المفتاح؛ لكن إيراده عبارة المفتاح في الإيضاح بعينه يشعر بأنه لم يعدل عما ذكره، بل اختصر عبارته، وقوله: فماذا تفعل؟
للتقرير، أي: لا يقدر على ما يدفع خجالتك، والمثال يحتمل التجاهل للملائمة وقطع المنازعة، وعدم جزم المخاطب، فلذلك اكتفى به إلا أن عدم تنبهه على كونه محتملا كما نبه عليه في قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ (3) ربما يشعر بأنه خصه بالثاني، فكأنه لذلك خصه الشارح المحقق في الشرح بالثاني، وإن جعله في شرح المفتاح لهما، فإن قلت: جزم المخاطب باللاوقوع والموافقة معه يقتضي
(1) الأنفال: 68.
(2)
أي لمن يجوّز كذبك؛ لأن المقام في عدم جزم المخاطب.
(3)
البقرة: 23.
استعمال لولا اختصاص إن بالمشكوك، قلت: نزل جزمه باللاوقوع منزلة الشك تنبيها على أن الجزم باللاوقوع مما لا يليق والغاية فيه الشك، وقد أشكل ذلك على الشارح المحقق في استعمال إن فيما نزل منزلة المحال، وأجاب عنه بهذا الجواب، وغفلته عن توجه الأشكال بعينه هنا من العجاب على أنه يمكن أن يقال:
استعير إن لغرضه دون لو؛ لأن «إن» أقرب مما هو المقصود لعدم دلالته على انتفاء الثاني لانتفاء الأول، فلو وإن كان أنسب من جهة دلالته على انتفاء الشرط، لكنه بعيد من جهة دلالته على انتفاء الجزاء، فلأن ترجيح من هذا الوجه، ومن النكت البديعة جعل معارضة اعتقاد المتكلم والمخاطب مورثا للشك كما يورث تعارض الدليلين الشك في الدعوى، ومنها: العدول إلى الشك؛ لأن القطع غير رائح، وقوله: إن صدقت فماذا تفعل، يحتمل الكل (أو تنزيله) أي:
المخاطب العالم بوقوع الشرط أو لا وقوعه وتخصيصه بوقوع الشرط، كما في الشرح غير ظاهر (منزلة الجاهل (1) لمخالفته مقتضى العلم) كقولك: لمن يؤذي أباه:
إن كان أباك فلا تؤذه؛ لأن مقتضى العلم بالأبوة عدم الإيذاء، ذلك أن تجعل نكتة التنزيل جريه على موجب الجهل يفرق بين النظرين ذو الفضل، ومن النكت الدقيقة: تنزيل المتكلم علمه منزلة الجهل تنبيها على أن ما يشاهده مما يخالف العلم يشهد بجهله، كما في المثال المذكور، فإن مشاهدة إيذاء الابن تدعوه إلى الحكم بأنه ليس ابنا له (أو التوبيخ) وتعبير المخاطب على وقوع الشرط منه، أو اعتقاده إياه (وتصوير أن المقام لا اشتماله على ما يقلع الشرط عن أصله لا يصلح) ذلك المقام (إلا لفرضه) أي: لفرض الشرط، ولما جعل الشرط مقلوعا عن أصله بقالع في المقام، استشعر أنه لا يصح استعمال «إن» المنافي للقلع، فإن مقامه مقام التردد، فذكر لدفعه نظيرا مشهورا معلوم الحال فقال (كما يفرض المجال) لأغراض تسوي بينه وبين المتمكن في الاستعمال من قصد الإلزام والإبطال وغير ذلك بما يتفطن العقل به المجال.
فإن قلت: فيه تطويل المسافة بلا طائل؛ إذ يحصل الغرض بجعل القالع سببا
(1) يعني به الشاك؛ لأنه هو الأصل في استعمال «إن» والفرق بين هذا وما قبله أن الشاك غير حقيقي هنا، وفيما قبله حقيقي.
لتنزيله منزلة المشكوك، ولا وجه لجعله منزلا منزلة الباطل، ثم التنزل منه إلى جعله بمنزلة المشكوك، قلت: أجاب عنه السيد السند بمنع انتفاء الطائل؛ إذ فيه مبالغة في التوبيخ يقتضيها المقام.
ونحن نجيب: بأن القالع يحكم عليه بالبطلان، فقطع المسافة الطويلة لقوة هذا القاسر، فإذا بلغ مرتبة الباطل يسترجع عنه بالتنزيل إلى مقام المشكوك (نحو: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) أي: نهملكم، فنصرف عنكم القرآن، وما فيه من الأمر والنهي، والوعد والوعيد؛ إعراضا أو للإعراض، أو معرضين (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ)(1) فيمن قراء إن بالكسر، فإن الشرط، وهو كونهم مسرفين، أي: مشركين مقطوع به، لكن جيء بلفظ «إن» لقصد التوبيخ على الإسراف، وتصوير أن الإسراف من العاقل في هذا المقام يجب أن لا يكون إلا على مجرد الفرض والتقدير؛ لاشتمال المقام على الآيات الدالة على إن الإسراف مما لا ينبغي أن يصدر عن العاقل أصلا، ولاستعمال إذا في مقام التوبيخ مناسبة عظيمة الواقع؛ لعلها تكون كريمة عند البليغ في إشعاره تحقق وقوع الأمر هو عاد تأكيد للتوبيخ، وربما بتحقق التصوير بدون التوبيخ، كما في قولك: إن كان فلان أباك، فلا تؤذه؛ لأن فيه إن اشتمال المقام على صدور الإيذاء من المخاطب يقلع الشرط عن أصله، لكن لا توبيخ على وقوع الشرط، وإنما قال: فيمن قرأ بالكسر اتباعا لمذهب البصري، وإلا فالكوفي يجعل أن المفتوحة كإن للشرط، والبصري يجعله في تقدير «لإن» ويحذف الجار من «إن» قياسا ولا يخفى أن توفيق القراءتين يستدعي أن يجعل المكسور بمجرد السيئة تجريدها عن الشك (أو تغليب غير المتصف به) أي: بالشرط (على المتصف)(2) وهو ظاهر قول المفتاح، وإما لتغليب غير المرتابين ممن خوطبوا على مرتابيهم، وقد صرح المصنف في الإيضاح بأن المراد بغير المرتاب ظاهره لا غير معلوم الارتياب، حيث قال: فإنه كان فيهم من يعرف الحق، وإنما ينكر عنادا، فلا يصح حمل قوله غير المتصف على غير معلوم الاتصاف، ليكون المعنى: أو تغليب غير المقطوع باتصافه بالشرط على
(1) الزخرف: 5.
(2)
يعني تغليب المشكوك في اتصافه بالشرط على المجزوم باتصافه به، ولا يعني تغليب المجزوم بعدم اتصافه به على المجزوم فيه بذلك؛ لأن كلا منهما ليس هو المقام الأصلي لها، والمراد تغليب مقامها الأصلس على غيره.
المقطوع به، كما ذكره الشارح المحقق، وتبعه السيد السند لدفع إشكال ظناه، وأراد لولا هذا التأويل وهو: أن تغليب غير المتصف به على المتصف به بجعل الشرط قطعي اللاوقوع بالنسبة إلى الجميع، فلا يصح بذلك استعمال «إن» ، بل يصير المقام مقام لو، بل يجب انتفاؤه على ظاهره، ودفع الإشكال بأنه لو غلب المتصف على غير المتصف؛ لصار المقام مقام إذا، ففي العكس يصير المقام مقام «إن» أو لو، ولكل منهما ترجح من وجه على الآخر، كما نبهناك عليه، فتعارف في مقام تغليب غير المتصف على المتصف استعارة «إن» نعم، يمكن حمل عبارة المفتاح على ما حملاه، لكن عنه مندوحة بما ذكرنا، فكن معنا، ولا تكن في ريب، واجتنب من ربقة التقليد، فإنه أفحش عيب، وقد أطال في هذا المقام كلام الشارح المحقق والسيد السند في تزييف ما قيل في الدفع، وهو أضعف من كل ضعيف، فلم ترض بأن نمتزج به هذا البحث الشريف وطويناه على غره؛ إذ ليس نفعه كضره.
(وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا يحتملهما) لكن على الأول الخطاب لمجرد المرتابين؛ لأنهم الموبخون على الريب، وعلى الثاني الخطاب بمجتمع من المرتابين وغير المرتابين (والتغليب يجري في فنون) (1) أي:
أنواع (كثيرة)(2) جريان المقسم في الأقسام، والمقصود أنه أنواع كثيرة، ونبه بإطلاق الأنواع على أنها لم تدخل تحت الضبط والحصر والوظيفة، فيه ذكر عدة منه، ليتمكن الطالب من اعتباره، لكن ينبغي أن يعلم أنه يغلب الأكثر على الأقل، والأشرف على الأخس، إلا أن يكون لفظ الأعلى أثقل، أو كان مؤنثا مع تذكير الأدنى، فيغلب ما لفظه أخف، كالعمرين؛ أو يكون مذكرا كالقمرين، ويغلب المتكلم على المخاطب، والغائب والمخاطب على الغائب من غير عكس، وإن كان الغائب أكثر أو أشرف من المخاطب، والمخاطب أكثر وأشرف من المتكلم، منها تغليب الذكور على الإناث.
