المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

توهم الدور بالنظر إلى تعريف الصدق بالخبر عن الشيء على - الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم - جـ ١

[العصام الأسفراييني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المحقق

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌متن كتاب التّلخيص في علوم البلاغة وهو تلخيص كتاب «مفتاح العلوم» للسّكاكيّ

- ‌كلمة الافتتاح

- ‌مقدّمة فى بيان معنى الفصاحة، والبلاغة

- ‌الفنّ الأوّل علم المعاني

- ‌تنبيه (1/ 213) صدق الخبر: مطابقته للواقع، وكذبه: عدمها

- ‌أحوال الإسناد الخبريّ

- ‌إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر

- ‌أحوال المسند إليه

- ‌أولا: حذف المسند إليه، وذكره

- ‌ثانيا: تعريف المسند إليه، وتنكيره

- ‌[أتعريفه]

- ‌تعريف المسند إليه بالعلمية:

- ‌تعريف المسند إليه بالموصليّة:

- ‌تعريف المسند إليه بالإشارة:

- ‌تعريف المسند إليه باللام:

- ‌تعريف المسند إليه بالإضافة:

- ‌ب- تنكير المسند إليه

- ‌ثالثا: إتباع المسند إليه، وعدمه

- ‌وصف المسند إليه:

- ‌توكيد المسند إليه:

- ‌بيان المسند إليه:

- ‌الإبدال من المسند اليه:

- ‌العطف على المسند إليه:

- ‌رابعا:‌‌ تقديم المسند إليه، وتأخيره:

- ‌ تقديم المسند إليه

- ‌رأى عبد القاهر:

- ‌رأى السكاكى:

- ‌تأخير المسند إليه:

- ‌إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر:

- ‌أحوال المسند

- ‌ترك المسند اليه:

- ‌ذكر المسند إليه:

- ‌وأما تنكيره:

- ‌وأما تخصيصه بالإضافة أو الوصف:

- ‌وأما تركه:

- ‌وأما تعريفه:

- ‌وأما كونه جملة:

- ‌وأما تأخيره:

- ‌وأما تقديمه:

- ‌تنبيه

- ‌أحوال متعلّقات الفعل

- ‌القصر

- ‌[طرق القصر]

- ‌منها: العطف

- ‌ومنها: النفى والاستثناء

- ‌ومنها: إنّما

- ‌ومنها: التقديم

- ‌الإنشاء

- ‌منها التمنّي

- ‌ومنها: الاستفهام

- ‌ومنها: الأمر

- ‌ومنها: النهي

- ‌[ومنها: العرض]

- ‌ومنها: النداء

- ‌الفضل والوصل

- ‌الإيجاز والإطناب والمساواة

- ‌(المساواة)

- ‌(الإيجاز)

- ‌(الإطناب)

- ‌الفنّ الثاني علم البيان

- ‌ التشبيه

- ‌ طرفاه

- ‌ ووجهه

- ‌أركان التشبيه

- ‌(الغرض من التشبيه)

- ‌خاتمة

- ‌الحقيقة والمجاز

- ‌ الاستعارة

- ‌المجاز المرسل

- ‌المجاز المركّب

- ‌فصل (2/ 305) عرّف السكاكى الحقيقة اللغوية بالكلمة المستعملة فيما وضعت له، من غير تأويل فى الوضع

- ‌فصل (2/ 332) حسن كل من التحقيقيّة والتمثيل

- ‌فصل (2/ 336) وقد يطلق المجاز على كلمة تغيّر حكم إعرابها

- ‌(الكناية)

- ‌فصل (2/ 360) أطبق البلغاء على أنّ المجاز والكناية أبلغ من الحقيقة والتصريح

- ‌الفنّ الثالث علم البديع

- ‌ المطابقة

- ‌المحسّنات المعنويّة

- ‌المقابلة

- ‌مراعاة النظير

- ‌الإرصاد

- ‌المشاكلة

- ‌المزاوجة

- ‌العكس

- ‌الرجوع

- ‌التورية

- ‌الاستخدام

- ‌اللف والنشر

- ‌الجمع

- ‌التفريق

- ‌التقسيم

- ‌الجمع مع التفريق

- ‌الجمع مع التقسيم

- ‌الجمع مع التفريق والتقسيم

- ‌التجريد

- ‌المبالغة

- ‌المذهب الكلامي

- ‌حسن التعليل

- ‌التفريع

- ‌تأكيد المدح بما يشبه الذم

- ‌تأكيد الذم بما يشبه المدح

- ‌الاستتباع

- ‌الإدماج

- ‌التوجيه

- ‌الهزل يراد به الجد

- ‌تجاهل العارف

- ‌القول بالموجب

- ‌الاطراد

- ‌المحسنات اللفظية

- ‌رد العجز على الصدر

- ‌السجع

- ‌الموازنة

- ‌القلب

- ‌التشريع

- ‌لزوم ما لا يلزم

- ‌خاتمة: فى السّرقات الشّعريّة، وما يتّصل بها، وغير ذلك

- ‌ الاقتباس

- ‌التضمين

- ‌العقد

- ‌الحلّ

- ‌التلميح

- ‌فصل (2/ 523) ينبغى للمتكلّم أن يتأنّق فى ثلاثة مواضع من كلامه

- ‌[الخطبة]

