المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[شروط قصر الموصوف على الصفة] - الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم - جـ ١

[العصام الأسفراييني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المحقق

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌متن كتاب التّلخيص في علوم البلاغة وهو تلخيص كتاب «مفتاح العلوم» للسّكاكيّ

- ‌كلمة الافتتاح

- ‌مقدّمة فى بيان معنى الفصاحة، والبلاغة

- ‌الفنّ الأوّل علم المعاني

- ‌تنبيه (1/ 213) صدق الخبر: مطابقته للواقع، وكذبه: عدمها

- ‌أحوال الإسناد الخبريّ

- ‌إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر

- ‌أحوال المسند إليه

- ‌أولا: حذف المسند إليه، وذكره

- ‌ثانيا: تعريف المسند إليه، وتنكيره

- ‌[أتعريفه]

- ‌تعريف المسند إليه بالعلمية:

- ‌تعريف المسند إليه بالموصليّة:

- ‌تعريف المسند إليه بالإشارة:

- ‌تعريف المسند إليه باللام:

- ‌تعريف المسند إليه بالإضافة:

- ‌ب- تنكير المسند إليه

- ‌ثالثا: إتباع المسند إليه، وعدمه

- ‌وصف المسند إليه:

- ‌توكيد المسند إليه:

- ‌بيان المسند إليه:

- ‌الإبدال من المسند اليه:

- ‌العطف على المسند إليه:

- ‌رابعا:‌‌ تقديم المسند إليه، وتأخيره:

- ‌ تقديم المسند إليه

- ‌رأى عبد القاهر:

- ‌رأى السكاكى:

- ‌تأخير المسند إليه:

- ‌إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر:

- ‌أحوال المسند

- ‌ترك المسند اليه:

- ‌ذكر المسند إليه:

- ‌وأما تنكيره:

- ‌وأما تخصيصه بالإضافة أو الوصف:

- ‌وأما تركه:

- ‌وأما تعريفه:

- ‌وأما كونه جملة:

- ‌وأما تأخيره:

- ‌وأما تقديمه:

- ‌تنبيه

- ‌أحوال متعلّقات الفعل

- ‌القصر

- ‌[طرق القصر]

- ‌منها: العطف

- ‌ومنها: النفى والاستثناء

- ‌ومنها: إنّما

- ‌ومنها: التقديم

- ‌الإنشاء

- ‌منها التمنّي

- ‌ومنها: الاستفهام

- ‌ومنها: الأمر

- ‌ومنها: النهي

- ‌[ومنها: العرض]

- ‌ومنها: النداء

- ‌الفضل والوصل

- ‌الإيجاز والإطناب والمساواة

- ‌(المساواة)

- ‌(الإيجاز)

- ‌(الإطناب)

- ‌الفنّ الثاني علم البيان

- ‌ التشبيه

- ‌ طرفاه

- ‌ ووجهه

- ‌أركان التشبيه

- ‌(الغرض من التشبيه)

- ‌خاتمة

- ‌الحقيقة والمجاز

- ‌ الاستعارة

- ‌المجاز المرسل

- ‌المجاز المركّب

- ‌فصل (2/ 305) عرّف السكاكى الحقيقة اللغوية بالكلمة المستعملة فيما وضعت له، من غير تأويل فى الوضع

- ‌فصل (2/ 332) حسن كل من التحقيقيّة والتمثيل

- ‌فصل (2/ 336) وقد يطلق المجاز على كلمة تغيّر حكم إعرابها

- ‌(الكناية)

- ‌فصل (2/ 360) أطبق البلغاء على أنّ المجاز والكناية أبلغ من الحقيقة والتصريح

- ‌الفنّ الثالث علم البديع

- ‌ المطابقة

- ‌المحسّنات المعنويّة

- ‌المقابلة

- ‌مراعاة النظير

- ‌الإرصاد

- ‌المشاكلة

- ‌المزاوجة

- ‌العكس

- ‌الرجوع

- ‌التورية

- ‌الاستخدام

- ‌اللف والنشر

- ‌الجمع

- ‌التفريق

- ‌التقسيم

- ‌الجمع مع التفريق

- ‌الجمع مع التقسيم

- ‌الجمع مع التفريق والتقسيم

- ‌التجريد

- ‌المبالغة

- ‌المذهب الكلامي

- ‌حسن التعليل

- ‌التفريع

- ‌تأكيد المدح بما يشبه الذم

- ‌تأكيد الذم بما يشبه المدح

- ‌الاستتباع

- ‌الإدماج

- ‌التوجيه

- ‌الهزل يراد به الجد

- ‌تجاهل العارف

- ‌القول بالموجب

- ‌الاطراد

- ‌المحسنات اللفظية

- ‌رد العجز على الصدر

- ‌السجع

- ‌الموازنة

- ‌القلب

- ‌التشريع

- ‌لزوم ما لا يلزم

- ‌خاتمة: فى السّرقات الشّعريّة، وما يتّصل بها، وغير ذلك

- ‌ الاقتباس

- ‌التضمين

- ‌العقد

- ‌الحلّ

- ‌التلميح

- ‌فصل (2/ 523) ينبغى للمتكلّم أن يتأنّق فى ثلاثة مواضع من كلامه

- ‌[الخطبة]

- ‌[تسمية الكتاب]

- ‌[مقدمة]

- ‌[(الفصاحة)]

- ‌[والبلاغة]

- ‌[فالتنافر]

- ‌[والغرابة]

- ‌[والمخالفة]

- ‌[قيل ومن الكراهة في السمع]

- ‌[وفي الكلام خلوصه]

- ‌[أما في النظم]

- ‌[وأما في الانتقال]

- ‌[قيل ومن كثرة التكرار]

- ‌[وفي المتكلم ملكة يقتدر بها]

- ‌[والبلاغة في الكلام]

- ‌[فمقتضى الحال]

- ‌[ولها طرفان: ]

- ‌[وأن البلاغة مرجعها إلى الاحتراز]

- ‌(الفن الأول: علم المعاني)

- ‌[صدق الخبر]

- ‌(أحوال الإسناد الخبري)

- ‌[وقد ينزل العالم بهما منزلة الجاهل]

- ‌[ثم الإسناد منه حقيقة عقلية]

- ‌[ومنه مجاز عقلي]

- ‌[وأقسامه أربعة]

- ‌(أحوال المسند إليه)

- ‌[أما حذفه فللاحتراز عن العبث]

- ‌[وأما ذكره فلكونه إلخ]

- ‌[وأما تعريفه]

- ‌[فبالإضمار 291

- ‌[وأصل الخطاب]

- ‌[وبالعلمية]

- ‌[وبالموصولية]

- ‌[وبالإشارة]

- ‌[وباللام]

- ‌[وقد يفيد الاستغراق]

- ‌[وبالإضافة]

- ‌[وأما تنكيره]

- ‌[وأما وصفه]

- ‌[وأما توكيده]

- ‌[وأما بيانه]

- ‌[وأما الإبدال منه]

- ‌[وأما العطف]

- ‌[وأما الفصل]

- ‌[وأما تقديمه]

- ‌[وإن بنى الفعل على منكر]

- ‌[ومما نرى تقديمه كاللازم]

- ‌[مبحث كلمة كل]

- ‌[وأما تأخيره فلاقتضاء المقام]

- ‌[ويسمى هذا النقل عند علماء المعاني التفاتا]

- ‌[أحوال المسند أما تركه فلما مر]

- ‌[وأما ذكره فلما مر]

- ‌[وأما إفراده فلكونه غير سبب]

- ‌[وأما كونه فعلا فللتقييد بأحد الأزمنة الثلاثة]

- ‌[وأما كونه اسما فلإفادة عدمهما]

- ‌[وأما تقييد الفعل بمفعول ونحوه وأما تركه فللمانع منهما]

- ‌[وأما تقييده بالشرط]

- ‌[وأما تنكيره فلإرادة عدم الحاصر والعهد]

- ‌[وأما تخصيصه بالإضافة أو الوصف فلكون الفائدة أتم]

- ‌[وأما تعريفه فلإفادة السامع حكما]

- ‌(أحوال متعلقات الفعل)

- ‌[الحذف وأغراضه]

- ‌[أنواع القصر]

- ‌[شروط قصر الموصوف على الصفة]

- ‌(الإنشاء)

- ‌[أنواعه]

- ‌[من أنواع الطلب]

الفصل: ‌[شروط قصر الموصوف على الصفة]

علمائه، أو بجعل المسند لما سوى زيد من علمائه، على أنه لا مانع من رد اعتقاد الشركة بالقصر الحقيقي، فيكون قصر إفراد، وقلب اعتقاده به، فيكون قصر قلب، والتعيين به كذلك، نعم، لا يجب أن يكون المخاطب به واحدا من هؤلاء، بل يحتمل أن يكون خاف الذهن، ومن بدائع قصر القلب ما يريد به الشركة، فكان كالجامع للقصر ونقيضه؛ إذ القصر قد يكون لقطع الشركة، ولا يكون للشركة، فيكون الكلام معه كالجامع بين المتنافيين، وفيه السحر الواضح الذي يوجب الحسن والزين كقوله تعالى:(وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا)(1) فإنه قدم (للناس) للتخصيص وقصر القلب، وذلك إنما يتحقق بجعل الناس للاستغراق، أي: لجميع الناس، لا لبعضهم، رد الاعتقاد من ادعى أنه بنى العرب فقط، فصار بذلك القصر رسالته مشتركا بين الناس منتقلا من الخصوص إلى العموم، وهذا من دقائق القصر.

[شروط قصر الموصوف على الصفة]

(وشرط قصر الموصوف على الصفة إفرادا عدم تنافي الوصفين)(2) قال المصنف في الإيضاح: ليتصور اعتقاد المخاطب اجتماعهما، وهذا التعليل يدل على أن المراد عدم ظهور تنافي الوصفين، ويصح اعتقاد اجتماع المتنافيين ممن يخفى عليه تنافيهما، ونحن نقول: وهكذا ينبغي أن يشترط عدم تلازمهما ليصح اعتقاد المتكلم والمخاطب الانفراد (وقلبا تحقق تنافيهما) أي: تنافي الوصفين ليكون إثبات المخاطب المنفية في كلام المتكلم مشعرا بانتفاء غيرها، هكذا في الإيضاح من غير خطأ، وإن وهم البعض أن مراده ليكون إثبات المتكلم ما أثبته في كلامه مشعر بانتفاء غيرها، وبالجملة فيه نظر؛ لأن معرفة انتفاء بها، لا يتوقف على هذا، بل يحصل في كلام المتكلم بالقصر، وفي كلام المخاطب يمكن بطرق غير محصورة، لا يخفى، وأيضا يخرج حينئذ: ما زيد إلا شاعر، لمن اعتقد أنه كاتب لا شاعر، عن أقسام القصر، على أنه لا شبهة في أنه قصر قلب كما صرح به صاحب المفتاح، ومنهم من قال: مراده تنافي الوصفين في اعتقاد المخاطب، وهذا عجب، كيف لا وقد غفل عن قوله وقصر التعيين أعم؟ لأنه إن أراد بالتنافي في اعتقاد المخاطب اعتقاده سلب أحدهما وإيجاب الآخر، فلا يوجد معه

(1) النساء: 79.