(1) لا يخفى أن التغليب معدود في المحسنات البديعية، فلا معنى لذكره هنا، وهو إعطاء أحد المتصاحبين أو المتشابهين حكم الآخر بجعله موافقا له في الهيئة أو المادة.
(2)
أي يجري في أساليب من الكلام لاعتبارات مختلفة غير محدودة ولا مضبوطة، وشأنه في ذلك شأن غيره من المحسنات البديعية.
قال الشارح المحقق: وذلك يكون بأن يجرى على الذكور والإناث صفة مشتركة المعنى بينهم على طريقة إجرائه على الذكور خاصة (كقوله تعالى:
وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) (1) عدت الأنثى من الذكور القانتين بحكم التغليب؛ لأن القنوت مما يوصف به الذكور والإناث، والقياس كانت من القانتات، هذا كلامه ولا يخفى أن إجراء الصفة على الذكور والإناث على طريقة إجرائه على الذكور خاصة هي التعبير عن مجموع أي الذكور القانتون، وقانتة، أو القانتات بالقانتين؛ إذ لا بد من شمول القانتين لمريم، حتى يصح جعلها منهم بحكم من التبعيضية، وحينئذ لا يصح قوله على طبق المفتاح والإيضاح: عدت الأنثى من الذكور؛ إذ عدت الأنثى من مجموع من الذكور، والأنثى أو الإناث، وإن أدل تلك العبارة بأن المعنى: جعلت بمنزلة الذكر في التعبير بلفظ يختص بالذكر، كما أول السيد السند في شرح المفتاح، فلا توجيه لقوله، والقياس: كانت من القانتات؛ لأن المراد أنه من جملة مجموع من القانتين، ومريم، أو القانتات، وليس القياس فيه القانتات، والتحقيق أن التغليب في الآية يتصور على وجهين:
أحدهما: أن يراد بالقانتين: القانتين والقانتات تغليبا: وثانيهما: أن يراد بالقانتين: الذكور، وتجعل مريم قانتا تغليبا: لوصف قنوتها الذي لا يكون إلا للرجال الكمّل على الصفات الأنوثة، وتجعل بذلك الاعتبار ذكرا، فتعد من القانتين، فحينئذ لا تغليب، ولا يجوز في القانتين؛ إذ المراد به الذكور الصرف، ومما يستدعي جعلها بمنزلة الذكور أنه تقبل تحريرها، مع أنه لم يكن المحرر إلا للذكور، وهذا هو معنى قول المفتاح: عدت الأنثى من الذكور بحكم التغليب، وبهذا الاعتبار يصح أن القياس: كانت من القانتات، لكن أول كلام الشارح يأبى عنه، وهكذا الحال في قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ (2) حيث قال المفتاح: عدّ إبليس من الملائكة بحكم التغليب عد الأنثى من الذكور يعني: غلب صفة عبادته وما به يشبه الملائكة على صفات الجن، فجعل من الملائكة لا أنه عبر بالملائكة عن إبليس، والملائكة لتغليب الأفراد الكثيرة على واحد مغمور فيهم، وقد نبه عليه بقوله: عدّ الأنثى
(1) التحريم: 12.
(2)
البقرة: 50.
من الذكور إشارة إلى الأنثى السابقة في كلامه، ولما حمله الشارح المحقق والسيد السند على ما نفيناه احتاجا إلى تأويل بعيد، لقوله: عدّ الأنثى من الذكور، يعني: هذا الحمل يشبه تغليب الذكور على الإناث في كون كل منهما استعمالا للفظ في غير الموضوع هو له، ولا يخفى أنه لا فائدة في هذا الكلام على أنه لم يبين المفتاح: إن عدّ الأنثى مجاز، وقد سبق على عد الأنثى تغليب آخر، وذكر بعد هذا التغليب تغليبات أخر، ولم ينبه في شيء منها على كونه مجازا، فلا بد من داع على تخصيص هذا المقام بالتنبيه، نعم، لا ينكر صحة التغليب في الآية باعتبار ما ذكره، إنما النزاع في كونه مراد المفتاح.
واعلم أن الشارح قال: ويحتمل أن لا يكون من في قوله تعالى: وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ للتبعيض، بل لابتداء الغاية، أي: كانت ناشئة من القوم القانتين؛ لأنها من أعقاب هارون أخي موسى، وأقول: لا يخفى أن الأنسب حينئذ- أيضا- أن يكون في القانتين تغليبا ليكون وصفا لها بصلاح آبائها وأمهاتها، ومنها: تغليب جهة الخطاب على الغيبة بأن يجتمع في شيء هاتان الجهتان، فيغلب الخطاب على الغيبة (و) نحو (قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (1)) فإن القوم مخاطب من حيث المعنى لحمله على المخاطب غائب من حيث اللفظ، فجعل وصفه على صيغة الخطاب.
ومنه: أنت وزيد فعلتهما، فغلب فيه خطاب المعطوف عليه على غيبة المعطوف.
قال الشارح المحقق: ومنها تغليب المتكلم على المخاطب أو الغائب، نحو: أنا وأنت فعلنا، وأنا وزيد ضربنا وفيه نظر؛ لأن ضمير المتكلم مع الغير موضوع لمتكلم معه غيره سواء كان غائبا أو مخاطبا، فهو في المثالين على حقيقته ولا تغليب، فالمثال المطابق لتغليب المتكلم على الغائب، نحو: نحن رجال نفعل، على صيغة المتكلم مع الغير، وجعل المفتاح من أمثلة التغليب قوله تعالى: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا (2) غلب اتباعه
(1) النمل: 55.
(2)
الأعراف: 88.
عليه، فنسب صفة العود التي هي لأصحابه إليه، والأوجه أنه غلب دخول أصحابه في ملتهم على دخوله، وعبر عن الجميع بالعود، ولا يبعد أن يستغنى عن التغليب بأن يجعل شعيب داخلا في ملتهم بحكم أن أطفال أهل الكفر إذا لم يكن أحد أبويهم مسلما داخلة في ملتهم وملحقة بهم، أو كان ذلك القول منهم باعتقاد أنه كان في ملتهم قبل نبوته، ومنها: تغليب العقلاء على غيرهم، كما قالوا في:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (1) ونحن نقول: رب العالمين، أريد به العقلاء، وتربية غير العقلاء لمصلحة العقلاء، فهو مندرج في تربيتهم، ولا يبعد أن يكون تغليب المذكر على المؤنث من شعيب تغليب العاقل على غيره.
(ومنه: أبوان، ونحوه) لم يقل: وأبوين عطفا على المثال السابق وفصله عنه، تنبيها على التفاوت بينه وبين السابقين، فإن السابقين مما للتفرد المغلوب حق في اللفظ قبل التغليب، وإنما غلب لما هو زائد على جوهر اللفظ من الهيئة، وهذا مما ليس للفرد المغلوب نصيب في اللفظ أصلا، وإنما أطلق بجوهره ومادته لمحض التغليب، وبهذا ظهر أن بين المثالين السابقين شدة اتصال اقتضت عدم الفصل بينهما، وتوهم أن الفصل بين الأول والثالث فصل بين المتناسبين ليس بشيء، والمراد بنحوه: مرفوعا عمران وقمران، وإنما عبر بلفظ عمر؛ لأنه أخف، وبلفظ القمر؛ لأنه مذكر، والمذكر متعين، وإن كان المؤنث أخف من كذا في الشرح، ولا يبعد أن يقال: تعين المذكر في القمرين أيضا؛ لكون القمر أخف من الشمس، لأنه في تقدير شمسة، ولك أن تجعل: ونحوه مجرورا، ولا يخفى المراد منه حينئذ على نحوك، ووجه صحة تثنية الأب مع أنه حينئذ ليس له قدر مشترك مما بحث عنه في محله على أن عدم القدر المشترك في أبوين دون عمرين ممنوع، لجواز أن يكون التغليب تغليب صفات الأبوة في الأم على صفات الأمومة وجعله من أفراد الأب ادعاء، ومما يجتمع فيه تغليبان تغليب العاقل على غير العاقل، والمخاطب على الغائب قوله تعالى: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ (2) فإن قوله: يذرؤكم، خطاب لمن خوطب
(1) الفاتحة: 2.
(2)
الشورى: 11.