- ‌[تسمية الكتاب]

- ‌[مقدمة]

- ‌[(الفصاحة)]

- ‌[والبلاغة]

- ‌[فالتنافر]

- ‌[والغرابة]

- ‌[والمخالفة]

- ‌[قيل ومن الكراهة في السمع]

- ‌[وفي الكلام خلوصه]

- ‌[أما في النظم]

- ‌[وأما في الانتقال]

- ‌[قيل ومن كثرة التكرار]

- ‌[وفي المتكلم ملكة يقتدر بها]

- ‌[والبلاغة في الكلام]

- ‌[فمقتضى الحال]

- ‌[ولها طرفان: ]

- ‌[وأن البلاغة مرجعها إلى الاحتراز]

- ‌(الفن الأول: علم المعاني)

- ‌[صدق الخبر]

- ‌(أحوال الإسناد الخبري)

- ‌[وقد ينزل العالم بهما منزلة الجاهل]

- ‌[ثم الإسناد منه حقيقة عقلية]

- ‌[ومنه مجاز عقلي]

- ‌[وأقسامه أربعة]

- ‌(أحوال المسند إليه)

- ‌[أما حذفه فللاحتراز عن العبث]

- ‌[وأما ذكره فلكونه إلخ]

- ‌[وأما تعريفه]

- ‌[فبالإضمار 291

- ‌[وأصل الخطاب]

- ‌[وبالعلمية]

- ‌[وبالموصولية]

- ‌[وبالإشارة]

- ‌[وباللام]

- ‌[وقد يفيد الاستغراق]

- ‌[وبالإضافة]

- ‌[وأما تنكيره]

- ‌[وأما وصفه]

- ‌[وأما توكيده]

- ‌[وأما بيانه]

- ‌[وأما الإبدال منه]

- ‌[وأما العطف]

- ‌[وأما الفصل]

- ‌[وأما تقديمه]

- ‌[وإن بنى الفعل على منكر]

- ‌[ومما نرى تقديمه كاللازم]

- ‌[مبحث كلمة كل]

- ‌[وأما تأخيره فلاقتضاء المقام]

- ‌[ويسمى هذا النقل عند علماء المعاني التفاتا]

- ‌[أحوال المسند أما تركه فلما مر]

- ‌[وأما ذكره فلما مر]

- ‌[وأما إفراده فلكونه غير سبب]

- ‌[وأما كونه فعلا فللتقييد بأحد الأزمنة الثلاثة]

- ‌[وأما كونه اسما فلإفادة عدمهما]

- ‌[وأما تقييد الفعل بمفعول ونحوه وأما تركه فللمانع منهما]

- ‌[وأما تقييده بالشرط]

- ‌[وأما تنكيره فلإرادة عدم الحاصر والعهد]

- ‌[وأما تخصيصه بالإضافة أو الوصف فلكون الفائدة أتم]

- ‌[وأما تعريفه فلإفادة السامع حكما]

- ‌(أحوال متعلقات الفعل)

- ‌[الحذف وأغراضه]

- ‌[أنواع القصر]

- ‌[شروط قصر الموصوف على الصفة]

- ‌(الإنشاء)

- ‌[أنواعه]

- ‌[من أنواع الطلب]

الفصل: توهم الدور بالنظر إلى تعريف الصدق بالخبر عن الشيء على

توهم الدور بالنظر إلى تعريف الصدق بالخبر عن الشيء على ما هو به، على ما في المفتاح، وما ذكرناه من الجواب عن توهم الدور نظرا إلى تعريف المصنف للصدق والكذب، مما ذكرنا أوفق بالمقام، وأورد السيد السند على الجواب الثاني للشارح سؤالا وجوابا كل منهما أسقط من الآخر، فلا جرم أعرضنا عنهما إعراضا عن المنكر، ولأنه يعلم أن الحكم بأن الصدق مطابقة الخبر للواقع، أو أن الخبر ينحصر فيهما بديهي، والمخالف عانى الشبهة فلذا لم يستدل عليه واكتفى بحل لشبهة المخالف المكابر دفعا لاضطراب القاصر، وأن يكفي لدفع شبهته أنها مصادمة للبديهي.