(2)

لم يذكر هذا الشرط في قصر الصفة على الموصوف؛ لأن الموصوفات لا تكون إلا متنافية.

ص: 541

قصر التعيين، وإن أراد عدم اجتماع اعتقادهما، فلا يوجد قصر التعيين مع قصر الإفراد، وأعجب منه أن الشارح المحقق غفل عن فساد كلامه من هذا الوجه، وتشبث في إبطاله تارة بأنه حينئذ يكون شرطا ضائعا؛ لإغناء معرفة أن قصر القلب هو الذي يعتقد فيه المخاطب العكس عنه، وتارة بأنه صرح صاحب المفتاح: بأن المخاطب يجب أن يعتقد العكس، فلا يصح قول المصنف: إنه لم يشترط في قصر القلب تنافي الوصفين، ولا يذهب عليك أنه لا وجه لتخصيص الشرط بقصر الموصوف على الصفة؛ لأنه لو تم الاشتراط ينبغي أن يكون شرط قصر الصفة على الموصوف أيضا في الإفراد عدم تنافي الموصوفين في الوصف، فقال: لا يصح القصر إفرادا في: أفضل البلد، إلا زيد؛ لأنه لا يجتمع الموصوفان في وصف الأفضلية، بل يصح ذلك القصر قلبا، وكأنه لم يقصد التخصيص بما ذكره، بل عول على ظهور المقايسة.

(وقصر التعيين) كأنه لم يقل: وقصر التعيين منه (أعم) لإجراء الحكم على الأعم، والتنبيه على أن الحكم السابق أيضا لا يخص، والمراد بالأعمية: الأعمية بحسب التحقيق بمعنى أن كل ما يصلح لأحدهما يصلح للتعيين، وربما يصلح للتعيين ما لا يصلح للأفراد، وربما يصلح له ما لا يصلح للقلب، كما صرح به في الإيضاح، لكن عبارته حيث قال: كل ما يصلح أن يكون مثالا لقصر الإفراد أو قصر القلب يصلح أن يكون مثالا لقصر التعيين من غير عكس، غير صحيحة لظهور صدق كل ما يصلح مثالا لقصر التعيين، يصلح مثالا لأحدهما، لكن مراده ما ذكرنا، وفي قوله: وشرط قصر الموصوف على الصفة إفرادا عدم تنافي الوصفين وقلبا تحقيق تنافيهما العطف على عاملين مختلفين من غير تقديم المجرور، وصحته مرجوحة.

(وللقصر طرق) كأنه نبه بترك وصف الطرق بالأربعة على وفق المفتاح، والعدول من قوله: أولها، وثانيها إلى منها، ومنها على أن الطرق لا تخصر؛ إذ منها ضمير الفعل، وتعريف المسند أو المسند إليه بلام الجنس، ولم يذكر هنا؛ لأن كلامه في الطرق العامة وهما مخصوصان بالمسند والمسند إليه (منها العطف) كأنه شاع العطف في هذا البحث في العطف بلا وبل، مع النفي في المعطوف عليه، فلذا أطلق: وإلا فليس غيرهما سوى لكن من طرق القصر، ولكن ليس

ص: 542

من طرق العامة لاختصاصها بقصر القلب.

وقال السيد السند في شرح المفتاح: عدم ذكره لسبقه في بحث العطف، وكأنه اكتفى في كون الطريق من الطرق العامة بأن لا يقتصر على طرفين مخصوصين كالمسند والمسند إليه، وكأنه نبه بتكرار المثال، على أنه لا يتجاوزهما لا بالاكتفاء بهما، وإلا لكان الاكتفاء بإلا أيضا مقتضيا لعدم تجاوز النفي والاستثناء إلا (كقولك في قصره) أي: قصر الموصوف على الصفة (إفرادا:

زيد شاعر، لا كاتب أو ما زيد كاتبا، بل شاعر، وقلبا: زيد قائم، لا قاعد، أو ما زيد قائما، بل قاعد) وليس زيد قائما، بل قاعد (وفي قصرها:

زيد شاعر، لا عمرو، أو ما عمرو شاعرا، بل زيد) ويصح أن يقال: ما شاعر عمرو، بل زيد، لكنه يجب حينئذ رفع الاسمين؛ لبطلان عمل ما بتقديم الخبر، كذا في الشرح، ودليله قاصر، وإطلاق دعواه للصحة فاسد، أما الأول؛ فلأن رفع الاسمين لبطل عمل ما، إلا إذا كان زيد مبتدأ والصفة خبره، وأما إذا كان الصفة مبتدأ، وما بعده فاعلا، فليس رفع الاسمين لبطلان عمل ما بتقديم الخبر، بل لأن ما لا يعمل إلا إذا دخل على المبتدأ والخبر، وأما الثاني، فلأن صحته إنما تتم لو لم يكن عمرو فاعلا؛ إذ حينئذ لا يصح، لأنه بطل النفي فيما بعد بل، فيلزم عمل الصفة من غير اعتماد، وكأنه أراد: ويصح أن يقال: ما شاعر عمرو، بل زيد بتقديم الخبر على الاسم، وأما ما ذكر العلامة في شرح المفتاح من أنه لا يجوز تقديم خبر ما على اسمه مع العمل وبدونه أيضا، فخلاف المجمع عليه.

قال الشارح: لما لم يكن في قصر الموصوف على الصفة مثال الإفراد صالحا للقلب لتنافي شرطهما عند المصنف، أفرد لكل مثالا في جميع الطرق بخلاف قصر الصفة، فإنه لإطلاقه عن الشرط يكفي لقسميه مثال، فلذا اكتفى، ولما كان قصر التعيين أعم، فجميع الأمثلة تصلح له، فلم يتعرض له هذا، وهذا كلام قوي يزيف ما ذكرنا أنه ترك المصنف اشتراط قصر الصفة مع عدم التفاوت بينه، وبين قصر الموصوف اعتمادا على المقايسة، فكأنه لم ينتبه لعدم التفاوت، وكأنه أراد الشارح أنه أفرد في الأكثر، وإلا فهو لم يفرد في التقديم، هاهنا بحث شريف لا يحق إلا لرجل كريم نلقيه إليك بالهام ملك عليم، وهو أن قولك: زيد شاعر لا

ص: 543

كاتب، إلقاء حكمين لمخاطب يعلم الأول، فيخلو عن فائدة الخبر؛ إذ من البين أن ليس مقصودك إفادة أنك عالم به، بل مقصودك تسليم ما اعتقده، ولم يعد فائدة للخبر، وثانيهما: منكر وقد خلا عن المؤكد، وأن زيد قائم لا قاعد إلقاء حكمين منكرين بلا تأكيد، ويمكن أن يقال: القصد بالأول إفادة العلم به؛ لأن التسليم معناه الموافقة مع المخبر في العلم، والثاني تأكيد بأنه ألقاه مقرونا بتسليم بعض الدعوى، فكأنه قال: إني أخبر مع نصفة وتحقيق فأوافق فيما أعلم، وأخالف فيما هو منكر، وأما زيد قائم لا قاعد، فقد تأكد فيه لا قاعد بفهمه قبل ذكره من إثبات القيام، وتأكيد الحكم بالقيام بنفي القعود بقد تقرر أن أحدهما واقع، ومن هذا اندفع أن قوله: لا قاعد لغو؛ لأنه اتضح بإثبات القيام، ودفعه الشارح المحقق بأن ذكره للتنبيه على أن المخاطب يعتقد العكس ومجرد الإثبات خال عن هذه الفائدة، ولا يذهب عليك أن طريق العطف مخصوص بغير الحقيقي لا يجري فيه قصر حقيقي.

(ومنها) أي: من الطرق (النفي والاستثناء)(1) لا الاستثناء مطلقا، إذ الاستثناء من الإيجاب ليس القصد فيه إلى الحصر، بل إلى تصحيح الحكم الإيجابي، فهو بمنزلة تقييد طرف الحكم، فكما أن جاءني الرجال العلماء ليس قصرا، كذلك جاءني الرجال إلا الجهال ليس قصرا، وهذا بخلاف الاستثناء من النفي؛ فإن المقصود من نحو: ما جاءني إلا زيد قصر الحكم على زيد، لا تحصيل الحكم، وإلا لقيل: جاءني زيد، فتأمل.

وقال السيد السند في حواشي شرحه على المفتاح: ولعل السر في ذلك أن المستثنى إذا كان جزئيا للمستثنى منه، كما في المفرغ من المنفى، نحو: ما جاءني إلا زيد، وما يؤول إليه المفرغ المذكور إذا صرح فيه بالمقدر، نحو: ما جاءني أحد إلا زيد، حسن أن يعتبر اعتقاد المخاطب للشركة، أو للعكس، أو تردده في

(1) بخلاف الاستثناء من الإثبات فإنه ليس بقصر عندهم، وقيل: إنه قصر أيضا؛ لأنك إذا قلت «قام القوم إلا زيدا» قصرت عدم القيام على زيد، ومن يذهب إلى أنه ليس بقصر يرى أنه قيد مصحح للحكم لا غير، فكأنك في هذا المثال قلت: جاء القوم المغايرون لزيد، كما تقول «جاء القوم الصالحون» وهذا بخلاف قولك «ما جاءني إلا زيد» فإن الغرض من النفي والإثبات المحققان للقصر، ولهذا يستعمل النفي والاستثناء عند الإنكار بخلاف الاستثناء من الإثبات.

ص: 544

ذلك الجزئي، وما يقابله من الجزئيات الأخر، وأما إذا كان المستثنى جزءا من المستثنى منه، كما في قولك: جاءني القوم إلا زيدا، وقولك: قرأت إلا يوم كذا، فإنه لا يحسن فيه ذلك الاعتبار، كما يشهد به الذوق السليم، وفيه أن فيما ذكره دعاوي غير بينة، ولا مبينة، ويوجب أن لا يكون ما جاءني القوم إلا زيدا للقصر، ولا يفيد عدم كون جاءني كل رجل إلا زيدا قصرا (كقولك في قصره) إفرادا (ما زيد إلا شاعر، و) قلبا (ما زيد إلا قائم، وفي قصرها) إفرادا وقلبا (ما شاعر إلا زيد)(1) والكل يصلح مثالا للتعيين والتفاوت بالمخاطب، وفي هذا المثال تحقيق دقيق يخص بالتنبيه له من حد نظره في إدراك أسرار العربية، وهو أن ليس التقدير ما أحد شاعر إلا زيد؛ لأنه يجب نصب شاعر؛ لأن نقض النفي بإلا لا يوجب إبطال عمل ما، إلا في ما بعد إلا، ألا ترى ما زيد شيئا إلا شيء، وما شاعر أحد إلا زيد، على أن يكون زيد فاعلا؛ لأنه يشكل عمل شاعر في زيد، لأنه لما بطل نفيه فيما بعد إلا لم يبق معتمدا على النفي فيما بعد إلا فتعين أن يكون المقدر مبتدأ مؤخرا، ولعلك تنظر في تحقيق ما ذكرناه في شرح الكافية في انتقاض نفي ما ولا بإلا، فينفعك في هذا المقام نفعا ما.