بقوله جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وللأنعام عند القوم، وإن زيفه الشارح المحقق وخصه كالخطابين السابقين ففيه تغليب المخاطب على الغائب، وتغليب العقلاء على العقلاء؛ لأن لفظ كم يختص بالعقلاء، ويعقبه السيد السند بأن اجتماع التغلبين مقتضى الخطاب سواء فيه لفظ كم وكن، إذ الخطاب لا يكون إلا للعقلاء، ويدفعه أن خطاب غير العاقل لا يتوقف على التغليب، إذ لا تغليب في: يا جبال، ويا سماء، ويا أرض، فإنما يتعين التغليب للفظ كم فلذا تمسك الشارح في إثبات تغليب العقلاء على غيرهم بالخطاب بلفظ (كم)، ولم يكتف بمجرد الخطاب، ومنها تغليب الموجود على ما لم يوجد، وإسناد ما يخص الموجود إلى المجموع، ومثل له الشارح المحقق بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ (1) فإن المراد المنزل كله.
أقول: يحتمل النظم توجيها آخر لعله أدق ولا تغليب فيه، وهو: أن المراد بمضي الإنزال واستقبال الإيمان كون الإنزال قبل الإيمان، ولا يتوقف فلاح المسلم إلا على الإيمان بعد الإنزال، ولا يجب عليه الإيمان قبل الإنزال، ولما كان المظنة بالفطن المحصل أن يتفطن بسهولة لنكت داعية إلى إيراد إذا في غير مقام القطع من سماع نكت إيراد أن مقام الجزم لم يشتغل إلى تفصيلها، ووثق بتمكنه من تحصيلها، ونحن نقتدي به رجاء أنك تهتدي بها (ولكونهما) قال الشارح: تعليل لقوله: كان كل قدم ليثبت الحكم من أول الأمر معللا، فيكون له استقرار لا يكون لما يذكر تعليله بعده هذا، وفيه أن في وضع الدعوى أولا وتعليلها بعد حصولها بعد انتظار وطلب، ويكون ذلك الحصول أتم، ويمكن دفعه بأن في إلقاء الدليل من غير شعور بالدعوى مزيد سوق الدعوى وحصولها بعد انتظار، والتحقيق أنه دليل على قوله: وإن وإذا للاستقبال وبيان الكم لقوله: كان كل، والمتعارف في إيراد مثل هذا التعليل توسطه بين ما هو أن له وبين ما هو له، وما بين ما هو لم له، والشائع فيه ومن ثم أو ولذلك إلا أنه لما بعد المشار إليه صرح بذكره، ولا يخفى أنه ليس أول التعليل قدم على المعلل في هذا الكتاب فليت شعري لم أخر التعرض له إلى هنا (لتعلق أمر) هو الجزاء (بغيره) هو الشرط (في
(1) البقرة: 4.
الاستقبال) (1) هو متعلق بالتعليق بشهادة قوله فيما سبق، فإن وإذا للشرط في الاستقبال، فإن الشرط هنالك بمعنى تعلق أمر بأمر، وما رده الشارح به من أن التعليق في الحال مندفع بأن التعليق جعل الشيء معلقا، والجعل في الحال والمعلقية في الاستقبال، وتعليق الظرف بالمعلق، لا بالجعل، والشارح جعله متعلقا بغيره، وفيه تكليف تقدير المتعلق، أي: كائنا في الاستقبال، ولقد عدل عن عبارة المفتاح تعليق حصول أمر بحصول ما ليس بحاصل لأن ما ذكره مشترك بينهما وبين لو (كان كل من جملتي كل فعلية) أي: أمر إحادثا غير ثابت (استقبالية) غير قابلة؛ لأن تتقيد بزمان الحال والماضي، ولو تقيدت كان خروجا من وضعها الذي نحن في بيانه فلا يرد اطراد استعمال «إن» مع كان في الماضي، نحو: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ لأنه تجوز، ولذا قيل «إن» هنا بمعنى «إذ» ، وكذا ينبغي أن يطرد استعمال إذا مع كان في الماضي، وإن لم يذكروه؛ لعدم الفرق إلا بأن «إن» أقوى في الشرط، وكذا «إن» الوصلية المذكورة مع الواو كثيرا وبدونها بقلة، فإنه لمجرد الربط، ولا يخرج الماضي إلى الاستقبال، ولا يذكر لها جزاء، نحو: زيد وإن كثر ماله بخيل، ولا استعمال إذا مع الماضي كثيرا، لأنه مجاز شائع (ولا يخالف) على لفظ الخبر المجهول كما هو المنقول، أي: لا يخالف المتكلم (ذلك لفظا (2) إلا لنكتة) (3) لأن ظاهر الحال رعاية الموافقة بين اللفظ والمعنى، فلا يعدل عنها ما لم يكون ما يوجب العدول عن الظاهر، ولك أن تجعله خبرا معروفا على صيغة المخاطب أو الغائبة، أي: لا يخالف كل من جملتي كل ذلك لفظا، وفيه وإن تجعله أمرا مجهولا أو معروفا بأحد الوجهين، وفيه النكتة أمر يستحيل بدقة النظر حتى يحتاج إلى تأمل يجعل صاحبه ناكتا أي ضاربا رأس إصبعه على الأرض، ولا يخفى حسن موقعها في هذا المقام؛ لأن المراد غير ظاهر الحال، ولا يمكن المخالفة بجعل الشرط اسمية، لكنه
(1) متعلق بمحذوف تقديره كائنين في الاستقبال، ولا يتعلق بالمصدر وهو «تعليق» ؛ لأنه حاصل في الحال لا في الاستقبال.
(2)
أما في المعنى فالاستقبال باق على حاله ولو قلت: «إن أكرمتني الآن فقد أكرمتك أمس» لأن معناه: إن تعتد بإكرامي الآن أعتد بإكرامك أمس. بغية الإيضاح (1/ 193).
(3)
المثال الأخير على تقدير «إن تعتد بإكرامي الآن أعتد بإكرامك أمس» كما سبق.
أطلق جواز المخالفة لنكتة اعتمادا على اشتهار وجوب فعلية الشرط، وكأنه لم يقيد الفعلية بالخبرية ذهابا إلى جواز إنشائية الجزاء بلا تأويل إلى الخبر، كما صرح به الشارح، وجعل إنشاء ليس من قبيل مخالفة اللفظ للمعنى لنكتة.