[صدق الخبر]

(صدق الخبر) قيد الصدق بالخبر تعيينا للمحدود؛ إذ الصدق مشترك بين صدق المتكلم وصدق الخبر كما مر الإشارة إليه، وليس للاحتراز عن صدق غير الخبر، من صدق المركبات التقييدية والإنشائية؛ لأن الصدق والكذب مختصان بالأخبار من بين المركبات، لما قدمناه لك، وإن قال بعض: إنه لا فرق بين النسبة في المركب الإخباري وغيره، إلا بأنه إن عبر عنه بكلام تام يسمى خبرا وتصديقا كما في قولنا: زيد إنسان، أو فرس، وإلا يسمى تركيبا تقييديا وتصورا، كما في قولنا: يا زيد الإنسان، أو الفرس، وأياما كان فالمركب إما مطابق فيكون صادقا، أو غير مطابق فيكون كاذبا، فيا زيد الإنسان صادق، ويا زيد الفرس كاذب، ويا زيد الفاضل محتمل هذا، وليس ما ذكره الشارح المحقق من أن النسب التقييدية لا بد لها من أن تكون معلومة للمخاطب، بخلاف الخبرية- ولذا قالوا: الأوصاف قبل العلم بها أخبار، كما أن الأخبار بعد العلم بها أوصاف- صالحا لإبطاله (1)، لا لما ذكر السيد السند من أن المعتبر في احتمال الصدق والكذب النظر إلى مهية الخبر مع قطع النظر عن غيرها، حتى خصوصيات الأطراف، لأن مهية المركب التقييدي مأخوذة فيها علم المخاطب فتجريد النظر إلى مهيته لا يستر المعلومية عن نظر العقل، بخلاف مهية الخبر، بل لأن علم المخاطب المعتبر ليس اليقين، حتى ينافي احتمال الكذب، ولأن احتمال الكذب لا يمنعه

(1)(صالحا لإبطاله) خبر ليس في قوله: «وليس ما ذكره الشارح

إلخ» وهذا يدل على مدى ما بلغه أسلوب المصنف من التعقيد المنافي للبلاغة.

ص: 213

علم المخاطب مطلقا، لأنه يحتمل عند غير المخاطب على أنه لا يوجب الفرق بين الخبر والإنشاء، ثم فيما ذكره هذا القائل لوامع الغفلة والإهمال، أما أولا: فلأن قوله: لا فرق بين النسبة في المركب الخبري وغيره إلا بأنه إن عبر عنه بكلام تام يسمى خبرا وتصديقا، وإلا يسمى مركبا تقييديا ينتقض بالنسب المعبر عنها بكلام إنشائي، ولو أريد بكلام تام ما هو غير إنشائي لا يصح قوله، وإلا يسمى مركبا تقييديا.

وأما ثانيا: فلأنه إن قطع النظر عن معلومية النسبة في التقييدات بحسب خصوص المادة فجميع الأمثلة محتمل، ولا يخفى أن احتمال الصدق والكذب راجع إلى محصل المهية.

(مطابقته للواقع) احترز بإضافة المطابقة إلى الخبر عن صدق المتكلم فإنه أيضا المطابقة للواقع، لكن لا مطابقة الخبر للواقع بل مطابقة خبره للواقع، فالقول بأنه يكفي أن يقال: المطابقة للواقع من ملقيات الوهم.

(وكذبه عدمها) أي عدم مطابقته للواقع عدل عن عبارة المفتاح، وهي غير مطابقته للواقع؛ لأنه صادق على غير عدم المطابقة من الأمور الكثيرة، التي ليست بكذب، ويحتاج تصحيحه إلى جعل (غير) بمعنى (لا) ليكون غير مطابقته للواقع بمعنى لا مطابقته للواقع، ومنه قولهم: إن زيدا غير ضارب أي لا ضارب، وإلا لزم تقديم معمول المضاف إليه على المضاف، هذا والمشهور أن وصف الخبر بالمطابقة للواقع وصف له بحال متعلقه، فإن المطابق للواقع- أي النسبة الخارجية وهي الحالة التي بين الطرفين مع قطع النظر عن تعلقها- الأمر الذهني المتعلق بالخبر، والشارح المحقق ذهب إلى أنه النسبة المعقولة التي هي جزء مدلول الخبر أعني الوقوع واللاوقوع من حيث إنها معقولة فأثبتية المطابق والمطابق بالاعتبار، ولم يرض به السيد السند، وقال: هو الإيجاب والسلب، ومطابقتهما الأمر الخارجي هو التوافق في الكيف، بأن يكونا ثبوتيين أو سلبيين، ولكل وجهة هو موليها، ونحن نقول: مطابقة الخبر للواقع يحتمل أن يكون بمعنى موافقته له، وعدم مباينته له، بأن يكون مفيدا للواقع، فإن موافقة الدال لشيء إنما هو بالدلالة عليه، وإطلاق الواقع، والحاصل على النسبة مع أنها من الأمور