(ومنها) أي: من الطرق (إنما) حذف من عبارة المفتاح المضاف؛ إذ فيه ومنها: استعمال إنما لظنه به أنه حشو مفسد حيث يوهم أن دلالة إنما ليست بالوضع، كما وهمه البعض، لكن أدرجه المفتاح، لأن الطريق ما يسلكه السالك، ويشتغل به، وذلك استعمال إنما فإنه فعل يشتغل به كإخوانه لا نفس إنما (كقولك في قصره) إفراد (إنما زيد كاتب و) قلبا (إنما زيد قائم، وفي قصرها) إفرادا وقلبا (إنما قائم زيد) قال الشارح المحقق: إن الشيخ لم يوافق المفتاح في عموم طريقي العطف، وإنما لأقسام القصر، بل قال: إنهما لقصر القلب، وما نقل عن الشيخ في بيانه لا يدل إلا على المتبادر من إنما قصر القلب

(1) لتحقق النفي والإثبات كما سبق، ولا يخفى أن دلالة النفي والإثبات على القصر بالوضع، فلا يحتاج إلى تكلف ما ذكره في تحقيق إفادته القصر، هذا ولا فرق في إفادة النفي والاستثناء القصر بين أداة وأداة ومنه قول الشاعر في «ما» ، «لا» ، «إلا»:

وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى

ولا الأمن إلا ما رآه الفتى آمنا

وقول الآخر في «لا» و «غير» :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهنّ غلول من قراع الكتائب.

ص: 545

إذا أطلق من غير تقييد بنحو وحده مما أن يشعر بقطع الشركة أو مما يشعر بقطع التردد من قولك: بلا شبهة وبلا تردد، أو قطعا، ومن البين أن ما ذكره إنما يستقيم مع إطلاق العطف حتى لو قيل: جاءني زيد لا عمرو أيضا لكان بقطع الشركة، فلا مناقشة مع السكاكي في الحكم، بل في المثال حيث فات منه التقييد، ونازع السيد السند فيما ذكره في إنما بأن المتبادر من النفي والاستثناء قطع الشركة ذكره إنما يتم لو لم تكن إنما بمعنى ما وإلا كما اشتهر، بل بمعنى العطف، ونحن نقول: لعل كلام الشيخ مبين على أن المتبادر من التخطئة، التخطئة من كل وجه، وذلك في قصر القلب، فما ذكره من تبادر قصر القلب جاز في الجميع، وتشبيه إنما بالعطف كلام على سبيل التمثيل (لتضمنه معنى ما وإلا) علة لكون إنما من طرق القصر وكان الأولى أن يقدم على هذه الدعوى، ودليله بيان وجه كون النفي والاستثناء مفيدا للقصر، فذكره بعد ذلك كما فعله فوت لترتيب الكلام.

والتقديم أيضا من طرق القصر، لتضمنه معنى ما وإلا، ولهذا فسر الأئمة قولهم:«شرّ أهرّ ذا ناب» ب: ما أهرّ ذا ناب إلا شرّ، فتخصيص إنما بهذا التعليل تخصيص بلا مخصص إلا أن يقال: خصه بالتعليل للإشارة إلى رد ما ذكره بعض الأصوليين من أن وجه إفادته القصر أن ما نافية وأن للإثبات، ولا يرجع النفي والإثبات إلى ما بعده لظهور التناقض، فأحدهما راجع إلى ما بعده والآخر إلى ما عداه، وكون ما راجعا إلى ما بعده خلاف الإجماع، فيتعين الإثبات لما بعده والنفي لما عداه، وإنما رده لكونه تكلفا بعيدا عن الاختيار، وليس تخصيصه بالتعليل لما أن بعض الأصوليين أنكروا كونه مفيدا للقصر تمسكا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إنما الأعمال بالنيات)(1) وبقوله: إنما الولاء بالعتق (2)، على ما نقله الرضى في بحث وجوب تقديم الفاعل؛ لأن كون التقديم أيضا مفيدا للقصر مما خالف فيه الشيخ ابن الحاجب على ما مر، وقد استدل على تضمنه ما وإلا بأوجه ثلاثة إشارة إلى الأول بقوله (لقول المفسرين) وكأنه استدل بإجماعهم، فإن قلت: التفسير مستمد من هذا الفن، فكيف يتمسك صاحب

(1) البخاري برقم (1).

(2)

مسلم برقم (1504).

ص: 546

هذا الفن بقول أصحاب التفسير فيما ادعاه، وهو مرجعهم في تصحيح دعاويهم، قلت: التمسك بقوله من حيث أنهم علماء العربية، لا من حيث أنهم أصحاب التفسير إلا أنه عين مكانا قالوا فيه ذلك، فالوجه في الحقيقة إتيان قول أئمة العربية واستعمال العرب (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ (1) بالنصب: معناه: ما حرم عليكم إلا الميتة) وأيد قولهم بقوله (وهو المطابق لقراءة الرفع (2) لما مر)؛ إذ القراءة أن المراد أن يكون بعضها مفسرة لبعض، فإذا كان قراءة الرفع مفيدة لحصر المحرم في الميتة ينبغي أن يكون المراد في قراءة النصب أيضا الحصر، فلو لم يكن إنما للحصر لكان النظم مفوتا لأداة الحصر، مع إرادته، تعالى عن ذلك، ولما اكتفى بقوله: لقراءة الرفع من غير تعرض لحرم، تبادر منه أن حرم على حاله التي كانت له في قراءة النصب، وهو البناء للفاعل، وهو المراد أو في قراءة البناء للمفعول يحتمل أن تكون الميتة مرفوع حرم، فلا تكون فيه دليل على كون إنما للحصر، ووجه إرادة الحصر في قراءة الرفع على ما بينه المفتاح، أن ما موصولة، إذ لا مجال لكونها كافة، وإلا لم يصح رفع الميتة إلا بتقرير إنما حرم الله عليكم شيئا هو الميتة، ولا يجوز حذف موصوف الجملة في مثله، كما بين في محله، والميتة خبره، فهو مثل المنطلق زيد؛ إذ اللام في اسم الفاعل موصولة وقد عرفت أنه يفيد قصر الجنس، وبهذا اندفع ما توهم من قلة التتبع، وعدم التنبه أن قراءة الرفع يفيد قصر الميتة على ما حرم، وقراءة النصب عكسه، فكيف يتطابقان؟ فإن قلت: التأكيد ليس بقوي، إذ لا يلزم الحصر تعريف المسند إليه تعريفا جنسيا، بل قد يفيده، قلت: إنما يحتمل عدم إفادته إذا ظهر له فائدة أخرى، وهنا لم تظهر، وأشار إلى الثاني بقوله (ولقول النحاة (3): إنما لإثبات ما يذكر بعده ونفي ما سواه) أي: مما يقابله؛ إذ لا يخفي أن المنفى بعد إنما ليس جميع ما سوى المذكور، ولو قالوا: ونفى ما يقابله لكان واضحا، وأظن أن

(1) البقرة: 173.

(2)

هى قراءة «إن ما حرم عليكم الميتة» وعليها يتعين أن تكون «ما» موصولة اسم إن، أي إن الذي حرم عليكم الميتة، وهى جملة معرفة الطرفين فتفيد القصر كما مر في الجزء الأول في نحو «المنطلق زيد» وهناك قراءة أخرى بالرفع على بناء «حرم» للمفعول، وهى غير مرادة له؛ لأن «ما» فيها يصح أن تكون كافة وأن تكون موصولة، فلا يتم بها الدليل الذي يريده.

(3)

أي الذين أخذوا اللغة من كلام العرب مشافهة، وبهذا يحتج بقولهم.

ص: 547

مرادهم الإشارة إلى أن المثبت يجب أن يكون مذكورا بعده، والمنفي غير مذكور، لا إلى تعيين المنفي، ولا يخفى أن قول النحاة أشبه بقول الأصوليين من أن إن فيه لإثبات ما ذكره بعده وما لنفي ما سوى المذكور فذكره لاثبات تضمن أنها بمعنى ما وإلا في مقام رد أن تكون إن وما محل نظر، نعم، يتم ما ذكره الشارح في شرح المفتاح من الاستدلال بعموم النكرة بعدها، كما في قوله عليه السلام (إنما لامرىء ما نوى)(1) فإنه يدل على ورود نفيه على ما ذكر بعده، وذلك إنما يتحقق لتضمنه النفي، لا لكون ما للنفي، إذ لو كان ما للنفي لوجب أن يقال:

إنما لامرىء غير ما نوى، وكذا ما ذكره في هذا الشرح من الاستدلال بصحة عمل الصفة في: إنما قائم أبوك، على ما صرح به بعض النحاة، نعم، يتجه على قول هذا البعض أنه كيف عمل الصفة ولم يعتمد على النفي حين العمل في أبوك لانتقاض النفي بمعنى إلا وأشار إلى الثالث بقوله:(ولصحة انفصال الضمير معه) أي: مع إنما في مقام لا يصح الفصل بدون إنما مع أنه لا يتصور من مواقع صحة انفصال الضمير معه إلا فصل الضمير من عامله لغرض، فيقال: إنما يقوم في الدار أنا، ولولا أن أنا في المعنى بعد إلا لوجب أن يقال: إنما أقوم في الدار، وكأنه قال: لصحة انفصال الضمير، ولم يقل: ولوجوب انفصال الضمير معه، مع أنه أدل على المطلوب لتردده في الوجوب؛ لأن الضمير معه ذو وجهين، الاتصال بحسب الظاهر والفصل في المعنى، فالقياس أن يجوز العمل بالوجهين.

وقال الشارح في شرح المفتاح: الظاهر وجوب الفصل؛ إذ لو قيل: إنما أقوم لكان المعنى ما أنا إلا أقوم، وإنما يعلم كون الفاعل المقصور عليه لو قيل: إنما أقوم أنا، وفيه بحث؛ لأن الجزء الأخير في إنما أقوم هو الفاعل لا المسند، وكأنه وقع فيه من كلام الشيخ حيث قال: لو قال إنما أدافع عن أحسابهم لم يكن المقصور عليه المتكلم، بل قوله: عن أحسابهم، ولكن ما قاله الشيخ إلا لأنه لو أضمر المتكلم في الفعل لم يبق جزءا أخيرا، ويصير الجزء الأخير المتعلق، وقال السيد السند: لا كلام في وجوب الانفصال إذا كان للفعل متعلق إنما الكلام في مثل إنما أقوم، وهو محل التوقف هذا، أقول: كلام النحاة يحكم بوجوب الانفصال، فإنهم حكموا بأنه لا يجوز المنفصل إلا لتعذر المتصل، وعدوا منه الفصل لغرض،

(1) البخاري برقم (1)، (54).