وهاهنا بحث شريف لا ينبغي فوته، وهو أنه هل يصح كون الطلب جزاء بلا تأويل أو لا؟ كما ادعاه السيد السند وادعى أن الوجدان الصحيح لا يحكم بأن الإنشاء لا يقبل الارتباط بالشرط بدون التأويل إلى الخبر، فكل جملة شرطية محتملة للصدق والكذب، وإن جعل الجزاء إنشاء، والحق أن الشرط في قولك:
إن جاءك زيد فأكرمه مثلا قيد للمطلوب، لا للطلب، والطلب معلق بالإكرام المقيد، وكيف لا والطلب في الطلبي كالإخبار في الخبري؛ فكما أن القيد في:
أضرب زيدا غدا لم يتعلق بالإخبار، بل بالمخبر عنه، فكذلك في الطلبي، فالشرطية التي جزاؤها إنشاء لا تحتمل الصدق والكذب، نعم لو كان المقصود بالإفادة في الشرطية النسبة بين المركبين- على خلاف ما ذهب إليه المفتاح، وتبعه المصنف- كان الأمر على ما ذكره السيد السند فكان هذا الاختلاف يتفرغ على الاختلاف في النسبة التامة في الشرطية في أنها بين المركبين، أو في الجزاء، وكما لا يجوز جعل الشرط اسمية لا يصح جعلها طلبية ونحوها، وأن أولت إلى الخبرية، لا لأن أداة الشرط تمنع جعلها الطلب المؤول ونحوه، والاسمية شرطا؛ بل لأنه لا يساعده الاستعمال بناء على أن مناسبة الأداة بالفعلية الخبرية أشد فلم يرضوا بقوتها، وما ذكره الشارح المحقق من أن قوله لفظا إشارة إلى أن الجملتين إن جعلت كلتاهما أو إحداهما اسمية أو فعلية ماضوية، فالمعنى على الاستقبال يجب تأويله بأن المراد: إن جعلت كلتا الجملتين أو إحداهما أحد الأمرين من الاسمية والفعلية الماضوية، ولك أن تنبه على مذهب الكوفيين في: إن أحد من الناس جاءك فأنا جاء، فإنهم لا يقولون بالحذف والتفسير، بل يجيزون دخول إن على الاسمية (كإبراز غير الحاصل في معرض الحاصل لقوة الأسباب) المراد بالجمع المحلى باللام الجنس ليشمل ما له بسبب واحد، ولهذا ترك وصفه بالمتأخذة في وقوعه كما في المفتاح نحو: إن اشترينا كذا (أو كون) الأوضح أو لكون دفعا لتوهم عطفه على إبراز غير الحاصل كما وقع للبعض (ما هو للوقوع) أي: لتحقق الوقوع
(كالواقع) فلكون تامة، أو المعنى، أو لكون ما هو متعين للوقوع كالواقع، فالكون ناقصة كقوله: أفإن مت؛ (أو التفاؤل) من السامع (أو إظهار الرغبة في وقوعه)(1) من المتكلم (نحو: إن ظفرت بحسن العاقبة فهو المراد) على صيغة المتكلم مثال لإظهار الرغبة، وعلى صيغة المخاطب مثال لهما، أقول: أو للرغبة وما ذكره بيانا؛ لغلبة إظهار الرغبة للإبراز في معرض الحاصل أنسب بيان غلبة نفس الرغبة له، أو إظهار الخوف من وقوعه، فإن الخائف من شيء يكثر تصوره إياه حذرا عنه، فربما يخيل إليه حاصلا، ولا يخفى أن قولك إن ظفرت ربما يقع مع الأسباب المتأخذة، وربما يتعين وقوعه فلا يبعد أن يجعل في المتن مثالا للكل إلا أنا تتبعنا ما يلوح من الإيضاح، وأما وجه تخصيصه هذا مثال بالأخيرين ما لاح (فإن الطالب إذا عظمت رغبته) الظاهر إذا رغبت أو إظهار عظمة الرغبة (في حصول أمر يكثر) من الكثرة أو الإكثار (تصوره) أي:
الطالب: (إياه) أي: حصول ذلك الأمر، وفي الشرح، أي: ذلك الأمر، وما ذكرنا أنسب معنى، وما ذكره أنسب لفظا (فربما يخيل) ذلك الأمر (إليه) أي: إلى ذلك الطالب (حاصلا) فيعبر عنه لا محالة بالماضي (وعليه) أي: على الإبراز؛ لإظهار الرغبة، وفي الشرح، أي: على إظهار الرغبة ورد قوله تعالى:
وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ أي المباغاة إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً (2) أي:
الصيرورة عفافا، وإنما قال: وعليه لتفاوت بينهما؛ لأن الله تعالى منزه عن الرغبة، والمراد هاهنا لازمها، وهو كمال الرضاء به، وأيضا لا يجرى فيه البيان المذكور، وقوله هذا يشعر بأن المثال كان لإظهار الرغبة، وأجوبة إشكال تقييد النهي عن الإكراه على البغاء بإرادتهن التحصن مما يطلب من التعاسير.
(قال السكاكي: أو للتعريض) بعد ذكر قوة الأسباب، وكون ما هو للوقوع كالواقع لا بعد ذكر الأمور الأربعة كما توهمه العبارة؛ لأنه ذكر التفاؤل أو إظهار الرغبة في وقوعه بعد التعريض، وكأنه نسب هذا القول إلى السكاكي (3)، مع أن
(1) التفاؤل للسامع وهو ذكر ما يسره، والرغبة من المتكلم، والمثال المذكور صالح لهما.
(2)
النور: 33.
(3)
معطوف على ما ذكره السكاكي من الأسباب السابقة لإبراز غير الحاصل في صورة الحاصل، وإنما صرح الخطيب باسم السكاكي في هذا السبب مع أن ما سبق منقول عنه، لأن التعريض يحصل في ذلك،
…
-
الجميع مذكور في المفتاح؛ لأنه لم يجد هذا الوجه في كلام غيره بخلاف الوجوه الأخر، وقال الشارح المحقق: أشار به إلى ما فيه من الضعف والخفاء، ويبعده أنه لم يبين في الإيضاح لا ضعفا ولا خفاء، ولو علم فيه ضعفا وخفاء لما أهمله، وكان الضعف الذي أشار إليه أن التعريض لإسناده إلى من يمتنع منه الفعل، ولا دخل للمضي فيه، ويدفعه أن ذلك الإسناد لا يفيد وقوع الشرك من غير المسند إليه لو لم تكن صيغة الماضي، بل أنه سيقع على أن الإمكان الذاتي يكفي للإسناد بحسب الفرض أو الماضي؛ لأن اللام الموطئة لا تكون في الاستعمال إلا مع الماضي فهو لاتباع الاستعمال الواجب، ويدفعه أنه لا تنافي بين المقتضيات حتى يمتنع الاجتماع.
(نحو: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)(1) والخطاب لمن أوحى إليه كما يدل عليه قوله: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ (2) الآية، فقول الشارح المحقق الخطاب لمحمد- عليه الصلاة والسلام وعدم إشراكه مقطوع به، لكن جيء بلفظ الماضي إبرازا للإشراك في معرض الحاصل على سبيل الفرض، وتقدير تعريضا لمن صدر عنهم الإشراك منظور فيه، والأولى والخطاب لمن أوحى إليه (ونظيره في التعريض) مع ما بينهما من التفاوت لفظا فإن أحدهما شرط دون الآخر، وأحدهما إبراز في معرض الحاصل دون الآخر، ومعنى من حيث إن قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ ليس محض تعريض، بل للمخاطب منه نصيب؛ لأن هذا الحكم في حقه متحقق بخلاف وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فإنه محض التعريض وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي أي: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم كما بدليل:
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (3) لم يلتفت في الاستدلال إلى أن المتكلم ليس تارك العبادة، لأن ذلك لا يوجب التعريض، بل يحتمل أن يكون تنزيلا لعبادته منزلة العدم،
- ولو عبّر بالمضارع بدل الماضي، قلا يصح نكتة للتعبير بالماضي دونه كالأسباب السابقة، وأجيب عن السكاكي بأن ذكر المضارع في ذلك لا يفيد التعريض لكونه على أصله، والحق أنه يفيده لأن مبنى التعريض فيه على نسبة الفعل إلى من لا يصح وقوعه منه، وهى حاصلة في المضارع كالماضي.
(1)
الزمر: 65.
(2)
الزمر: 65.
(3)
يس: 22.
ولوّم نفسه على ترك العبادة الكاملة، ولا يحتمل أن يكون وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ تغليب أو يكون في المعنى وإليه رجوع الكل؛ لأنك عرفت أنه لا يصح تغليب المخاطب على المتكلم، وإن كثر (ووجه حسنه) (1) أي: التعريض المطلق أو حسن هذا التعريض، وخصوص ما ذكره يوافق الثاني إذ لا يجرى في قوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ إذ لا يصح حيث لا يريد المتكلم إلا ما يريد لنفسه، ولو قال: إلا ما يريد لمن يحبه لكان وافيا، والأول إنما يسوغ لو حمل قوله لنفسه على سبيل التمثيل (إسماع المخاطبين الحق) الأولى المطلوب لجواز أن يكون المتكلم مبطلا يريد ترويج باطله وإسماعه (على وجه لا يريد غضبهم) أما فاعل يريد أو مفعوله، وجزم الشارح بالثاني لاحتياج الأول إلى الرابط تقدير أو على وجه لا يجعلهم غضابا، أو على وجه يوجب رضاهم حيث يرونه مشفقا مؤديا (وهو) أي: ذلك الوجه (ترك التصريح بنسبتهم)، والألطف عبارة المفتاح، وهو ترك المواجهة بالتصريح
…
إلخ، فاعرفه (إلى الباطل وتعين على قبوله لكونه) أدخل في إمحاض النصح والشفقة (حيث لا يريد المتكلم لهم إلا ما يريد لنفسه)، قال السكاكي: ويسمى هذا النوع من الكلام المتصف يعني المفيد للإنصاف، وهو التسوية وعدم ترجيح نفسك على غيرك في أمر تنازع المخاطب فيه، وأصله من الإنصاف بمعنى: إعطاء النصف.
قال الشارح: ويسمى الاستدراج أيضا؛ لاستدراجه الخصم إلى الإذعان والقبول، ويقولون أنه مخادعة في الأقوال بمنزلة المخادعة في الأفعال، واعلم أنه كما يكون من نكت إبراز غير الحاصل في معرض الحاصل كون ما هو للوقوع كالواقع، يكون كون الشيء واضح اللزوم، إما في نفسه، أو بالنظر إلى لازم آخر فيستعار الماضي؛ لتحققه من حيث اللزوم، لا في نفسه كما ذكره المفتاح في قوله تعالى: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أي: يصادفوكم أو يأخذوكم، أو يظفروا بكم على ما في القاموس حيث قال: ثقفه، كسمعه: صادفه، أو أخذه، أو ظفر به، فلا يصح تفسيره ب: يجدوكم مشركو مكة، ويظفروا بكم على ما في الشرح يَكُونُوا لَكُمْ
(1) أي حسن هذا التعريض في قوله تعالى: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي، وما بعده. أما التعريض في قوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ فيفيد نسبته إليهم على وجه أبلغ من التصريح بنسبته إليهم.