ص: 214

الاعتبارية باعتبار أنها حاصلة للطرفين، والأمر الاعتباري يصح أن يحصل لغيره كالعمى الحاصل للأعمى، وثبوت الشيء للشيء ليس مستلزما لثبوت المثبت، بل لثبوت المثبت له، وجعل الخارج ظرفا للنسبة، ووصف النسبة بالخارجية لا يستدعي وجودها، وذلك على ما حققوا للفرق، بين كون الخارج ظرفا لنفس الشيء، وبين كونه ظرفا لوجوده. فإن قولنا: زيد موجود في الخارج جعل فيه الخارج ظرفا لنفس الوجود، وهو لا يقتضي وجود المظروف، وإنما يقتضي وجود ما جعل ظرفا لوجوده، فالموجود في هذه الصورة زيد لا وجوده، ففي قولنا: زيد قائم في الخارج جعل الخارج ظرفا لنفس ثبوت القائم لزيد، فاللازم كون القائم ثابتا في الخارج بثبوت لغيره لا الثبوت، ونحن نقول: الخارج اسم للأمر الموجود في الخارج كالذهن الذي هو اسم للأمر الموجود في الذهن، فمعنى كون الشيء موجودا في الخارج والأعيان أنه واحد منها، وفي عدادها، فظرفية الخارج للوجود مسامحة، إذ الوجود ليس في عداد الأعيان، ومعنى زيد موجود في الخارج أن وجوده في وجود الخارج، وفي عداد وجوداته، فليس الخارج إلا ظرفا لنفس الشيء، لكنه إذا جعل ظرفا له حقيقة اقتضى وجوده، وإذا جعل ظرفا له مسامحة لم يقتض وجوده، هكذا حقق الخارج والواقع، واحفظه واجعله في سلك البدائع ولا تنكره؛ لأنه خلاف المستفيض الشائع.

ومما ينبغي أن ينبه عليه أن ما بسط من الكلام في الخارج ليس في الخارج الذي يدور عليه الصدق والكذب، لأنه بمعنى خارج تعقل المتكلم لا بمعنى الخارج المقابل للذهن، وإلا لم يشمل الصادق والكاذب الذهنيين، بل في الخارج المقابل للذهن، لنكون على بصيرة في القضايا الخارجية، ويتضح عندك وجه تقييد النسبة فيها بالخارج، ولذا عجب المصنف في بيان المذاهب الثلاثة، فذكر المذهب الأول من غير نسبة إلى صاحبه، كما نسبه المفتاح إلى الجمهور، ولم يؤيده، ولم يبالغ في التصريح بترجيحه، كما أيده وصرح به حيث قال: وهو المتعارف وعليه التعويل، مبالغة في صحته وظهور سلطانه، إلى أن استغنى اعتباره وعن نسبته إلى الجمهور، وعن التأييد بتعارفه، والشهادة بأنه المعول عليه، وأشار إلى كمال سخافة المذهب الثاني، بحذف قائله وتحقيره بمجهوليته، مع

ص: 215

العلم بأنه النظام، وقد سلك هذا المسلك المفتاح حيث قال: وعند بعض؛ إلا أنه عدل إلى أخصر طريق في ذلك، وأشار إلى رجحان مذهب الجاحظ، بذكر القائل، ووجه كمال سخافة هذا المذهب ما أشار إليه السكاكي من أن تصديق اليهودي إذا قال: الإسلام حق، وتكذيبه إذا قال: الإسلام باطل، بإجماع المسلمين ينجيان بالقطع على هذا المذهب، واستئصاله، ومع ذلك قدمه على مذهب الجاحظ (1) لكمال اتصاله بالمذهب الأول، حيث اجتمعا في انحصار الخبر في الصادق والكاذب فقال عقيب بيان الحق:(وقيل: مطابقته لاعتقاد المخبر ولو خطأ) وجرد بيانه عن حشو في عبارة المفتاح حيث قال: طباق الحكم لاعتقاد المخبر أو ظنه، فإن قوله أو ظنه حشو، إذ لا بد من حمل الاعتقاد في هذا التعريف على معناه الغير (2) المشهور، وهو التصديق الشامل للظن والعلم وغيرهما؛ إذ لو حمل على المشهور وهو الجزم القابل للتشكيك لخرج مطابقة الخبر لعلم المخبر عن حد الصدق، ولدخل في حد الكذب، وعدل عن قوله سواء كان خطأ أو صوابا إلى قوله ولو خطأ؛ لأنه أخصر وإلى الصواب أقرب؛ لأن مطابقة الاعتقاد الصواب أحق بالصدق من مطابقة الاعتقاد الخطأ، كما تقيده (لو) الوصلية، فالتسوية لا تخلو عن شوب، وفيه أن سوى في الإيضاح؛ لكن الراجح ما في المتن، وقوله: ولو خطأ للإشعار بالفرق بينه وبين ما هو الحق، فإنه يفارق الأول في هذا الفرق، وأشار إلى تعريف الكذب بقوله:(وعدمها) أي عدم مطابقته للاعتقاد ولو خطأ، فالكذب بمخالفة الاعتقاد الخطأ، مادة افتراق الكذب على ما هو الحق، لكن لا تقتصر مادة افتراق الكذب عليه؛ بل منها الخبر الموهوم والمشكوك، فإنهما لا يطابقان اعتقاد المخبر لانتفائه، وليس لك أن تقول: المراد عدم مطابقة الاعتقاد مع وجوده، ولا اعتقاد له في المشكوك، لأنه ينافي ما هو مذهبه من انحصار الخبر في الصادق والكاذب، ولا أن تقول: الخبر المشكوك ليس بخبر، لأنه لا تصديق له بمدلوله، لأنا نقول: الخبر ما يدل على التصديق، سواء تخلف المدلول أو لا، ولولا ذلك لم يوجد خبر كاذب على هذا