ص: 548

وينبغي أن يعم الفصل المعنوي واللفظي ليشمل هذا البيت، فالبيت عندهم من مواضع تعذر الاتصال، والظاهر أن مأخذ قول النحاة إشعار فيها إشعار بالقصر لانفصال الضمير، فلا معنى لجعله وجها ثالثا، فإن قلت: صحة انفصال الضمير معه ليس إلا لكون الضمير مستثنى في المعنى، والأصوليون لا ينكرونه، بل يجعلون إن للإثبات، وما للنفي لتحصيل معنى القصر، فمعنى إنما أدافع عن أحسابهم أنا عندهم أيضا ما أدافع إلا أنا فكيف يصير حجة عليهم. قلت: لو جعل أن للإثبات، وما للنفي لا يقع الضمير بعد معنى إلا، بل يكون التقدير:

إني أدفع عن أحسابهم، وما يدافع غيري، ويكون مآل الكلام القصر، ولا يخفى أنه لا يقع حينئذ الضمير بعد معنى إلا بخلاف ما قاله النحويون (قال الفرزدق [أنا الذّائد]) من الذود وهو الطرد [(الحامي الذّمار)] وهو العهد، وفي الأساس: هو الحامي الذمار؛ إذ أحمى ما لم يحمه لئيم وعنيف من حماه وحريمه [(وإنّما يدافع عن أحسابهم)] أي: القوم العار [(أنا أو مثلي)](1) فلولا مراده أنه لا يدافع عن أحسابهم إلا أنا؛ لقال: إنما أدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي بتأكيد ضمير الفاعل ليصبح العطف عليه، وبهذا اندفع أنه لم لا يجوز أن يكون الانفصال للضرورة، على أنه لا يجوز للضرورة الإخراج عن الأصل، وإنما الجائز هو الرد إلى الأصل، والأصل في الضمائر الاتصال، وإسناد يدافع إلى أنا، إما لاشتراك الصيغة بين الغائب والمخاطب والمتكلم المنفصلين، وإما لأنه في الحقيقة مسند إلى مستثنى منه غائب، نقل عن علي بن عيسى الرلفي مناسبة بين إنما، ومعنى النفي والاستثناء دعت إلى وصفها له، وهو أن إن للتأكيد وما يزاد للتأكيد، ففي الجمع بينهما تأكيد على تأكيد، كما أن في القصر ذلك قال الشارح:

وجهه أن قولك: جاء زيد لا عمرو، لمن تردد المجىء بينهما، يفيد إثبات المجىء لزيد صريحا، وهو تأكيد للإثبات المطلق المسلم الثبوت، وفي قولك: لا عمرو إثبات المجىء ضمنا لزيد ثانيا: لأن المجىء لما كان مسلم الثبوت لأحدهما، فإذا نفيته عن عمرو إثبات المجىء، فقد أثبته لزيد ضرورة، فقد جاء تأكيد بعد تأكيد لنفس الحكم، أو تأكيد لخصوص الحكم بعد تأكيد لنفس الحكم هذا، ولا

(1) البيت في التلخيص ص 38، والإيضاح ص 126، ومفتاح العلوم ص 403، ودلائل الإعجاز ص 328 وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص 91.

ص: 549

يخفى عليك أنه تصوير في مثال مخصوص، وأما في: ما جاءني زيد بل عمرو، فالإثبات الصريح تأكيد للإثبات الضمني الحاصل من قوله: ما جاءني زيد، وأنه لا حاجة إلى هذا التكلف؛ لأن الإثبات الضمني إثبات من مؤكد، لأنه برهاني، فقد جاء التأكيد على التأكيد باجتماع إثبات برهاني، وإثبات صريح، ثم قال الشارح: ويجب أن يعلم أن هذه مناسبة ذكرت لوضع، إنما متضمنا بمعنى ما وإلا فلا يلزم اطرادها حتى يكون كل كلام فيه تأكيد على تأكيد مفيدا للقصر مثل: إن زيدا لقائم، وفيه نظر؛ لأن التأكيد إما لرد الإنكار، وإما لدفع التردد، وكل منهما يستلزم القصر، ففي الإنكار قصر القلب، وفي التردد قصر التعيين، وإن لم يفد التأكيد على التأكيد قصرا اصطلاحا، ولم يجعل من طرق القصر، فتأمل، نعم هذا لا يخص التأكيد على التأكيد، بل يحصل مع مجرد التأكيد.

(ومنها التقديم)(1) أي: تقديم ما حقه التأخير، كخبر المبتدأ، ومعمولات الفعل؛ إذ لا قصر في: زيد إنسان، وأنا تميمي، وها هنا إشكال، وهو أنه كيف يحكم بأن حق المسند إليه في: أنا كفيت مهمك التأخير دون أنا تميمي؟ إلا أن يقال: حق مبتدأ الجملة الفعلية غير السببية أن لا يجعل مبتدأ؛ لأن الأصل في الإسناد أن لا يتكرر، والأصل في الجملة أن يستقل: ولا يربط بالغير، فالأصل أن يقال: كفيت أنا مهمك، فأنا كفيت مهمك، من قبيل تقديم ما حقه التأخير، غايته أنه مع التقديم مبتدأ، ومع التأخير تأكيد، لكنه يشكل بما أنا تميمي، فإنه يفيد القصر، فكيف يحكم بأنه حقه التأخير وليس في أنا تميمي حقه التأخير؟ إلا أن يقال: الصفة مع النفي بمنزلة الفعل، ولذا يعمل، وكان الأحسن الأوفق بدأ به أن لا يكتفي في تمثيل قصر الموصوف على الصفة بقوله (كقولك في قصر: تميمي أنا) وإن كان يصلح لاعتباره مقابلا لسلب التميمي، فيكون قصر قلب، ولاعتباره مقابلا للقيسية، كما اعتبره المفتاح، فيكون قصر إفراد؛ إذ لا منافاة بين النسبة إلى قبيلتين، فإن النسبة تكون بالنسب وبالولاء، وقد تنبه لأن؛ فإنه الأحسن، فعدل عنه في الإيضاح، ومثل

(1) هو ثلاثة أقسام: أولها: تقديم المسند إليه على نحو ما سبق في بابه، وثانيها: تقديم المسند، وثالثها:

تقديم بعض القيود في باب متعلقات الفعل.

ص: 550

لقصر الموصوف بقوله: شاعر هو وقائم هو (وفي قصرها أنا كفيت مهمك) لمن اعتقد شركة الغير أو انفراده، أو تردده، واعلم أن قولك: ما تميمي أنا، وهل تميمي أنا؟ يحتمل أن يكون من قبيل تقديم ما حقه التأخير، وأن يكون من قبيل ما حقه التقديم، واستخير ذلك من تذكر الوجهين في: أقائم زيد، إن بلغك خبر من المبتدأ، ولست بعار عن نحوه.

(وهذه الطرق) الأربعة تتفق من وجه، وهو: أن المخاطب معها يلزم أن يكون حاكما حكما منسوبا بصواب وخطأ، وأنت تطلب بها تحقيق صوابه، ونفي خطئه تحقق في قصر القلب كون الموصوف على أحد الوصفين أو كون الوصف لأحد الموصوفين، وهو صوابه تعيين حكمه، وهو خطؤه وتحقق في قصر الإفراد حكمه في بعض، وهو صوابه، وتنفيه عن البعض وهو خطؤه.

(وتختلف من وجوه) كذا في المفتاح، ولما كان ما ذكر في بيان الاتفاق مستغنى عنه بما مر من تعيين المخاطب في أقسام القصر، ومع ذلك لم يكن صحيحا؛ إذ لا يلزم كون المخاطب على خطأ؛ بل اللازم كونه على شك، أو خطأ، أسقطه المصنف ح، ونعما هو، إلا أن يقال: قصر التعيين في شاك يعتقد أن غاية الأمر الشك، ولا سبيل إلى الاعتقاد لرد الخطأ في اعتقاد التوقف وفي غيره، نزل منزلة من اعتقد التوقف، ولم يجوز سبيل الخروج عن الشك.

(فدلالة الرابع)(1) أي: التقديم قدمه في البيان على خلاف المفتاح؛ لأنه أدخل في البلاغة (بالفحوى) كسلمى وحمراء وعشراء، وهو مفهوم الكلام ومذهبه يعني: يرشد إلى القصر خصوصية المفهوم بحسب البيان مع التقديم، ويخص به ذوق دون ذوق، حتى حرم عن دركه بعض من له كعب أعلى في درك الدقائق العقلية والنقلية، وأنكره الحاجب، وكان آخر يقول لمن يسأله عن فائدة تقديم وقع في الكلام القديم: أنه فاعل مختار بفعل ما يشاء، ولعلك تقول: كان هذا حكم في مبادئ الاستعمال، وإلا فقد شاع قصد القصر في مقام التقديم

(1) فدلالته على القصر بالذوق والبحث في سر التقديم حتى يفهم بالقرائن الحالية أنه للتخصيص لا لغيره من أغراض التقديم، ولا تتنافى الدلالة الوضعية في الثلاثة الأولى البحث عنها في علم المعاني؛ لأنه لا يبحث فيه عن دلالتها على القصر، وإنما يبحث عن مزايا القصر وأحواله وعن المقامات التى تدعو إليها ولا شك أن هذا من صميم علم المعاني.

ص: 551

بحيث صار موضوعا بالغلبة للقصر، وربما يوجه دلالته بأن المخاطب، إذا أخطأ في قيد من قيود الكلام يقتضي الاهتمام برد الخطأ فيه تقديمه.

(والباقية) بالجر عطف على الرابع (بالوضع) عطف على قوله: بالفحوى، عطف على معمولي عاملين مختلفين، والمجرور مقدم، أي: بالوضع لمعان يحصل منه القصر، فإن حرف النفي وضع للنفي، وحرف الاستثناء للإخراج عن حكم النفي، ويلزم من اجتماعهما قصر، وهكذا غيره، والمقصود في الفن أحوال تلك الثلاثة من كون قصرها إفرادا أو قلبا، أو تعيينا، وهي إنما تستفاد بحسب المقام دون ما يستفاد منها بالوضع وقوله:(والأصل في الأول النص على المثبت والمنفي) إشارة إلى وجه آخر من الوجوه، وقد أشار إلى كيفية النص عليهما بقوله (كما مر) من تقديم النفي في العطف ببل، وتقديم الإثبات في العطف بلا، وليس المراد منه مجرد حوالة المثال، كما يتبادر من ظاهر المقال (فلا يترك) النص عليهما (إلا) ليكثر منها (كراهة الإطناب) ورعاية السجع، ولا يخفى التفصيل على أولي الألباب، وربما يدعو إلى ترك النص، ورجحان الاختصار، أو كراهة المساواة، ولا يبعد إدخال المساواة تحت الإطناب بقرينة (كما إذا قيل: زيد يعلم النحو والتصريف والعروض، أو زيد يعلم النحو وبكر وعمرو)؛ إذ لا يخفى أن النص بالمثبت والمنفي فيهما مساواة لا إطناب (فنقول فيهما: زيد يعلم النحو لا غير)، أو تقول في الأول: زيد يعلم العلمين لا العروض، وفي الثاني:

الرجلان يعلمان النحو، ولا عمرو، وربما يكون زيد يعلم النحو، لا غير نصا على المثبت والمنفي، كما إذا قصد القصر الحقيقي، فلذا قيده بقوله: إذا قيل، فاعرفه، وحذف المضاف إليه من لا غير أمارة غاية الاجتناب عن الإطناب، ولا غير مبني على الضم تشبيها بالغايات لحذف المضاف إليه مع كونه منويا، أي: لا غيره بمعنى: لا غير زيد، أو لا غير النحو، وهذا على تقدير كون لا عاطفة، إما على تقدير كونها لنفي الجنس، كما في بعض كتب النحو، أي: لا غيره عالم، أو معلوم، فليس من طرق القصر (أو نحوه)، والمراد بنحو: لا غير لا من عداه، ولا من سواه، ولا علما آخر.