أَعْداءً خالصي العداوة، على ما تفيده صيغة العدو من المبالغة وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ أي: بالقتل والضرب والشتم وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (1) أي: تمنوا ارتدادكم عن دينكم، حيث قال التعبير بالماضي؛ لأن للزوم ودادتهم أن يردوهم كفارا ومصادفتهم والظفر بهم لا يحتمل من الشبهة ما يحتمله لزوم إلا ولين لهما، أعني: كونهم أعداء وبسطهم الأيدي والألسن إليهم من كفرهم؛ لأنها واضحة اللزوم بالنسبة إليهما؛ لأن ودادتهم لكفر المؤمنين ثابتة ألبتة، ولا أحب إليهم من كفرهم؛ لكونه أضر الأشياء بالمؤمنين، وأنفعها للمشركين؛ لانحسام مادة المخاصمة، وارتفاع المقاتلة والمشاجرة، بخلاف العداوة وبسط الأيدي والألسن إليهم؛ فإنه يجوز أن ينتفيا لدى المصادفة بتذكر ما بينهم من القرابة والمعارفة، وبما نشأوا عليهم من قولهم: إذا ملكت فاسمح، أي:
فأحسن العفو، وأما انتفاء ودادة كفرهم بأن يسلم المشركون، وإن كان ممكنا محتملا؛ لكن لا يخفى أنه أبعد وأخفى، ولا يخفى أن كلامه صريح في أنه جعل الجزاء متعددا، لا المجموع، وحينئذ توجه عليه ما أورده المصنف على توجيه الكشاف لمعنى ودوا، وستعرفه، إن شاء الله تعالى، وهو أنه لا فائدة لتقييد ودادتهم بالظفر والمصادفة، وهو أمر مستمر لا يخص بأحد النقيضين، وفرع عليه أن الأولى جعل ودوا عطفا على مجموع الشرط والجزاء حتى لا يتقيد بالظفر، وأورد عليه الشارح المحقق أنه يتجه مثله على قوله يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً إذ عداوتهم ثابتة ظفروا أو لم يظفروا، ولا يمكن فيه هذا التوجيه، فالوجه أن المراد: إظهار الوداد وإجراء مقتضياته، وكذا في الكون أعداء، ونحن نقول:
أولا أن العداوة بعد الظفر ووداد كفرهم غير بين؛ لأنهم يكونون حينئذ خدما وسبيا لهم، ولا يكون لهم اعتداد بشأنهم، فيجوز أن لا يكونوا متمنين لكفرهم، فيحتاج إلى الإخبار بخلاف الودادة قبل الظفر، فيكون للتقييد فائدة، وثانيا:
أنه يحتمل أن لا يودوا ولا يتمنوا كفرهم قبل الظفر؛ لأن في حبه ارتكاب مكاره ومشاق لا تكاد تحمل، فيكونون معرضين عن ذلك الوداد.
واعلم أنه قد أشار المصنف بقوله: كإبراز دون أن يقول: ولا يخالف ذلك
(1) الممتحنة: 2.
لفظا إلا لإبراز إلى أن للمخالفة ربما تكون نكتة أخرى، وهي إما ذكرها المفتاح عديله لقوله: كإبراز غير الحاصل في معرض الحاصل، حيث قال: وإبراز المقدر في معرض الملفوظ به، لانصبابة الكلام إلى معناه، كما في قولك: إن أكرمتني الآن، فقد أكرمتك أمس مرادا به: إن تعتد بإكرامك فاعتد بإكرامي إياك أمس، وأما ما ذكره الكشاف في قوله تعالى: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ الآية، حيث قال:
الماضي وإن كان يجرى في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب، فإن فيه نكتة كأنه قيل: ودوا قبل كل شيء كفركم، وارتدادكم، يعني: أنهم يريدون بكم مضار الدين والدنيا جميعا من قتل النفس، وتمزيق الأعراض، وردكم كفارا أسبق المضار عندهم، وأدلها لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أزواجكم؛ لأنكم بذالون بها دونه والعدو أهم شيء عنده أن يقصد أعز شيء عند صاحبه، هذا كلامه. قال المصنف: وهو حسن دقيق، ونحن نقول: لا يختلج في وهمك أنه يستحق حينئذ أن يكون أول جزاء في الشرطية؛ لأنا نقول قد سلك في الذكر طريق الترقي إلى الأقوى، فالأقوى وهو من شعب البلاغة كما لا يخفى.
(ولو للشرط) أي: لتعليق حصول مضمون الجزاء بحصول مضمون الشرط فرضا (في الماضي مع القطع بانتفاء الشرط) لم يقل بانتفائه؛ لأن هذا الشرط بمعنى الجزاء الأول من الشرطية دون معنى قصد بالشرط الأول.
قال المصنف: فيلزم انتفاء الجزاء كانتفاء الإكرام في قولك: لو جئتني لأكرمتك، ولذلك قيل هي لامتناع الشيء لامتناع غيره، هذا كلامه، يعني به: لامتناع الجزاء (1) لامتناع الشرط، وأشار بذلك الكلام إلى أن ليس صريح (لو) امتناع الجزاء لامتناع الشرط، بل هو المآل، وصريحه تعليق حصول مضمون الجزاء بحصول مضمون الشرط، مع القطع بانتفاء الشرط، ويلزم منه انتفاء الجزاء، وقال السيد السند: إن انتفاء الشرط أيضا ليس صريح معنى لو، بل مآله، إذ معناه فرض مضمون الشرط، وتقديره في الماضي، وتقدير الشيء في الماضي يستدعي انتفاءه، وفيما ذكره السيد السند نظر؛ إذ معنى أداة الشرط:
(1) يعني أن «لو» موضوعة للدلالة على امتناع الجزاء وعلى أن امتناعه ناشئ عن امتناع الشرط، ولا يريد أن دلالتها على امتناع الشرط بالوضع وعلى امتناع الجزاء باللزوم.
التقدير الشامل للمحقق والمقدر كما صرح به في بعض تصانيفه، فلا يفيد انتفاء المقدر، وفيما ذكره المصنف ما أورده الشيخ ابن الحاجب: أن القطع بانتفاء الشرط لا يستلزم القطع بانتفاء الجزاء؛ لأن الشرط سبب، وانتفاء السبب لا يستلزم انتفاء المسبب، وقال الرضى: الأولى أن الشرط ملزوم، وانتفاء الملزوم لا يستلزم انتفاء اللازم، وبالجملة قال كثير من الفحول إن الحق أنه لانتفاء الأول لانتفاء الثاني؛ لأنه يستدل بامتناع الجزاء على امتناع الشرط دون العكس، وقال الشارح المحقق: ليس معنى قولهم: لو لامتناع الثاني لامتناع الأول استدلال بامتناع الأول على امتناع الثاني حتى يرد ما أورد؛ بل معناه: أن لو لانتفاء الجزاء في الواقع بسبب انتفاء الشرط، فمعناها سببية انتفاء مضمون الشرط في الخارج لانتفاء الجزاء، فاعتراض الشيخ ابن الحاجب وأشياعه إنما هو على ما فهموه من كلام القوم، وقد غلطوا فيه غلطا صريحا، وكم من غائب قولا صحيحا، هذا كلامه، وفيه أنه حينئذ يكون (لو) حرف تعليل ونفي، لا تعليق، وإنما يكون حرف الشرط لو كان للتعليق، وتكون السببية لازمها المقصود، فلا نفي ما ذكره في دفع اشتباه الشيخ ابن الحاجب.
فقال السيد السند في شرح المفتاح: إن سببية انتفاء الشرط لانتفاء الجزاء لازم معناها، فإنها موضوعة لتعليق حصول أمر في الماضي بحصول أمر آخر مقدر فيه، وما كان حصوله مقدرا في الماضي كان منتفيا فيه قطعا، فيلزم لأجل انتفاء انتفاء ما علق به أيضا، ويتجه عليه مع ما عرفت منع لزوم انتفاء المعلق لأجل انتفاء ما علق به، يعني: ما ذكره الشيخ ابن الحاجب، فالوجه أنها موضوعة لتعليق أمر مقطوع بانتفائه بحصول أمر في الماضي، فيعلم منه انتفاء الشرط وسببيته لانتفاء الجزاء؛ لأنه علم من التعليق سببية الشرط، ومن انتفائه انتفاء الشرط، لأن انتفاء المسبب يستلزم انتفاء كل سبب وسببية انتفاء الشرط لانتفائه؛ لأن انتفاء المسبب يكون مسببا عن انتفاء السبب، وأن ليس لازما، فتأمل، فالصواب:
أن لو لتعليق أمر بغيره في الماضي مع القطع بانتفاء الجزاء، فيلزم انتفاء الشرط، لا ما ذكره المصنف.