(1) الجاحظ: أبو عمرو بن بحر بن محبوب الكناني. شيخ الأدباء وإمامهم في الفصاحة والبيان، ولد بالبصرة سنة 150 هـ وتوفي 255 هـ.

(2)

هكذا وردت بالأصل.

ص: 216

المذهب، لأن الخبر الكاذب ما خالف المدلول اعتقاد المخبر، فلا اعتقاد للمخبر بخبره، ولا تصديق به، فلا يكون كاذبا لأنه مختص بالخبر.

ومن تحقيق تعريف الكذب يكاد يظهر أنه لا يصح جعل ضمير ولو خطأ إلى الخبر لأنه وإن لا تفاوت بينه وبين جعله للاعتقاد في تعريف الصدق لكن في تعريف الكذب لا يصح، حينئذ من ذكر قوله؛ ولو خطأ، وجعل المصنف تاركا لقوله ولو خطأ في تعريف الكذب لا موجزا اعتمادا على انسياق الذهن إليه بعد اعتباره في تعريف الصدق بعيد.

بدليل قوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) أضاف الدليل إلى تمسك النظام إشارة إلى قوته؛ لأن الظاهر رجوع الكذب إلى قوله: إنك لرسول الله، لأنه الخبر المنقول عنهم، ويشهد ليس بخبر بل إنشاء. والظاهر من الحكم بالكذب الحكم بالكذب في الواقع، لا في اعتقادهم، فالظاهر معه، والرد ليس إلا بتأويل الآية كما صرح به المفتاح، لا نقول التأويل لا يعارض الظاهر، لأنا نقول يعارض البداهة المنبه عليها بقوله: تنبيه الدليل، ويوجب التأويل، وفي المفتاح: أن إجماع المسلمين على تصديق اليهودي في قوله: الإسلام حق، وتكذيبه في قوله: الإسلام باطل، يوجب تأويل النظم.

(ورد) استدلالهم (بأن المعنى: لكاذبون في الشهادة) يحتمل وجوها:

ظاهرها: أنه راجع إلى خبر تضمنه مجرد «نشهد» ، لأنه إخبار عن الشهادة في الحال، أو على سبيل الاستمرار، أما كذبهم في الثاني فظاهر، وأما في الأول فلأن الشهادة هو الخبر العاطف، ورده الشارح المحقق في شرح المفتاح بأن «نشهد» إنشاء الشهادة، لا الإخبار عنها، وقال في الشرح: لا نسلم أنّ «نشهد» خبر بل إنشاء، ويدفعه في غاية الأمر أن ظاهره الإنشاء، ونحن في مقام التأويل لموجبه.

وثانيها: أنه راجع إلى دعوى أن شهادتنا إنشاء، وهذه من صميم القلب، كما يفيده تأكيد الرسالة بأن، واللام، واسمية الجملة، وهذا هو الذي أوضحه في

(1) المنافقون: 1.

ص: 217

الإيضاح، موافقا لما في المفتاح.

وثالثها: ما يختلج في الصدر ونرجو أن يكون من نتائج الشرح أي شرح الصدر، أو شرحنا: أن الكذب يوصف به الخبر والشهادة، وهو عدم كون الشهادة عن مشاهدة وعيان، فالصدق والكذب اللذان (1) كلامنا فيهما صفتا الخبر، واستعمال النظم بمعنى هو صفة للشهادة، فقد خلط القائل معنى بمعنى.