والمستفاد من الإيضاح أن المراد به ما في المفتاح من نحو: ليس غير، وليس إلا، ويتجه عليه أنه ليس من طريق العطف، بل النفي والاستثناء وأجاب عنه

ص: 552

الشارح بأن العدول من الأصل بوضع مجمل مقام النص على المنفي، قد يكون مع حفظ العطف، وقد يكون بترك العطف، وإيراد ما يؤدي مؤداه، ووصفه بالدقة، ووصى بالتأمل، وفيه أنه ليس مما كان الأصل فيه النص على المثبت والمنفي، بل طريق الاستثناء الذي الأصل فيه النص على المثبت فقط، والأصل فيه مرعي، وليس مما نحن فيه.

(وفي الباقية) من الطرق، والأولى ترك في ليكون العطف على معمولي عاملين مختلفين مع تقدم المجرور، وأما مجموع الجار والمجرور فمنصوب (النص على المثبت فقط) الاقتصار على المثبت في النفي والاستثناء واجب كما ستعرف، فلا يصح في حقه أن الأصل فيه ذلك، وقد يتكرر النص على المثبت في النفي والاستثناء لمزيد تقريره لداع، وذلك في: ليس غير، وليس إلا ليس، ألا تقول: زيد يعلم النحو ليس إلا، والداعي في قصر القلب ظاهر؛ لأن الجزء المثبت منكر للمخاطب، فلا أنفع من التقرير، وكذا في قصر التعيين؛ لأن الجزء الثبوتي مشكوك للمخاطب، فلا أنفع من مشكوك، وأما في قصر الإفراد، فالمبالغة في الاتصاف ومزيد إظهار؛ لأنه مخالفة مع الصواب، وإنما المخالفة في تحقق خطئه، وهذا أدخل في قبول المخاطب نفي الشركة، فاحفظه، فإنه من ودائعنا، وأما جمعه مع بدائعنا، وأشار إلى ثالث من وجوه الاختلاف بقوله:

(والنفي)(1) يعني: بلا العاطفة بقرينة دليله، لا بقرينة أنه لا دليل على امتناع ما زيد إلا قائم ليس هو بقاعد، كما ذكره الشارح؛ لأن تلك القرينة بمعزل عن الاعتبار مع وجود ما ذكرنا، وإنما لم يقل: والأول (لا يجامع الثاني) كما في المفتاح؛ لأن الحكم مختص بلا، كذا في الشرح يريد أن المدعي مخصوص بقرينة دليله؛ لأنه يجامع بل الثاني حتى يناقش فيه بظهور امتناع ما زيد إلا قائم، بل قاعد، على أن الحكم هو الفرق بين الثاني والأخيرين، وكما لا يصح: ما زيد إلا قائم، بل قاعد، لا يصح إنما زيد قائم، بل قاعد، وتميمي أنا، بل قيسي، نعم يتجه أن المعدول إليه لا يترجح لأن الحكم كما لا يعم الأول بأسره، لا يعم النفي، وكما يتخصص النفي بالقرينة تخصص الأول، على أن في العدول إلى النفي إيهاما

(1) يعني النفي بلا كما يؤخذ من توجيهه له؛ ولأن المراد أن طريق القصر بلا لا يجامع طريق النفي والاستثناء، أما النفي بغير «لا» فيجامع النفي والاستثناء ولا وجه للفرق بينهما إلا السماع.

ص: 553

أنه اختار ما ذكره الشيخ من أن النفي في ما نحن فيه النفي يتقدم تارة نحو: ما جاءني زيد، وإنما جاءني عمرو، وبتأخر أخرى نحو: إنما جاء زيد، لا عمرو، و (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)(1) فإنه يدل على أن النفي الذي نحن فيه أعم من النفي بلا العاطفة والتنزيل برد كلام الشيخ، قال تعالى:(وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ)(2) وكان المناسب أن يقول:

ولا يجامع الثاني، يعني: النفي والاستثناء، فلا يقال: ما زيد إلا قائم، لا قاعد، وما يقوم إلا زيد، لا عمرو، كما قد يقع في تراكيب المصنفين، لكن لا يمكن أن يستشهد به، وإن كثر في الكشاف؛ لأن عبارته ليست مما يستشهد بها، فنفي المجامعة نفيها في كلام العرب العرباء والمهرة البلغاء، وما ذكره في تعليله مناسبة اقتضت نفي المجامعة، ومما ينبغي أن تنظر فيه نظر من يسلك في المزلقة ما يكاد يشتبه بالجمع بين لا والنفي والاستثناء، وهو ما يؤكد به النفي والاستثناء، وهو في صورة العطف بلا، وهو جملة مستقلة جيء به للتأكيد ليس إلا، ومنه قول الكشاف: ما هي إلا شهوات لا غير، فإنه لم يقصد عطف الغير على شهوات، بل جعل لا غير جملة مستقلة تأكيدا للقصر، وأراد به لا غير الشهوات موجودة، فكأنه قيل: ما هي إلا شهوات، ومنه قوله: وما كان ذلك إلا نفيا لا شبهة فيه الإسلام، فإن قوله: لا شبهة في الإسلام نفي جنس والمعنى لا شبهة في الإسلام، كأنه أكد به القصر السابق، وكيف لا يسمى هذا المسلك مزلقة؟ وقد عدهما الشارح المحقق من الجمع الذي يقع في كلام المصنفين، وأوضح به دعوى أنه مما يكثر في الكشاف، ويكاد أن تجري بإنكار الوقوع فيه ولا تخاف (لأن شرط المنفى بلا) العاطفة، كذا قيدها الشيخ في دلائل الإعجاز وصاحب المفتاح (أن لا يكون منفيا قبلها بغيرها) أي: منفيا نفيا صريحا، كما هو المتبادر بغير لا هذا حشو مفسد؛ لأنه يوهم أنه يجوز في العطف بلا أن يكون قبلها منفي بلا حتى يصح أن يقال: جاءني زيد، لا عمرو، ولا بكر، مع أنه صرح بمنعه الرضى، وأوجب أن يقال: جاءني زيد، لا عمرو، ولا بكر، وقال: فخرج لا مع الواو عن العاطفة إلى الزائدة، وبين هذا الشرط الشارح المحقق والسيد السند بما ذكر في

(1) الغاشية: 21 - 22.

(2)

فاطر: 22 - 23.

ص: 554

تعيين ما وضع له لا، حيث قال النحاة: إنها وضعت لنفي ما أوجب للمتبوع، وكان مرادهم نفي ما أوجب للمتبوع عما بعدها، أو نفي ما بعدها عما أوجب له المتبوع، أو نفي التعلق بما بعدها بعد التعلق بالمتبوع؛ ليشمل: جاءني زيد، لا عمرو، وزيد قائم، لا قاعد، وضربت زيدا لا عمرا، إلا أنهم تسامحوا في البيان، واكتفوا بذلك المعنى في العطف على المسند إليه، واعتمدوا على المقايسة لظهور الحال بعد هذا القدر من البيان، وقال السيد السند: نفى ما أوجب للمتبوع في جاءني زيد، لا عمرو ظاهر، وفي زيد شاعر، لا منجم، هو كون الشيء مسندا حيث نفى عن المنجم بعد إيجابه للشاعر، وفيه أن وضع «لا» ليس لهذا المعنى، وهذا اللازم وضعه على أن المراد بما أوجب في: جاءني زيد، لا عمرو، للمتبوع حينئذ، ينبغي أن يكون كونه مسندا إليه، فهو كزيد شاعر، لا منجم، في الظهور والخفاء، وقال الشارح المحقق: إن الموجب في: زيد قائم، لا قاعد هو زيد حيث أوجب للقيام، وقد نفى عن القعود، ولا يخفى أنه في غاية البعد، وهذا كلام وقع في البين، فلنرجع ما كنا فيه، فمحصل بيانهما أن «لا» لما وضعت لنفي ما أوجب للمتبوع ينبغي أن لا يكون المنفي بها منفيا قبلها، وفي قولك: ما زيد إلا قائم، قد نفيت عن زيد كل صفة غير القيام، فإذا قلت: لا قاعد، فقد نفيت بها ما كان منفيا قبلها، وفيه أن وضع «لا» لا يقتضي إلا أن يكون المنفي بها ثابتا للمتبوع بالتفصيل المذكور، وأما أنه لا يكون منفيا بغير لا فلا يقتضيه، غاية ما في الباب أن يتكرر النفي، وذلك لا ينافي مقتضى وضع لا، ولا شك أن الإيجاب للمتبوع في: ما جاءني إلا زيد لا عمرو، متحقق غايته أن النفي عما بعد أيضا، قد تحقق، فيكون في ذكر لا عمرو، تكرار، فالوجه أن النفي الصريح يوجب تكرارا صريحا بخلاف النفي الضمني، فإنه ليس بتلك المثابة، فاحترز عن الأول دون الثاني، والأظهر أن النفي لا يجامع التقديم الذي للقصر، ولا اسما للقصر، بل يحمل «إنما» على التأكيد، كما هو أصل وضع «إن» التأكيد بما، ومنه: إنما زيد أضربت؛ فإن إنما فيه ليس للقصر كقول أبي الطيب [إنما لذة ذكرناها] ويحمل التقديم على مجرد الاهتمام، فلذا جاز الجمع بين التقديم ولا، وإنما ولا، والنفي وإلا، والنفي والاستثناء نص في القصر، فيلغو العطف معه، فلذا لا يجامعه (ويجامع) النفي بلا العاطفة (الأخيرين) أي: إنما والتقديم (فيقال:

ص: 555

إنما أنا تميمي، لا قيسي، وهو يأتيني، لا عمرو) ومن العجاب تمثيل السكاكي بقوله: وهو يأتيني، وقد أنكر كون التقديم فيه للتخصيص كما عرفت، وأعجب منه أن الشارح المحقق اعترض عليه بأن الأولى التمثيل بزيد أضربت؟ لأنه شائع في التخصيص بخلاف هو يأتيني، فإن التخصيص والتقوى فيه سواء، والسيد السند وافقه، وكأنه هذا المقام بغفلة، ولم يسلم فيه قافلته (لأن النفي فيهما غير مصرح به) بل صريحهما الإثبات، ويلزمهما النفي بخلاف النفي والاستثناء، فإن نفيه مصرح به، وإن لم يكن المنفي مصرحا به (كما يقال: امتنع زيد عن المجىء، لا عمرو) فكما جاز هذا التركيب مع عدم جواز: لم يجىء زيد، لا عمرو، وللفرق بين النفي المصرح به، وغير المصرح به جاز مجامعة النفي الأخيرين دون الثاني، فلا يردانه لا يصلح نظيرا لما سبق؛ لأن المنفي بلا ليس منفيا قبلها فيه، بخلاف ما سبق والواضح في هذا القيد عبارة المفتاح، حيث قال: ووجه صحة مجامعة لا العاطفة إنما مع امتناع مجامعتها ما، وإلا عين وجه صحة أن يقال: امتنع عن المجىء زيد، لا عمرو، ومع امتناع أن يقال: ما جاءني زيد، لا عمرو، وهو كون معنى النفي في إنما، وفي قولك امتنع عن المجىء ضمنا لا صريحا، قال الشارح: ثم ظاهر كلامهم يقتضي جواز قولنا: أتى زيد إلا القيام، لا القعود، وقرأت إلا يوم الجمعة، لا سائر الأيام؛ لأن المنفي بلا، ليس منفيا بشيء من كلمات المنفي، اللهم إلا أن يقال: التصريح بالاستثناء مشعر بأن النفي أيضا في حكم المصرح أي: لم يرد زيدا إلا القيام، وما تركت القراءة إلا يوم الجمعة فيمتنع بزيد أنه لا يصح قوله: والنفي لا يجامع الثاني لمجامعته في هذين المثالين، اللهم إلا أن يقال: إلخ.