فإن قلت: لا يصح ما ذكرته في قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ
لَفَسَدَتا (1).
وفي قوله صلى الله عليه وسلم في جواب من سأله عن حياة الخضر عليه السلام: «لو كان حيّا لزارني» (2).
قلت: الاستعمال الكثير في (لو) كونه لانتفاء الثاني لانتفاء الأول، وقد يجيء لمجرد التعليق والربط مع انتفاء الجزاء من غير دلالة، على أن انتفاء الثاني لانتفاء الأول في الواقع، فيستعملونها في مقام الاستدلال بانتفاء الجزاء على انتفاء الشرط، فهي حينئذ لانتفاء الأول لانتفاء الثاني، وهذا الذي صار عرف أرباب المعقول، حتى قال الشارح المحقق: هذا الاستعمال قاعدة أرباب المعقول، والآية الكريمة واردة على قاعدتهم، يعني: على استعمال عربي صار قاعدة لأرباب المعقول، لا أن القرآن نزل على قاعدتهم حتى يرد ما اعترض به السيد السند، أن فيه بعدا جدّا، لأن القرآن لم ينزل على أوضاع أرباب المعقول.
ونحن نقول: كيف يتصور هذا ولم يكن المعقولات حين نزول القرآن مدونة بالعربي؟ فلو لم يكن عرف لهم بلفظ عربي، لكن فيما ذكره الشارح المحقق من أن (لو) عند أرباب المعقول لمجرد الدلالة على اللزوم، ولهذا صح عندهم استثناء عين المقدم، نحو: لو كانت الشمس طالعة، فالنهار موجود، لكن الشمس طالعة نظر؛ لأنه ينافي ما قالوا: إن في (لو) إغناء عن استثناء نقيض التالي، وفي (لما) عن وضع المقدم، والوجه ما ذكرنا.
وقد تستعمل (لو) بمعنى (إن) وجعله المبرد قياسا، فتستعمل (كان) في التلازم بين شيء وشيء، مع أن اللازم أولى بكونه لازما لنقيض ذلك الشرط، فيلزم الاستمرار، وفي هذا الاستعمال ليس الجزاء فعلية استقبالية في (أن) و (لا) منتفيا ماضويا في (لو)، وجعل منه قوله عليه السلام كما ذكره الشارح، وقول عمر رضي الله عنه على ما في الرضي، وصوبه السيد السند في شرح المفتاح (نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه)(3).
(1) الأنبياء: 22.
(2)
قال الحافظ ابن حجر: لا يثبت. انظر المصنوعة للقاري (105).
(3)
أورده العجلوني في كشف الخفاء (2/ 428) وقال: «ذكر البهاء السبكي: أنه لم يظفر به بعد
…
-
ونحن نقول: يجوز جعل هذا الكلام على الاستعمال المشهور، أي: لم يصدر عنه عصيان له إلا الخوف، فيكون من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم، أو لا عصيان له إلا الخوف المفرط، فيكون فيه رده إلى ما بين الخوف والرجاء، فإنه أفضل، فعبر عن ترك الأولى منه بالعصيان مبالغة في برائته عن العصيان.
ثم نقول: تعليق الشيء يكون تعلقه بغيره أولى لا يستدعي قصد الاستمرار كما قالوا؛ بل يكفي فيه قصد شمول أزمنة الجزاء أزمنة الشرطين، فنقول: لو ضربني أمير لضربته، فيقصد وجود ضربك على تقدير ضرب الفقير بطريق الأولى، ولا يلزم منه استمرار ضربك، ولا يلزم أنه لو ضربك السلطان لضربته، ولا يبعد أن يقصد في ذلك الاستعمال: المبالغة في لزوم الجزاء لنقيض الشرط من غير قصد استمراره، فيقصد في المثال المذكور: أن عدم العصيان لازم لخوف صهيب بادعاء لزومه لعدم خوفه من غير قصد لزومه له، أو يقصد نفي سببية النقيض للجزاء، كما تقول لمن يظن بك أنك أثنيت عليه لإكرامك إياه: إن أهنتني أثنيت عليك، يعني: ثنائي لمحض محبتك ومعرفة حق كمالك، لا لما ظننته من إكرامك فإن الإكرام كالإهانة في السببية.
قال الشارح المحقق: وتستعمل (لولا) استعمال (لو) في: لو لم يخف الله لم يعصه، فيقال: لولا إكرامك لأثنيت عليك، فيقصد استمرار الإثناء، وذلك لأن (لولا) في معنى (لو) الداخلة على النفي.
ولا يخفى أنه لو تبع الكسائي لما استغرب مذهبه الرضى، وهو أن تقدير لولا زيد: لولا وجد زيد؛ لالتزام دخول (لولا) على الفعل إذ (لولا) هي (لو) دخلت على لا، فينبغي أن يقول: لأن (لولا) هي (لو) الداخلة على النفي، ولو اختار مذهب البصريين من أنها كلمة برأسها، فهي لا تدل على التلازم، بل على أن وجود (ما) بعد (لولا) مانع عن تحقق جوابه، فلا يتصور إفادته أن جوابه مع ثبوت ما بعده متحقق بطريق الأولى، ومن هذا تحققت أن نزاع
- البحث، وكذا كثير من أهل اللغة، لكن نقل في المقاصد عن الحافظ ابن حجر أنه ظفر به في مشكل الحديث لابن قتيبة من غير إسناد، وقال في اللآلئ: منهم من يجعله من كلام عمر، وقد كثر السؤال عنه ولم أقف له على أصل».
الكسائي مع البصريين ليس في مجرد تعيين المقدر بعد (لولا)، بل في المراد بتركيب فيه (لولا) الامتناعية أيضا.
ومنهم من تصدى لجعل أمثال: لو لم يخف الله لم يعصه جاريا على حقيقة (لو)، فجعل الجزاء مقيدا، أي: عدم العصيان المترتب على عدم الخوف، ولا يلزم من انتفائه انتفاء عدم العصيان، فليكن عدم العصيان المترتب على الخوف، وردّه الشارح المحقق بأن: الارتباط بالشرط غير معتبر في مفهوم الجزاء، وإلا لكان التقييد بالشرط تكرار، أو بأن الوجدان الصحيح حاكم بعدم اعتبار التقييد بالشرط في قولك: لو جئتني لأكرمتك، وبأن المنفي نفس الإكرام، لا الإكرام المرتبط.
ونحن نساعده بأنه: لو كان التقييد بالشرط معتبرا في الجزاء لكان رفع المقدم مستلزما لرفع التالي، وقد أجمع العقلاء بأن رفع المقدم لا ينتج، ولكان وضع التالي مستلزما لوضع المقدم، مع أن خلافه مجمع عليه، وتزيف الكل بأن المدعي أن الجزاء مقيد في أمثال هذا التركيب بمقتضى وضع (لو)، وحكم الوجدان في ما لا داعي إليه، والتجنب عن التكرار الغير الضروري لا يوجب عدم اعتبار التقييد فيما نحن فيه، ولا يلزم من اعتبار القيد في عدة شرطيات إنتاج الرفع والوضع المذكورين، لأنه إنما تحقق اللزوم من خصوص المادة.
نعم، يرد التقييد أن المقصود من قوله: نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه، نفي العصيان مطلقا، ومع التقييد لا يحصل هذا المقصود، وكذا المقصود في قولك: لو أهنتني لأكرمتك، ثبوت الإكرام مطلقا، ولا يحصل بالتقييد.
وقال الشيخ ابن الحاجب: تكلف تقييد الجزاء بالشرط في الجزاء المنفي مما لا يسمع، فإن النفي يفيد العموم والتقييد ينافيه.
ورده الشارح بأن: المنفي لو كان مقيدا بالارتباط بالشرط لم يكن عامّا، وإلا فالإثبات أيضا يصير عامّا بورود نفي (لو) عليه فلا يقبل التقييد، وكان الشيخ استبعد التقييد في النفي؛ لأنه ينافي عموم النفي أيضا، ففيه مزيد تكلف ليس في تقييد المثبت، وحينئذ لا يتجه ما ذكره الشارح.
نعم، يدفع استبعاده أن التقييد لو كان منافيا لعموم النفي لما صح تقييد الجزاء المنفي بالشرط، إذ ليس ما يعتبر في الجزاء إلا التقييد بالشرط المصرح به، وقد جعل الرضي من قبيل، لو لم يخف الله، لم يعصه قوله تعالى: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا (1) لأن التولي مستمر لهم أسمعهم الله أو لم يسمعهم، بدليل ما قبله، وهو: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ (2)؛ لأن من لم يعلم الله فيه خيرا، فهو متول أبدا.