(أو تسميتها) الظاهر أو تسميته لأنه راجع إلى الإخبار إلا أن يقال: مفعوله الأول محذوف، والمذكور مفعول ثان، وهو راجع إلى لفظ الشهادة. فالمعنى:

تسمية هذا الإخبار شهادة، وكذبهم؛ لأن الشهادة يشترط فيه مواطأة القلب، وهذا التأويل بعيد لما ذكره الشارح المحقق في الشرح، أن مثل هذا يكون غلطا في إطلاق اللفظ لا كذبا، وإن قال في شرح المفتاح في توجيهه: كأنه قيل: إخبارنا هذه شهادة، لأنه في التعبير عن معنى بلفظ لا يكون مثل هذا الخبر مقصودا.

(أو المشهود به) وهو إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ (في زعمهم) فحاصل المعنى: أن المنافقين يزعمون، إنهم لكاذبون في قولهم إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وأنه غير مطابق للواقع. فحاصل الاستدلال بالآية أن الله تعالى حكم على المنافقين بكذبهم في الواقع في قولهم إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ فالكذب عدم مطابقة الاعتقاد ليتم هذا الحكم، وحاصل الجواب: منع الحكم عليهم بالكذب في الواقع في قولهم: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ لاحتمال الحكم بالكذب في الشهادة والتسمية، وفي قولهم: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ

بزعمهم فحقيقة الجواب منع، والوجوه أسانيد ثلاثة كما قيل، ولا يظهر وجه دعوى الشارح فساده قابلا بأن حاصل الجواب منع كون التكذيب راجعا إلى قولهم: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ مستندا بهذين الوجهين، ثم الجواب على تقدير التسليم بما أشار إليه بقوله: أو المشهود به وبالجملة، ما وقع في الشرح من المنع في الوجهين الأولين منع للسند، ومما يقتضي منه العجب، قال الشارح:

واعلم أن هناك وجها آخر لم يذكره القوم، وهو أن يكون راجعا إلى حلف المنافقين على أنهم لم يقولوا: لا تنفقوا على من عند رسول الله، حتى ينفضوا من حوله، ولو رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل، لما ذكر في صحيح

(1) في الأصل: «اللذين» وهو خطأ.

ص: 218

البخاري عن زيد بن أرقم أنه قال:

كنت في غزاة فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول: لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولو رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فحدثته فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا أنهم ما قالوا فكذبني رسول الله- عليه السلام وصدقهم فأصابني هم لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله- صلى الله عليه وسلم ومقتك، فأنزل الله إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ فبعث إلىّ النبي- صلى الله عليه وسلم فقرأ عليّ فقال:«إن الله صدقك يا زيد» (1).

هذا ولا يخفى أنه تأويل فيه بعد، وقريب منه ما يمكن أن يقال: إنه راجع إلى قولهم: ليخرجن الأعز منها الأذل، فيكون قوله وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ (2) مؤكدا له، وذكر بعض الأفاضل: أن المعنى أنهم قوم عادتهم الكذب، وإن صدقوا في هذا القول، فلا تعتمد عليهم ولا تصدقهم فيما يقولون، ونحن نقول:

يحتمل أن يكون المراد- والله تعالى أعلم- أن قول المنافقين نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ (3) مفيد بحضورك، وحضور أهل الإسلام، وأما في الخلوة مع شياطينهم فحالهم خلاف ذلك، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (4) فيما ينافقون ويضمرونه في أنفسهم، ولهذا أعاد الظاهر ليعلق لكذب بصريح المنافقين لا بضميرهم، ليكون ظاهرا في رجوعه إلى ضميرهم، ويحتمل أن يكون الكذب راجعا إلى خبر يستفاد من كثرة التأكيد، أي هذا حكم في معرض المبالغة في إنكاره فيحتاج إلى كثرة التأكيد، ومن شواهد ضعف تمسك النظام ما يتجه عليه: أن الآية لا توجب جعل صدق الخبر خلاف ما عليه الجمهور، بل جعل صدق المتكلم تكلمه بما يوافق اعتقاده، وكذبه تكلمه بما لا يطابقه.

(الجاحظ) أي قال الجاحظ كما هو السابع في الكتاب، وليس مراد الإيضاح

(1) أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب التفسير، تفسير سورة المنافقين، حديث (4900).

(2)

المنافقون: 8.

(3)

المنافقون: 1.

(4)

المنافقون: 1.

ص: 219

حيث قال، وأنكر الجاحظ انحصار الخبر فيهما أن الفعل المقدر؛ أنكر لأنه يفضي إلى تكلفات بعيدة، بل ذكر حاصل كلام المتن في هذا المقام.