وفيه بحث، لأن الاستثناء عن المثبت ليس الثاني، وإنما الثاني النفي والاستثناء على أن بناء صحة قرأت إلا يوم كذا على تأويله بالنفي بخلاف ما تقرر في محله أنه استثناء من الإثبات لاستقامة المعنى، ثم قال (السكاكي) (1) لا وجه لتقديم قول السكاكي مع تقديم الشيخ إلا أن يقال: ذكر قول السكاكي للترنيف بقول الشيخ، والترنيف إنما يكون بعد الذكر.

(1) المفتاح ص 159.

ص: 556

(شرط مجامعته للثالث) من قال: تقدير شرط، حسن مجامعته للثالث ليوافق كلام الشيخ لم تتضح عبارة السكاكي، والتقيد بالثالث فيما بينهم؛ لأن دلالة الرابع على القصر أضعف من الثالث؛ لأنه ليس بالوضع، وفيه تنبيه على أن مجامعته النفي مع الرابع أجلى وأشبع، قال الشارح المحقق: لم تذكروا هذا الشرط في التقديم، لا وجوبا ولا استحسانا، فكان دلالته على القصر أضعف، وقد عرفت أن كونها أضعف ليس فيه ريبة (أن لا يكون الوصف مختصا بالموصوف)(1) الباء داخل على المقصور عليه بقرينة المثال، وإن كان صحة الحكم لا يقتضيه، بل لو جعل داخلا على المقصور لصح؛ إذ شرطه أيضا أن لا يكون الموصوف مختصا بالوصف، فلا يقال: إنما الزمن قاعد، لا قائم، فترك بيانه لظهور حاله بالمقايسة، وقد قيد السكاكي الوصف بقوله في نفسه، أي: لا يكون مختصا نظرا إلى نفسه، وإلا فلا بد من اختصاص الوصف حتى يصح القصر نحو إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ (2) فإن كل عاقل يعرف أن الاستجابة، أي:

الإجابة كما في شرح العلامة للمفتاح لا يكون إلا زيد ممن يسمع ويعقل، وأسقطه المصنف في الإيضاح أيضا؛ لأن المدار على ظهور الاختصاص سواء كان منشؤه نفس الوصف، أو الموصوف، أو عرف، وغفل الشارح عما قصده، فظنه إهمالا، وقيده به في الشرح قال (عبد القاهر: لا يحسن) المجامعة المذكورة (في الوصف المختص) أي: مقدار ما يحسن في غيره، وهذا أقرب لرجحانه عقلا ونقلا؛ لأن الشيخ أعلى كعبا، ولأن شهادة المثبت أصدق من شهادة الثاني؛ إذ الإحاطة بالنفي متهمة لا يكاد يقبل، ولا يذهب عليك أنه لا يتصور القصر في الوصف الظاهر الاختصاص إلا لتنزيل المخاطب منزلة المخطئ، أو المتردد لداع، ولذا كان قول عبد القاهر أرجح عقلا.

(وأصل الثاني) إشارة إلى الوجه الرابع من وجوه الاختلاف، ووجه الاقتصار في ذلك الاختلاف على الثاني والثالث، كأنه أن الأول والرابع مستويا النسبة بالمجهول والمعلوم، فوجه الاختلاف أن انقسام الطرق ثلاثة أقسام، فلا يرد أنه في هذا الوجه ليس اختلاف الطرق، بل الطريقين (أن يكون ما استعمل)

(1) أي بالنظر إلى الوصف في نفسه وإن كان مختصا بالموصوف بحسب المقام الذي اقتضى قصره عليه.

(2)

الأنعام: 36.

ص: 557

من الإسناد، والتعلق يدل عليه قوله: فيما سبق، وكل من الإسناد والتعلق، إما بقصر أو بغير قصر، وفسره الشارح بالحكم (له مما يجهله المخاطب وينكره) فاستعماله في قصر التعيين على خلاف الأصل، إذ لا إنكار فيه ولو اكتفى بقوله:

ينكره لكفاه (بخلاف الثالث) فإنه يجىء لخبر، لا يجهله المخاطب على ما في دلائل الإعجاز، قال الشارح المحقق: وفيه إشكال؛ لأن المخاطب إذا كان عالما بالحكم، لم يصح القصر، ولا إشكال فيه؛ لأنه يصح أن يكون إما عالما في ما ينزل منزلة المجهول دون النفي والاستثناء، ويكون النفي والاستثناء غالبا في المنكر، وربما يستعمل في معلوم منزل منزلة المجهول، كما أنه ربما يستعمل إنما في مجهول منزل منزلة المعلوم، ومآل تنزيل المجهول منزلة المعلوم فيها تنزيل المجهول الحقيقي منزلة المجهول، لا دعائي، كما أن مآل تنزيل المعلوم منزلة المجهول في النفي، والاستثناء بتنزيل المجهول، لا دعائي منزلة المجهول الحقيقي، ولا يخفى كمال لطافة هذين التنزيلين، ووقته، واختصاصهما بمن يكاد يتوجه بفطنة، وهل هذا إلا ما يحق به البلغاء المخاطبة، (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) (1) ووجه الشارح كلام الشيخ تحمل قوله: يجىء لخبر لا يجهله المخاطب على خبر من شأنه أن لا يجهله، ولا ينكره حتى أن إنكاره يزول بأدنى تنبيه، وليس مما يصر عليه، فقال: وهو الموافق لما في المفتاح حيث قال: إن طريق إنما يسلك مع مخاطب في مقام لا يصر على خطئه، أو يجب عليه أن لا يصر، وأشار بكون بيان الشيخ موافقا للمفتاح إلى أن المصنف في بيانه، إما في غفلة عن الموافقة أو في عدول عن عبارة المفتاح مع وضوحها إلى عبارة متعلقة (كقولك لصاحبك، وقد رأيت شبحا) بالتحريك، وقد يسكن أي: شخصا كذا في الصحاح (من بعد ما هو إلا زيد إذا اعتقد) صاحبك أو على صيغة المجهول للعلم بفاعله، أي: اعتقد ذلك الشبح (غيره) أي: زيد بأن يكون زيدا وعمرا، أو يكون عمرا مصرا على هذا الاعتقاد، فالمثال يحتمل القسمين فلذا اكتفى به، لا لأنه يختص بقصر القلب، وجعله المفتاح مخصوصا بقصر القلب، حيث قال: إذا توهمه غير زيد، ويصر على إنكار أن يكون إياه، فالمصنف أسقط قوله: ويصر على إنكار أن يكون إياه لتكثير الفائدة، لا لمجرد تقليل اللفظ، ولم يقل إذا اعتقد غيره،

(1) البقرة: 105.

ص: 558

أو تردد، لأنه مخصوص بالمنكر كما سبق، وقد ينزل المعلوم منزلة المجهول المنكر (لاعتبار مناسب، فيستعمل له) أي: لذلك المعلوم، كذا في الشرح، ويحتمل التعليل، أي: لأجل هذا التنزيل.

(الثاني إفرادا) أي: لإفراد، أو حال كونه قصر إفراد، وإلى الثاني ذهب الشارح، ولا بد من حذف مضاف آخر، أي: طريق قصر إفراد، لأن الثاني طريق القصر لا نفسه، فالوجه هو الأول نحو: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ (1) أي:

مقصور على الرسالة لا يتعداها إلى التبرء من الهلاك، لو جعل القصر بالنظر إلى استعظام هلاكه، أي: لا يتعداها إلى استعظام هلاكه، واستبعاده لاستغنى عن التنزيل، ويكون على مقتضى الظاهر (نزل استعظامهم هلاكه منزلة إنكارهم إياه)(2) فلزم تنزيل علمهم منزلة الجهل، فلا يرد أن الملائم لدعوى تنزيل المعلوم منزلة المجهول ذكر تنزيل علمهم منزلة الجهل، لا تنزيل استعظامهم منزلة الجهل.

قال الشارح: والاعتبار المناسب الإشعار بعظم هذا الأمر في نفوسهم، وشدة حرصهم على بقاء النبي صلى الله عليه وسلم فيما بينهم حتى كأنهم ينكرون هلاكه، ونحن نقول: الاعتبار المناسب التنبيه على مفاسد الاستعظام، حتى لحق بالجهل في الفساد، وتحذيرهم عنه كما يحذر عن الجهل، والأقرب عندي أنه قصر قلب، أي: وما محمد إلا رسول، لا إله، نزل استعظامهم هلاكه منزلة دعوى ألوهيته؛ لأن البقاء يخص الإله (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) واعتقاد الألوهية ينافي الرسالة (أو قلبا) عديل لقوله: إفرادا (نحو: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)(3) فإن المخاطبين بهذا الكلام، وهم الرسل لم يكونوا جاهلين منكرين؛ لكونهم بشرا، لكنهم نزلوا منزلة المنكرين (لاعتقاد القائلين أن الرسول لا يكون بشرا مع إصرار المخاطبين على دعوى الرسالة)، فنزلوا منزلة من يعتقد رسالته، وينكر بشريته، وقلبوا

(1) آل عمران: 144.

(2)

فكأنهم يعتقدون الشركة بين الرسالة والتبري من الهلاك، وبهذا كان القصر على الرسالة قصر إفراد، والاعتبار المناسب في ذلك هو الإشعار بعظم ذلك الأمر في نفوسهم وشدة حرصهم على بقائه بينهم، وقيل:

إن ذلك قصر قلب؛ لأن محط القصر هو الجملة الواقعة بعد المستثنى لكونها صفة له، والمعنى أنه رسول يخلو كما خلت الرسل من قبله، لا رسول لا يخلو كما هو لازم استقطابهم هلاكه. [المفتاح ص 198].

(3)

إبراهيم: 10.

ص: 559

الحكم، وقالوا: لستم مرسلا، ولكنكم بشر، وفائدة تنزيلهم منزلة المنكر للبشرية المبالغة في المنافاة بين الرسالة والبشرية، قال السيد السند: فرق بين هذا المثال والمثال السابق، فإن المنشأ في التنزيل فيه هو حال المتكلم والمخاطب، وفي السابق حال المخاطب فقط.