وتعقبه الشارح المحقق بأن: التولي بدون الإسماع غير متصور؛ لأن التولي هو الإعراض عن الشيء، وعدم الانقياد له، ولا يتصور بدون الإسماع (فلو) في الآية على حقيقتها، وأورد عليه السيد السند أنه: لا دخل في مقام المذمة لانتفاء التولي لعدم الإسماع، وإنما الذم في مجرد كونهم بحيث إن أسمعوا لتولوا، فيكون ذكر انتفاء التولي غير مناسب لمقام الذم، وكان اللائق: إن أسمعوا لتولوا، ويمكن دفعه: بأن ذكره للإشعار بأن عدم توليهم لعدم الإسماع، فلا فضل بهم، وهذا مناسب بمقام المذمة.
ولما أدانا الكلام إلى ذكر الآية الكريمة، ففيه بحث شريف نذكره لك، وهو:
أنه أشكل على بعض أن نظم الآية قياس اقتراني على هيئة الشكل الأول بديهي الإنتاج ينتج: لو علم الله فيهم خيرا لتولوا، والنتيجة ظاهرة الكذب وليس، من فساد الصورة، فتعين أن يكون إحدى مقدمتيه كاذبة- تعالى الله عن ذلك- وأجاب عنه بعض تارة بمنع كلية المقدمة الثانية، وتارة بمنع كونها لزومية، ومحصلة منع كونه قياسا لظهور انتفاء الشرائط، فكيف يتوهم قياس منه تعالى؟
فإنه شرائط الإنتاج، وتارة بمنع كذب النتيجة؛ لأن علم الله فيهم خيرا محال، والمحال جاز أن يستلزم المحال، وزيف الشارح المحقق هذه الأجوبة: تارة بأنه لا يصلح أن يكون قياسا اقترانيا، لأن (لو) مستعمل في فصيح الكلام في القياس الاستثنائي دون غيره، وتارة: بأنه كيف يتوهم أنه قياس أهمل فيه شرائط الإنتاج؟ ولا يخفى أنه خروج عن التوجيه لا يليق بشأنه.
(1) الأنفال: 23.
(2)
الأنفال: 23.
وقال: الحق في الجواب أن في قوله وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً على أصل معنى (لو) والمقصود: انتفاء الإسماع لانتفاء علم الخير فيهم، وقوله: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا ابتداء كلام، إما لإفادة دوام التولي على ما ذكر، وإما لإفادة التولي لعدم الإسماع؛ إذ لا تولي بدون الإسماع.
وفيه بحث: لأن الإشكال بحاله؛ إذ لو كان هاتان الشرطيتان حقيتين، لكان استلزاما علم الله الإسماع، واستلزام الإسماع التولي ثابتين، ويلتئم منها قياس اقتراني، هكذا إن علم الله فيهم خيرا لأسمعهم، وإن أسمعهم لتولوا، والنتيجة:
أن علم الله فيهم خيرا لتولوا، فلا بد من كذب إحدى الشرطيتين.
ولا مدفع له إلا بأن لا يفسر قوله: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ بأنه لو علمهم صاحب خير وفطرة سليمة كما فسروه، بل يفسر بأنه: لو علم الله فيهم خيرا بالنسبة إليهم لأسمعهم ذلك الخير، ولا يهمله مع علمه بأنه لا ينفعهم الإسماع ليكون حجة عليهم، ويجعل (لو) بمعنى (إن)، فإنه قياس عند المبرد.
وبالجملة لا شك في مجيئه بقلّة، نحو:«اطلبوا العلم ولو بالصين» (1) و «إني أباهي بكم الأمم ولو بالسقط» (2) ويكون قوله: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا بمعنى: إن أسمعهم لتولوا، فلا خفاء حينئذ في صدق لو علم الله فيهم خيرا لتولوا.
ولا مانع عن جعله في النظم الكريم قياسا اقترانيا إلا ما ذكره الشارح من أن (لو) مختص بالقياس الاستثنائي في فصيح الكلام، لكنه ذكر في شرح مختصر ابن الحاجب: أنه في الأغلب في الاستثنائي، وحينئذ اندفع أيضا ما أورده الشارح من أن انتفاء التولي خير، فكيف ينفى علم الله الخير فيهم؟ لأنه إذا كانت (لو) بمعنى (إن) لا يكون فيها نفي العلم.
ولا يندفع بما دفعه الشارح نفسه من أن: انتفاء التولي لعدم الإسماع ليس خيرا، كما أن عدم قتل المسلم لعدم القدرة ليس خيرا؛ لأنه يدفعه ما اشتهر من أن من النعمة أن لا تقدر.
(1) أورده العجلوني في كشف الخفاء (1/ 154)، وهو موضوع، وانظر: ضعيف الجامع للشيخ الألباني برقم (1005).
(2)
رواه الشافعي بلاغا في الأم (5/ 144)، وذكره الحافظ في التلخيص (3/ 116) وضعفه.
(فيلزم عدم الثبوت)، أي: عدم الاستمرار، والمقصود به: نفي اسمية شيء من جملتيها.
(والمضى) عطف على العدم في جملتيها، وليس المراد بعدم الثبوت:
الانتفاء، كما ظنه السيد السند؛ لأن كون (لو) للامتناع أفاد ذلك بلا خفاء، والمقصود هاهنا: بيان أنه يلزم جعل لفظي الجملتين على طبق المعنى، ولا يعدل عنه إلا لنكتة كما سبق في (إن) و (إذا)، وكأنه أوقعه في هذا الظن أنه لو كان المراد بعدم الثبوت: عدم استمرار لأغنى عن ذكره قوله: (والمضي)(في جملتيها) ولا يعدل عن الفعلية والمضي إلا لنكتة، لكن لا يعدل في الشرط إلا إلى المضارع للزوم أداة الشرط الفعل، ولا يعدل في جزائها أيضا إلى الاسمية، بخلاف (إن).
قال الرضي: ولا يكون جواب (لو) اسمية بخلاف جواب (إن) لأن الاسمية صريحة في ثبوت مضمونها واستقراره، ومضمون جواب (لو) منتف ممتنع.
وأما قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ (1) فلتقدير القسم، وذهب جار الله إلى أن الاسمية في الآية جواب (لو)، قال:
إنما جعل جوابها اسمية دلالة على استقرار مضمون الجزاء، هذا كلامه.
وكأن المصنف والمفتاح لم يتعرضا للعدول عن عدم الثبوت للتردد فيه، أو إيثارا لما اختاره الرضي، وقال الشارح: لم يتعرض له؛ لأنه ظاهر يريد أن وجهته وهو الدلالة على الاستقرار ظاهر، بخلاف وجوه العدول عن المضي فإن فيها دقة وخفاء.
(فدخولها على المضارع في نحو لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)(2) في القاموس: العنت محركة: الفساد والإثم والهلاك ودخول المشقة على الإنسان.
وفسره الشارح بقوله: لوقعتم في الجهد والهلاك، والظاهر: أو الهلاك، ويحتمل غيرهما والله أعلم.
(لقصد استمرار الفعل فيما مضى وقتا فوقتا) أي: الاستمرار والتجددي، والمراد بالفعل: الفعل الذي دخل عليه (لو) لكن ينبغي أن يراد بالاستمرار أعم
(1) البقرة: 103.
(2)
الحجرات: 7.
من استمرار الوجود، فيكون النفي المستفاد من لو داخلا على الاستمرار ورفعا له، ومن استمرار العدم، فيكون النفي المستفاد نفيا لأصل الفعل، ويكون الاستمرار المستفاد من المضارع واردا على النفي.
والظاهر من دخول النفي الأول، ولكن للثاني أيضا نظائر من جعل قوله تعالى: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (1) لاستمرار كفرهم وجعل: وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (2) للمبالغة في نفي الظلم، لا لنفي المبالغة فيه، وجعل: ما زيدا ضربت، لاختصاص زيد بنفي وقوع الضرب عليه، فدخول (لو) على المضارع لاستمرار انتفائه كقولهم: لو تحسن إلي لشكرت، فإن انتفاء الشكر إنما هو لاستمرار انتفاء الإحسان، لا لانتفاء استمرار الإحسان.
وأما في هذه الآية فذهب جار الله: أن المعنى: لو استمر- عليه الصلاة والسلام على إطاعتكم لوقعتم في الجهد والهلاك. ورجحه السيد السند بأن:
الوقوع في الجهد أو الهلاك إنما يلزم من استمراره على إطاعتهم؛ لأنه خلاف قاعدة الإبالة وانتكاس لأمر السيادة؛ لأنه يكون حينئذ تابعا مستعملا؛ لا حاكما متبوعا.