(مطابقته) أي صدق الخبر مطابقة الخبر للواقع (مع الاعتقاد) أي مع اعتقاد المخبر أنه مطابق، كذا ذكره الشارح اقتفاء للإيضاح، ويتجه عليه: أنه حينئذ يشكل إرجاع ضمير معه في تعريف الكذب إليه، فالوجه أن يقال: المراد مطابقة الخبر للواقع مع اعتقاد المخبر، وقوله (مع) متعلق بالمطابقة، ولتشريك الاعتقاد، والواقع في مطابقة الخبر وحينئذ معنى قوله (وكذبه عدمها معه) أي عدم مطابقة الخبر للواقع مع اعتقاد المخبر، والمقصود تشريك الاعتقاد، والواقع في عدم مطابقة الخبر؛ فيكون جميع ما اعتبره الجمهور، والنظام في الصدق معتبرا في الصدق عنده، وكذا في الكذب بصريح التعريف، بخلاف توجيه الشارح، فإنه جعل اعتبار مطابقة الاعتقاد في الصدق لازم ما اعتبره في مفهومه من اعتقاد أنه مطابق، وجعل اعتبار عدم مطابقة الاعتقاد في الكذب لازم ما اعتبر في مفهومه، وهو اعتقاد أنه ليس بمطابق، وبين اللزوم بأن الواقع والاعتقاد متوافقان، حينئذ يعني متوافقان في التحقيق والانتفاء، فالمطابق وهو الخبر لأحدهما مطابق للآخر، وغير مطابق لأحدهما غير مطابق للآخر، ويمكن بيان اللزوم بوجه آخر، وهو أنه إذا اعتقد المخبر أن خبره مطابق للواقع فلا محالة اعتقد الخبر فقد طابق خبره اعتقاده، وإذا اعتقد أن خبره غير مطابق للواقع فلم يعتقد خبره فلم يطابق خبره الاعتقاد، وهذا البيان لا يتوقف على توافق الواقع والاعتقاد، بل يتأتى مع تخالفهما لكنه لا ينافي صحة البيان بالتوافق الواقع، فاعترض بعض الأفاضل، بأن اللزوم ظاهر على تقدير نخالف الواقع والاعتقاد أيضا، فلا يحسن التعليل بالتوافق، ليس على سنن التوجيه.

وقوله: (وغيرهما ليس بصدق ولا بكذب) إشارة إلى أن الصادق والكاذب بتفسيره أخص منهما بتفسير غيره، لأنه اعتبر فيهما مجموع ما اعتبره غيره، ويحتمل أن يكون نفيا لمذهب الجمهور، والنظام أي الصدق مثلا.

هذا وليس غيره مما ذكر صدقا، ويرجح الأول موافقته للإيضاح، وتخصيصه ببيان مذهب الجاحظ، فإن الثاني يجري في مذهب الجمهور والنظام، ولم يذكر

ص: 220

فيهما، فلو كان المراد ذلك لم يكن وجه لتخصيصه بمذهب الجاحظ.

(بدليل) كأنه سمي الأمارة دليلا مبالغة في قوته: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ (1) قال الشارح المحقق: لأن الكفار حصروا إخبار النبي- عليه السلام بالحشر والنشر في الافتراء أو الإخبار حال الجنة على سبيل منع الخلو، وهو الحق الظاهر من سابق الآية؛ لا ما ذكره المصنف في الإيضاح؛ حيث قال:

فإنهم حصروا دعوى النبي- عليه السلام للرسالة في الافتراء والإخبار حال الجنون، إلا أن يتكلف، ويحتمل قوله للرسالة على الرسالة في هذا الحكم، فيرجع إلى ما قال الشارح.

بقي أن استدلال الجاحظ لا يتوقف على منع الخلو، بل على تقدير منع الجمع دلالة الدليل أقوى، ويدله أن تحمل على منع الخلو، ليس لتوقف الاستدلال، بل لأن وضع (أم) له فتأمل. (و) بالجملة (لا شك أن المراد بالثاني) أي قوله (أم به جنة)(غير الكذب لأنه قسيمه) أي لأن المراد بالثاني قسيمه، فلا يصح أن يكون الكذب، وهذا أولى من قول الشارح، أي لأن الثاني قسيمه، فافهم. ولك أن تفسير قوله: لأنه قسيمه بأن الكذب قسيم المراد بالثاني، أو الثاني. (وغير الصدق لأنهم لم يعتقدوه) قال الشارح المحقق: أي لم يعتقدوا الصدق، فعند إظهار تكذيبه لا يريدون بكلامه الصدق الذي هو بمراحل عن اعتقادهم، ولو قال: لأنهم اعتقدوا عدمه لكان أظهر، يريد دفع ما يتوجه على المصنف من أن الاستفهام عن الشيء لا ينافي عدم الاعتقاد بأن المراد بقوله لم يعتقدوه البعد عن الاعتقاد، بحيث لا يرضى المستفهم بالاستفهام عنه؛ لكن في قوله: فعند إظهار تكذيبه مؤاخذة، وهو أن الآية على مذهب الجاحظ ليست لإظهار التكذيب؛ بل لإظهار عدم الصدق، فالأولى أن يقول: فعند إظهار عدم صدقه لا يريدون بكلامه الصدق الذي هو بمراحل عن اعتقادهم.