هذا، ولا يخفى أنه وهم، لأن المنشأ في التنزيل مطلقا، مخالفة علم المتكلم لما عليه المخاطب، إلا أنه في السابق علمه مطابق للواقع، وهنا غير مطابق، ونأتيك ببحث شريف نظنه موهبة رءوف لطيف، وهو أن ما جعلوه تنزيلا يحتمل أن يكون على مقتضى الظاهر، ويكون الكلام من قبيل الكناية، فيكون إن أنتم إلا بشر بمعنى: إن أنتم إلا غير رسل لاستلزام البشرية نفي الرسالة، فذكر البشرية، وأريد انتفاء الرسالة، ففي الكلام قصر قلب من غير تنزيل، وإنما اختار المصنف في مقام التمثيل:(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا) الآية دون ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ (1)؛ لأنه كان في الأول إشكال يحتاج إلى الدفع، وهو أنه يلزم أن يكون قول الرسل:(إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(2) تسليما لذلك القصر، واعترافا بانتفاء رسالتهم، فأجاب عنه بقوله (وقولهم: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ من مجاراة الخصم) أي: الجرى معه وعدم المخالفة في السلوك، ومن قبيل تسليم المقدمة وإظهار الإنصاف (ليعثر) لينزل الخصم من العثار وهو الزلة، لا من العثور وهو الوقوف (حيث يراد تبكيته) أي: إسكاته وإلزامه، لا لتسليم انتفاء الرسالة، وفيه أن تسليم القصر يستلزم تسليم البشرية، وانتفاء الرسالة أيضا، وفيه العثار في يد الخصم؛ لإعثاره، ليجاب بأن المراد منه: نحن بشر مثلكم، والنفي والاستثناء لغو لم يقصد به معنى، وإنما ذكر لمجرد موافقة الخصم في العبارة، ولا يخفى أن الجواب حينئذ أن المراد بالنفي والاستثناء مجرد إثبات البشرية، ولا مدخل فيه؛ لكونه من مجاراة الخصم على أن ذلك بعيد عن النظم، بل لا يليق ببلاغته؛ لأن الموافقة للخصم في عبارة يكون صريحا في تسليم دعواه بمعزل عن البلاغة، فالوجه أن يقال: إن القائلين اعتقدوا أن الرسول يكون ملكا، لا بشرا، فنزلوا الرسل في دعوى

(1) يس: 15.

(2)

إبراهيم: 11.

ص: 560

رسالتهم منزلة من يعتقد ملكيته، وينكر بشريته، فقيل لهم: إن أنتم إلا بشر مثلنا، وقلبوا حكمهم، وعكسوه، يعني: أنتم بشر، لا ملك، فقولهم: إن نحن إلا بشر، ليس فيه تسليم انتفاء الرسالة، بل تسليم المقدمة للمجاراة، وإلزامهم بقوله: وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ (1) يعني: انتفاء الملائكة، وثبوت انتفاء البشرية لا يستلزم انتفاء الرسالة، وها هنا بحث شريف آخر، وهو أن قول الكفار: فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (2) يدل على أنهم لا ينكرون رسالة البشر، فالوجه إنهم اعتقدوا أن الرسل ادعوا فضلا، وامتيازا عنهم استحقوا بذلك النبوة، فقالوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا يعني: لا يتجاوزون البشرية إلى امتياز حتى يستحقوا الرسالة، وحينئذ وصف البشرية بالمماثلة مقتضى المقام، فقولهم إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تسليم لمقدمتهم، وقولهم: وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ من عباده منع لطلب الرسالة الامتياز، بل (هو فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده) (وكقولك) عطف على قوله: كقولك لصاحبك (إنما هو أخوك لمن يعلم ذلك ويقربه) ظاهر هذه العبارة على ما قررنا عليه بيان الشيخ من أن إنما لا تستعمل إلا بحسب التنزيل بعيد عن الحمل على ما أوله الشارح؛ لأنه حينئذ يكون المعنى لمن يكونه من شأنه أن يعلم ذلك ويقر به، وحينئذ لا وجه لقوله (وأنت تريد أن ترققه) لأن الخطاب حينئذ للإفادة، لا للترقيق، ولذا قال الشارح معترضا على المصنف:

الأولى أن يكون هذا المثال من قبيل التنزيل منزلة المجهول.

والمراد بالترقيق جعله رقيقا مشفقا بإلقاء ما يعلمه أحد إليه، ولم نجده في كتب اللغة، وإنما وجدنا ترقق له إذا رق قلبه له، ونقول: أو تريد الإخبار برقته على المخاطب إذا كان منكرا لرقته عليه، ولو جعل قوله: ترققه للنسبة، أي: تريد أن تنسبه إلى الرقة لكان المراد هذه النكتة، فهي من محتملات عبارته، لكن ما في المفتاح هو الأول.

(وقد ينزل المجهول منزلة المعلوم لادعاء ظهوره) أو ادعاء أنه مما يجب أن يعلم، ويسعى في تحصيله، فكل من يخاطب به، فهو عالم به، ومجرد لمقدمات

(1) إبراهيم: 11.

(2)

إبراهيم: 10.

ص: 561

معرفته (فيستعمل له الثالث نحو: ) قوله تعالى حكاية عن اليهود: (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ)(1) ادعوا أن كونهم مصلحين لكمال ظهوره معلوم للمخاطب، أو لكون معرفة المصلح أمرا واجبا لم يرض أحد من نفسه بالجهل بإصلاحهم (ولذلك) الادعاء المستلزم لكمال الإنكار (جاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ (2) للرد عليهم مؤكدا بما ترى) أي: بما تعلمه محققا أو بما تبصره لكمال ظهوره على حسب إنكارهم تصدير الكلام بحرف التنبيه الموجب لكمال العناية بتفهيمه، وبأن، وإسمية الجملة، وبضمير الفصل الذي للتأكيد عند ما يفيد الحصر، وبتعريف المسند المفيد لحصر الإفساد فيهم ادعاء، والحصر على تأكيد، وادعاء حصر الفساد فيهم تأكيد آخر هذا، وهنا تأكيد آخر لم يشر إليه المصنف، وهو توبيخهم وتقريعهم بقوله:(وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ)(3) وجعله داخلا في قوله:

ما ترى كما يشعر به كلام الشارح بعيد عن السوق ويأباه بيان الإيضاح (ومزية إنما على العطف) المشارك له في الدلالة على القصر بحسب الوضع، فلا يرد أن تلك المزية مشتركة بين التقديم، وإنما لكن يتجه أن ما عليه المزية لا ينحصر في العطف، بل منه النفي والاستثناء (أنه يعقل منها الحكمان معا) كما هو مقتضى القصر؛ لأن القصر أمر إجمالي لا ترتيب في تعقله بين الحكمين، فهو مفهوم إنما، ومترتب على تعقل الحكمين في العطف تفصيلا، فالقصر مع إنما من حاق العبارة، وفي العطف لازم مفهوم العبارة، وفي الشرح أن المزية في ذلك أنه يفهم القصر من أول الأمر، ولا يذهب الوهم إلى خلافه.

(وأحسن مواقعها التعريض) أي: الإشارة إلى معنى غير مقصود من حاق العبارة (نحو: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (4) فإنه تعريض بأن الكفار من فرط جهلهم كالبهائم، فطمع النظر منهم كطمعه منها) ففيه تعريض بطامع النظر منهم، وبما لا ينبغي أن يصدر منه الطمع وبالكفار، وبكونهم كالبهائم، هذا مقتضى سوق كلام المصنف، والمطابق لما ذكره في الإيضاح، وهو أحسن مما ذكره

(1) البقرة: 11.

(2)

البقرة: 12.

(3)

البقرة: 12.

(4)

الرعد: 19.

ص: 562

الشيخ في دلائل الإعجاز من أن المقصود منه ذم الكفار، وأن يقال: إنهم من فرط جهلهم كالبهائم، وكون أحسن مواقعها التعريض دون ما وإلا؛ لأن المخاطب به من لا يجهل الحكم بخلاف النفي والاستثناء، فيكفي في حسن موقع النفي والاستثناء إفادة مدلوله بخلاف إنما، فإنه لا اعتداد معه بمدلول الكلام، وإنما مناط الفائدة ما يتوسل به إليه، فإن قلت: فلا موقع له إلا التعرض، قلت من مواقعه: إفادة لازم فائدة الخبر.

(ثم) أشار بكلمة ثم إلى البعد بين البحثين، والانتقال من بحث إلى بحث، فهو بمنزلة الفصل والباب (القصر كما يقع بين المبتدأ والخبر) وقد سبق أمثلة كثيرة (يقع بين الفعل والفاعل) ومنه (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) والمقصود إلحاق غير المبتدأ والخبر بهما في الكثرة دفعا لتوهم قلته أو عدمه، حيث أكثر أمثلتهما، ولم يأت من الفعل والفاعل إلا بواحد، ولم يأت من غيرهما بشىء ولدفع توهم أنه لا يكون بين الفاعل والمفعول، والفعل والفاعل؛ إذ ليس أحدهما صفة، والآخر موصوفا، حتى يكون من قصر الصفة على الموصوف، أو العكس، والمراد بالفعل ما يعم شبه الفعل كما شاع، ولك أن تدرج شبه الفعل في قوله (وغيرهما) أي: غير الفعل والفاعل.

قال الشارح: كالفاعل والمفعول والمفعولين من باب أعطيت، وذي الحال، والحال، والفعل، وسائر المتعلقات سوى المفعول به، والكل يرجع إلى قصر الفعل مقيدا بما عد مقصورا في المقصور عليه، ولذا انحصر القصر في قصر الصفة على الموصوف، والعكس هذا، ولا يظهر الفرق بين: ما ضرب زيد إلا عمرا، وبين ما ضرب زيد إلا في الدار، حتى يصح جعل القصر في الأول بين زيد وعمرو، أو في الثاني بين ضرب، وفي الدار، بل القصر في الثاني أيضا في الظاهر بين: زيد وفي الدار، وعند التحقيق بين الفعل المقيد بالفاعل والظرف (ففي الاستثناء يؤخر المقصور عليه) عن المقصور (مع أداة الاستثناء وقل تقديمهما) دون تقديم أحدهما بأن يقول في: ما جاءني إلا زيد ما جاء إلا إياي زيد؛ لأن القصر فيما يلي إلا فينعكس المقصود أو بأن يقول: ما جاءني زيد إلا، فإنه لا معنى له أصلا (بحالهما) أي: كائنين بحالهما الذي قبل التقديم من اتصال المقصور عليه بالأداة وتقديم الأداة عليه واحترز به عما إذا لم يكونا بحالهما بأن

ص: 563

يتقدم المقصور عليه على الأداة فتقول في: ما جاءني إلا زيد، ما جاء إلا إياي، لا لأن التقديم فيه كثير، بل لأنه لا يجوز أصلا، لأن القصر إنما يكون فيما يلي إلا فينعكس المقصود (نحو: ما ضرب إلا عمرا زيد، وما ضرب إلا زيد عمرا) والدليل على وقوع هذا التقديم قول الشاعر:

لا أشتهي يا قوم إلا كارها

باب الأمير ولا دفاع الحاجب (1)

وقوله:

كأن لم يمت حيّ سواك ولم يقم

على أحد إلا عليك النّوائح (2)

(لاستلزامه قصر الصفة قبل تمامها) في المثالين المذكورين؛ لأن المقصور ضرب زيد في عمرو، لا مطلق الضرب، وضرب واقع على عمرو في: زيد لا مطلق الضرب، ففي التقديم إيهام المقصود، أولا وينبغي أن يعلم أن ما ضرب إلا عمرا زيد أضعف من: ما ضرب إلا زيد عمرا؛ لأن فيه رعاية الأصل من تقديم الفاعل، وفي: ما ضرب إلا عمرا زيد، خلاف الأصل، ولا يخفى أن قوله: لا أشتهي إلخ من قصر الموصوف على الصفة فإنه من قبيل قصر المتكلم وقت الاشتهاء على الكراهية، ففيه قصر الموصوف على الصفة قبل تمامه؛ لأن وقت الاشتهاء باب الأمير، ودفاع الحاجب من تتمة المقصور، فالتعليل قاصر، ويمكن أن يعلل الحكم بأن المقصور بمنزلة أمر واحد، والفصل بين أجزائه بالمقصور عليه، كالفصل بين أجزاء كلمة. وبعض النحاة منع التقديم بحالهما أيضا، وجعل ما ضرب إلا عمرا زيد كلامين بتقدير ضرب زيد في جواب من ضرب؟ ولا يخفى أنه تكلف وقال المصنف: هذا التقدير باطل؛ لأنه يفيد الحصر في الفاعل أيضا ومنعه البعض؛ لأن المقدر خال عن أداة القصر وقال الشارح المحقق إن السؤال المقدر يقتضي الجواب باستيفاء الضارب حتى لو ضرب زيد عمرو، وقلت في جواب من ضرب عمرا زيد، لم يتم الجواب. فقال: نعم يمكن التزام القصرين في هذه الصورة والتزام أنه لا يقدم المفعول مع إلا على الفاعل، إلا إذا أريد القصران.

(1) البيت لموسى بن جابر الحنفيّ في خزانة الأدب (1/ 300)، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 363.

(2)

البيت لأشجع السلمي في خزانة الأدب (1/ 295)، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 858، والمقاصد النحوية (3/ 575).

ص: 564

هذا ونقول إن إيراد المصنف لا يقتصر على هذا المقام، بل يتجه على مواضع متعددة وهي مذاهب جماهير النحاة منها زيد يعطي عمرا أمس درهما؛ فإنهم جعلوه في تقدير أعطاه درهما، في جواب ما أعطاه؛ ومنها زيد معطي غلامه أمس درهما، في جواب ما أعطى؛ ولا يمكن التزام الحصر فيه؛ إذ لم يردوا على الكسائي في قوله بأن المنصوب مفعول الصفة دون الفعل المقدر بأنه يفوت الحصر، ومنها قولهم إن زيدا ضرب الناس عمرا في تقدير يضرب عمرا في جواب من يضربه وقتها، قولهم في [ليبك يزيد ضارع] إنه في تقدير يبكيه ضارع في جواب من يبكيه؟ ومن البين أن ليس المعنى على أنه لا يبكيه إلا ضارع، ولو التزمنا القصرين في ما ضرب إلا عمرا زيد على مذهب بعض النحاة، لم يكن المخالفة بين السكاكي وذلك البعض في مجرد توجيه النصب بل في معنى التركيب أيضا، وحينئذ يرجح قول السكاكي (1) ومن تبعه؛ لأنهم لم يقولوا بذلك إلا بعد تحقيق المراد بالتركيب، والبعض أقرب بالغفلة عن أنه يلزمهم القصر بتقدير السؤال، فالتحقيق أن السؤال بمن يقتضي الحصر، لو لم يكن مقدرا ناشئا من الكلام فأبكى في تقدير من يبكيه مثلا في البيت قاصد تعيين الفاعل المتروك لا سائلا عن عموم الباكي فكأنك تريد من يبكي بالبكاء الذي قصدت الأمر به لقولك ليبك فتأمل.

(ووجه الجميع) أي: السبب في إفادة القصر أو طرز الجميع وطريقيه فيها في الجميع أي: جميع صور القصر مما هو بين المبتدأ والخبر والفعل والفاعل ومتعلقات الفعل إلى غير ذلك وإنما اقتصر على بيان الوجه في النفي والاستثناء لأن وجه القصر في العطف بين وإنما أرجع إلى النفي والاستثناء، والتقديم إما راجع إلى النفي والاستثناء أو إلى العطف مزيدا ضربت في معنى ما ضربت إلا زيدا أو زيدا ضربت لا غير، واقتصر على البيان في المفرغ؛ لأن البيان فيه يجعله مردودا إلى غير مفرغ فإذا بين فكأنه بين غير المفرغ أيضا (أن النفي في الاستثناء المفرغ) وهو الذي ترك فيه المستثنى منه ففرغ الفعل الذي قبل إلا وشغل المتعلق عنه بالمستثنى كذا قالوا فوصفه بالمفرغ وصف بحال المتعلق أي: مفرغ العامل أو على الحذف والإيصال أي: المفرغ له ونحن نقول هو الذي فرغ عن إعرابه ليشتغل بإعراب المستثنى منه والأولى أن يقولوا: ففرغ العامل الذي قبل إلا وشغل عنه بالمستثنى

(1) المفتاح ص 179.

ص: 565

ليشمل ما أنا إلا قائم بل الأولى: ففرغ عامل المستثنى منه وشغل عنه بالمستثنى ليشمل أيضا ما قائم إلا أنا فإن العامل فيه بعد إلا؛ لأن العامل المعنوي مع المبتدأ لا مع الخبر فتأمل.

(بعد إلا) الأولى تركه ليشمل المستثنى المفرغ بغير ويستغنى عن قوله: وغير كإلا إلخ (يتوجه إلى مقدر) لئلا يلزم النفي من غير منفي عند (عام) ليتناول المستثنى منه وغيره ولئلا يلزم التخصيص من غير مخصص فيقول: القول بتقدير المستثنى منه ينافي ما سيجىء في بحث الإيجاز والإطناب من أن قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ (1) من أمثلة المساواة وما وجهه الشارح به من أن تقدير المستثنى منه اعتبار نحوي دعا إليه أمر لفظي هو بمعزل عن نظر صاحب المعاني إلا أن يراد بالمقدر في هذا العبارة ما ينساق الذهن إليه ويرجع إليه تفصيل المعنى من غير تقدير في نظم الكلام فتأمل.

(مناسب للمستثنى في جنسه) بأن يقدر في ما ضرب إلى زيد أحد لا حيوان أو شىء حتى لا ينافى القصر مجىء حمار وفي ما أعطيته إلا جبة لباسا حتى لا ينافيه إعطاء درهم، فالمراد بالجنس ما يعد في العرف جنسا ويقال للشىء المشارك للمستثنى منه إنه من جنسه ألا ترى أنه لا يقال للحمار إنه من جنس زيد مع أنه حيوان كزيد وما يقرب منه يفهم من قولهم الجنس إلى الجنس يميل فمن فسره بما لا يصدق على المستثنى فقد بعد (و) في (صفته) أي: كونه فاعلا أو مفعولا إلى غير ذلك، ولا يخفى أن في قوله:«في جنسه» مسامحة لأن المقدر يجب أن يكون جنس المستثنى لا مشاركة في الجنس فلا يصح المناسبة في جنسه كما صحت في صفته فالمراد: مناسب له في كونه جنسه وأن القصر لا يتوقف على تقدير ذلك المناسب بل لو قدر أعم الأشياء لحصل القصر وأيضا المستثنى فيما ذكر فيه المستثنى منه نحو ما جاءني أحد إلا زيدا ليس مناسبا له في صفته مع إفادته القصر، وأن في بيان وجه القصر تحقيق حقيقة القصر وبيان مقدار ما يواجه النفي إليه وهو أمر مهم لا ينبغي الغفلة عنه (فإذا أوجب منه) أي من ذلك العام (شىء بإلا) لشىء إذا وجب لشىء منه بإلا كما في جاءني إلا زيد فإنه لم يوجب من العام شىء

(1) فاطر: 43.

ص: 566

بل أوجب لشىء منه (جاء القصر) ضرورة بقاء ما عدا ذلك على ما كان عليه من تعلق النفي به (وفي إنما يؤخر المقصور عليه) بقول: إنما ضرب زيد عمرا، لو قال: زيدا لاستغنى عن قوله.

(ولا يجوز تقديمه على غيره) إما من التجويز وهو الأنسب بقوله يؤخر، وإما من الجواز (للالتباس) أي: لالتباس المقصور عليه بغيره مع لزوم القصر قبل التمام، فإن قلت: مع تقديم المقصور ينعكس المعنى، والالتباس إبهام المقصود لا تعين غير المقصود قلت: لو سلم فالمراد أنه لو جاز تقديم المقصور لزم الالتباس وتعين غير المقصور بعد إيجاب تأخير المقصور عليه، وفيه أنه في صورة جمع لا مع إنما لا التباس مع التقديم، فلو قيل إنما ضرب عمرا زيد لا بكر ألم يلتبس؟ قال الشارح المحقق: وهاهنا نظر لوجود تقديم المقصور مع إنما كما في قولنا إنما زيدا ضربت فإنه لقصر الضرب على زيد كما قال أبو الطيب:

أسناه لم تزده معرفة

وإنّما لذّة ذكرناها

أي: ما ذكرناها إلا للذة ويمكن الجواب يمنع أن إنما هنا للقصر إنما القصر للتقديم هذا وفيه أن في الحكم بأن إنما في هذا التركيب لا قصر منه وفي إنما جاءني زيد إلا عمرو للقصر تحكما (وغير كإلا في إفادة القصرين) أي: قصر الصفة على الموصوف وقصر الموصوف على الصفة بأقسامهما ولك أن تريد بالقصرين القصر بين المبتدأ والخبر والقصر بين غيرهما وهو أقرب (وفي امتناع مجامعة لا) قد تبع المفتاح في تخصيص وجه الشبه، والأولى الاقتصار على قوله:«وغير كإلا» إذ فيه تكثير المعنى بتقليل اللفظ؛ لأنه يفيد المشاركة في جميع الأحكام.

ألا إلهي منك الإيجاد والإنشاء، وأنت الذي تفعل ما يشاء، لا نبتهل ولا نلتجئ إلا إليك، ولا نتمنى النداء برفع الحاجة إلا بين يديك، أنت المستغني في معرفة افتقارنا عن الاستفهام، وأنت المنزه عن أن يكون شىء منك في خبر الإبهام، ألهمنا بخير أمورنا، وأنعم علينا بشرح صدورنا، ووفقنا بالاجتناب عن المناهي، وارزقنا بمعرفتك معرفة حقائق الأشياء كما هي، يا كريم أنت الذي لا يخيب راجيا، ولا يحرم فضله مناديا ولا مناجيا.

***

ص: 567