وأما موافقته إياهم في بعض ما يرونه ففيه استجلاب قلوبهم واستمالتهم بلا معتبرة، وذهب المفتاح إلى أنه: من قبيل لو تحسن إلي لشكرت، وبالغ فيه حتى ادعى حصره فيه، وكأنه أصاب؛ لأن المطلوب بالآية استمراره- عليه الصلاة والسلام على امتناع إطاعتهم، وتوطين نفوسهم على هذا؛ لأن إطاعتهم إطاعة الهوى، وأما موافقته- عليه السلام لهم في بعض الأمور فليس إطاعة لهم؛ بل إطاعة لله تعالى؛ حيث يكون مأمورا بالموافقة.
فإن قلت: ما فائدة قوله: في كثير من الأمور؟ قلت: التنبيه على منشأ وقوعهم في الهلاك؛ لأنهم كثيرون، ولكل منهم رأي. فلو أطعتهم في كثير من الأمر ووقعوا في اختلاف يوجب المشقة أو الهلاك؛ ففي عدم إطاعته توحيد أمرهم وتشريكهم في واحد ينفعهم وتوحيد كلمتهم وهو هلاك التمدن والتعاون (كما في
(1) البقرة: 8.
(2)
ق: 29.
قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (1) حيث عدل فيه عما هو مقتضى الظاهر من إيراد الجملة الاسمية الصرفة؛ لأنه في مقابلة قولهم: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (2) إلى إيراد جملة اسمية خبرها فعل مضارع قصدا إلى استمرار الاستهزاء بهم وقتا فوقتا.
ويحتمل أن يكون إيراد الفعل لتقوية الحكم (وفي نحو: وَلَوْ تَرى (3) أي:
دخولها على المضارع في نحو: وَلَوْ تَرى مما لم يقصد به الاستمرار، والخطاب لمحمد- عليه والسّلام- أو عام إِذْ وُقِفُوا أي: حبسوا، أو اطلعوا أو أقيموا، من وقفته بمعنى: أقمته، أو حبسته، أو أطلعته عليه على ما في القاموس (عَلَى النَّارِ (4) لتنزيله) أي: لتنزيل المضارع (منزلة الماضي) في الدلالة على التحقق (لصدوره عمن لا خلاف في إخباره) على لفظ المصدر، أو الجمع، أو لقوة الأسباب من كثرة المعاصي مثلا، أو لصدوره في شأن من لا يجوز كذب الحكم في حقه، نحو: لو تحب ابنك، فإن محبة الابن واجبة التحقق.
فرؤية المخاطب بمنزلة المتحقق في الماضي لصدوره عمن لا خلاف في إخباره، وفيه بحث لإخبار الصادق يدل على تحققه لا محالة.
وأما فرض المخبر الصادق فلا يدل على تحققه، ويمكن التقصي عنه بأنه من فرض الرؤية إنما هو بالنسبة إلى المخاطب، وأما أصل الرؤية فأمر مذكور، لا على وجه الفرض، فكأنه قيل: يا أهل النار، موقوفين على النار، وأن ترى أنت؛ لترى أمرا عجيبا.
فدخول (لو) يجعل (ترى) بمنزلة الماضي في تحقق أصل الرؤية الذي يشعر به قوله: وَلَوْ تَرى ومن هذا تمكنت من التقصي عن بحث آخر يوحي أيضا إلى المتفطن، وهو أن تنزيل المضارع منزلة الماضي في التحقق ينافي دخول (لو) الدالة على الامتناع.
(1) البقرة: 15.
(2)
البقرة: 14.
(3)
الأنعام: 27.
(4)
الأنعام: 27.
فلك أن تقول: الامتناع باعتبار الإسناد إلى المخاطب، والتحقق لأصل الفعل، فذكر (لو) للإشعار بأن الرؤية بمثابة من الهول، يظن معها أنه يمتنع من المخاطب، هكذا حقق المقام، ولا يلتفت إلى ما باهى به الشارح المحقق، حيث قال: فهذا مستقبل في التحقيق ماض بحسب التأويل، كأنه قد قيل: قد انقضى هذا الأمر، ولكنك ما رأيته، ولو رأيته لرأيت أمرا عجبا، هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام، فإن دل على تنزيل المرئي منزلة المتحقق لصدوره عمن لا خلاف في إخباره، ولو دخل على الرؤية، ولا يلزم من كون ما فرض رؤيته كالمتحقق كون الرؤية كذلك تأمل، ولا تذهل. وبالتقليد عن التحقيق لا تغفل.
ولك أن تقول: المضارع على مقتضى الظاهر؛ لأنه استقبالي، ودخول (لو) مكان (إن) للإشعار باستبعاد تحققه، كأنه كالممتنع، وهذا الدخول لا ينافي عدم دخول (لو) إلا على الماضي على ما هو الأصل؛ لأن ذلك في (لو) المستعملة فيما وضعت له، لا فيما إذا استعملت بمعنى (إن) فإن العدول حينئذ ليس في إيراد المضارع، بل في إيراد (لو)(كما في رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)(1) فإنه نزّل فيه (يود) منزلة (ود) حتى صح دخول (ربما) عليه، وإلا (فربما) لا تدخل على المضارع، ولا يدخل من الأفعال إلا على الماضي؛ لأنه لتقليل ما وقع في الماضي، خلافا لأبي علي ومن تبعه، فإنه ذكر في غير الإيضاح وقوع الحال والاستقبال بعدها خلافا للكوفيين، فإنهم جعلوا (ربما يود) بتقدير: ربما كان يود. وقال بعض البصريين: ما في ربما يود موصوفا، أي: رب شيء يوده الذين كفروا، قد تحقق وثبت، ثم بين ذلك بقوله: لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) أي: يودون لو كانوا مسلمين، والمراد تحقق في ودهم وتمنيهم.
ولا يخفى ما فيه من التكلف، ولا يخفى أن توضيح التنزيل فيما هو بصدده بهذه الآية مع كثرة الاختلاف فيها توضيح بما هو أخفى، ولو قال: ومثله ربما يود لو كان أولى، ومعنى التقليل مع كثرة ودادتهم: أنه بمنزلة قليل لعدم نفعه؛ إذ ربما ألف لا يعدل واحدا.
(1) الحجر: 2.
(2)
الحجر: 2.
وقيل: فيه تنبيه على أن زمان إفاقتهم التي يتمنون فيها قليل. وقال ابن الحاجب: رب مستعار للتحقيق تشبيها بعد التي للتقليل، وتستعار للتحقيق (أو لاستحضار الصورة) (1) يعني: في نحو: ولو ترى مما لم يقصد به الاستمرار قد يكون دخولها على المضارع لاستحضار الصورة، وذلك فيما كان فعله ماضيا دون ما كان مستقبلا؛ إذ صرح به الرضي بأنه لم يجيء في كلامهم تنزيل الأمر الاستقبالي موضع الحال، كما جاء تنزيل الأمر الماضوي منزلته.
لكنه ذكر في المفتاح هذه النكتة في (ترى)(ويود)، ووافقه المصنف في الإيضاح، فعبارة المتن تصلح للانطباق على المذهبين (كما قال الله تعالى:
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ) (2) جاء بالمضارع بين الماضيين (استحضارا (3) لتلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة)؛ لأن في التعبير بالمضارع الموضوع للحال تصويرا للماضي بصورة الحال الحاضر بين يدي المخاطب.
وفي هذا التصوير جعله مخيلا له ناظرا له بعين الخيال نظر البصر فيما يشاهده وبين وجه اختيار ذلك في الإثارة دون جارية بأن في إثارة السحاب على الكيفيات المخصوصة إلى أن انطباقه على وجه السماء إظهار قدرة غالبة، بل نبه على أن التصوير بصورة الحال لا يكون إلا لأمر بديع يتحير فيه الناظر ويشغله بمجامعه.
ولا يخفى عليك أن في التنظير على ما هو تفسير المتن بمقتضى الإيضاح والمفتاح بحثا، إذ النظر ماضوي لا كلام فيه بخلاف ما هو فيه، فإنه استقبالي، يدعي الرضي عدم وجوده في كلامهم. وقد يكون دخول (لو) على المضارع؛ لكونه مستقبلا بالنظر إلى ما قبله، كما يقول: لقد أصابتني حوادث لو تبقى إلى الآن لما بقي مني أثر، جاء بالمضارع؛ لأن البقاء بعد الإصابة.
وقال الشارح: التعبير فيه بالمضارع؛ لأنه لا يتحمل لفظا عنها تصويرها
(1) الحق أن هذا إنما يكون في حكاية الحال الماضية، كما قال تعالى في سورة [الكهف: 18] ولم يثبت في كلامهم حكاية الحال المسنقبلة كما هنا، وقيل: إن ما هنا من حكاية الحال الماضية بعد تنزيل المضارع منزلة الماضي، وهو تكلف ظاهر.
(2)
فاطر: 9.
(3)
هذا من اسنحضار الحال الماضية، فلا يصح قياس ما سبق عليه.