ونحن نقول: احتاج إلى التكلف لجعله ضميرا؛ لأنهم لم يعتقدوه إلى السائلين، ولو جعل إلى المخاطبين لتم على ظاهره؛ لأن ما لم يعتقده المجيب وظهر أنه غير معتقد له لا يسأل عنه، وإنما يسأل عما يحتمل أن يكون معتقدا له، ويرجى

(1) سبأ: 8.

ص: 221

الجواب عنه، ولا داعي في المتن لجعل الضمير إلى السائلين، نعم عبارة الإيضاح ظاهرة فيه، حيث قال: وليس إخباره حال الجنون كذبا لجعلهم الافتراء في مقابلته، ولا صدقا لأنهم لم يعتقدوا صدقه، فافهم.

وإذا لم يكن مراد البلغاء بقولهم (أم به جنة) الصدق ولا الكذب فلا محالة مرادهم الواسطة، فثبت بإرادتهم الواسطة؛ إذ لو لم يكن لم يريدوا لأنهم البلغاء العارفون باللسان الذين مرجع معرفة صحة كل كلام كلامهم، فليس المعترض بأن عدم إرادتهم صدقه، لا يوجب عدم صدقه، حتى يكون واسطة بمرأى من المحصلين ولا بمسمع.

(ورد) هذا الدليل بمنع أن المراد بالثاني غير الكذب، ومنع أنه قسيم الكذب، أو منع استلزام الدليل مطلوبه بسند أنه قسيم الافتراء الذي هو الكذب عن عمد، فليكن المراد به الكذب لا عن عمد، وهذا الذي قصده (بأن المعنى أم لم يفتر) فإن قلت: أم لم يفتر أعم من الكذب لا عن عمد، ويحتمل الصدق، فلا يكون مرادا لأنهم لم يعتقدوا محتمل الصدق، أو اعتقدوا عدمه! ! قلت: عدم اعتقادهم محتمل الصدق يخصه بالكذب لا عن عمد، على أن نفي الافتراء الذي هو الكذب عن عمد يرجع إلى العمد، ويبقى الكذب ثابتا، على ما هو الشائع في دخول النفي على المقيد، ولما كان نفي الافتراء غير ظاهر الإرادة بقوله (أم به جنة) فسره ببيان العلاقة بقوله:(فعبر عنه) أي عن عدم الافتراء أو عن معنى لم يفتر (بالجنة) أي بالجنة ليصير مضمون أم به الجنة، وليس المراد أنه عبر عنه بلفظ الجنة حتى يكون معنى (أم به جنة): أم به عدم الافتراء، لظهور فساده، والأولى أن يقول: فعبر عنه بالثاني.

(لأن المجنون لا افتراء له) بالضرورة فيلزم الجنة عدم الافتراء.

قيل: كون الافتراء الكذب عن عمد إما بحسب الوضع أو بحسب الإرادة، وكل منهما دعوى لا تسمع بلا بينة، ولا مقابلة (أم به جنة) لا يصير دليلا على اعتبار القصد في الافتراء، لأنه يحتمل أن يكون المراد به أن ما ينطق به الصوت مجرد كألحان الطيور، خارج عن الاعتداد والاتصاف بالصدق والكذب، فالأولى أن تحمل الآية على أنه، إما كاذب، أو مصوت صوتا لا معنى له، ولا اعتداد

ص: 222

به، وأجيب: بأنه كفى دليلا في التقييد نقل أئمة اللغة واستعمال العرب، وقلنا: معنى الصدق والكذب مقرر متعارف، وعرض للجاحظ شبهته فيهما من قبل الآية، فيكفي في دفع شبهته أن الآية لا تتعين لإثبات الواسطة، بل يحتمل أن يقتضي تقييد الافتراء لغة (أم) إرادة، ويمكن أن يحمل قوله: أَمْ بِهِ جِنَّةٌ على أنه لا اعتداد بكلامه للجنون، فيكون المقصود من الآية نفي الاعتداد بكلامه، لكونه كذبا أو كلام مجنون، ويمكن أن يقال: لا مانع من إرادة، أم صدق قولك، لأنهم لم يعتقدوه.

قلت: عدم اعتقاد المخاطب ينافي الإرادة إذا كان الاستفهام على حقيقته، أما إذا كان الاستفهام للتقرير وتحقيق أنه افترى فلا ينافيها.

***

ص: 223