الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مشبها به، ويمكن تفسير قوله: كان لون أرضه سماؤه، لما لا يكون فيه قلب ولا حذف، أي: ارتفع الغبار فيها متراكما واتصل بالسماء بحيث صار السماء متصلا بالأرض اتصال اللون بالجسم، كأن لون الأرض نفس السماء (وإلا) أي: وإن لم يتضمن اعتبارا لطيفا (رد)؛ لأن نفسه ليس اعتبارا لطيفا، ولم يتعرض لرد لم يتضمن خللا في المقصود، لأنه لا غرض يتعلق به في هذا المقام، لأن رد ما يتضمن خللا مشترك بينه وبين غيره لا ينبغي أن يجعل من مباحث القلب، ولا تعلق له برد ما قاله السكاكي، فالتعرض له كما تعرض له الشارح من فضول الكلام وعدم ما يليق بالمقام، (كقوله) أي: القطامى (1) يصف ناقته بالسمن:
فلمّا أن جرى سمن عليها
…
كما طيّنت بالفدن السّياعا (2)
هو كالسحاب الطين بالتبن كذا في القاموس، والأصل فيه كما طينت الفدن بالسياع، وهو أن يتضمن مبالغة في وصف الناقة بالسمن، وإشارة إلى أن اللحم المكتسب صار أصلا في بدنها، ومعروض السمن صار فرعا، كما جعل السياع أصلا.
والقصر بمنزلة الطين للسياع، لكنه بعيد عن الطبع؛ لأن قولنا: طينت السياع بالفدن مما يستهجنه الأذهان وتستقبحه الآذان كما لا يخفى.
[أحوال المسند أما تركه فلما مر]
(أحوال المسند إما تركه) الترك: الردع والحذف الإسقاط، فالثاني يدل على سبق الثبوت دون الأول، فلهذا قال الشارح في استعمال الحذف في المسند إليه: والترك في المسند إشعار بأن احتياج الكلام إلى المسند إليه أشد، فكأنه
(1) القطامي: هو عمير بن شييم بن عمرو بن عباد، أبو سعيد التغلبي الملقب بالقطامي، شاعر غزل فحل، كان من نصارى تغلب في العراق، وأسلم، وجعله ابن سلام في الطبقة الثانية من الإسلاميين، وقال:
الأخطل أبعد منه ذكرا وأمتن شعرا، ونقل أن القطامي أول من لقب «صريع الغواني» بقوله:
صريع غوان راقهنّ ورقنه
…
لدن شبّ حتّى شاب سود الذوائب
انظر ترجمته في الشعر والشعراء ص 277.
(2)
الفدن: القصر، السياعا: الطين المخلوط تبنا تدهن به الأبنية، يعني أن ناقته صارت ملساء من السمن كالقصير المطين بالسياع، والبيت من بيتين في وصف ناقته وثانيه:
أمرت بها الرجال ليأخذوها
…
ونحن نظن أن لن تستطاعا
انظر البيت في ديوانه: (46)، الإيضاح (85)، والمصباح (41)، والمفتاح ص 312، والنوادر (526)، معاهد التنصيص (1/ 179).
كان ثابتا لا محالة، ثم أسقط لداع، وأورد عليه أن كلامه هذا ينافي ما ذكره في شرح الكشاف أن قول ابن عباس- رضي الله عنه من ترك التسمية فكأنما ترك مائة وأربع عشرة آية من القرآن، مشكل؛ لأنه لم تكن في سورة البراءة تسمية حتى يكون تاركها؛ لأنه دل كلامه هذا على أن الترك يقتضي الثبوت، وفيه أن ترك مائة وأربع عشرة آية من القرآن عبارة عن ترك قرائتها، وما لم تكن التسمية أربع عشرة آية لا يكون القارئ التارك لها تارك قراءة أربع عشرة آية، وترك القراءة قد تحقق بدون ثبوت القراءة، فلا يكون ما ذكره مستلزم ثبوت المتروك؛ لأن المتروك هو القراءة، ولم تكن ثابتة،
والأوجه أن اختلاف العبارات للتنبيه على تعدد ما يعبر عما يقابل الذكر، لا للتفاوت، وإلا لما عبر المصنف عن عدم ذكر المفعول في بحث متعلقات الفعل بالحذف (فلما مر) في حذف المسند إليه (كقوله) (1) أي: قول ضابي بن الحارث البرجمي: [ومن يك أمسى بالمدينة رحله] أي: منزلة فإسناد أمسى إلى المكان مجاز، ولك أن تجعل فاعل أمسى ضمير من، والخبر جملة بالمدينة رحله، أو أمسى تامة، والجملة حالا متروك الواو، وكما في: خرجت مع الباري على سواد، وسيأتي، ولا يجوز نصب رحلة على الظرفية؛ لأنه ليس مبهما قابلا لتقدير فيه [فإنّي وقيّار] في القاموس اسم جمل ضابي أو فرسه، وقال السيد السند أو غلامه:[بها لغريب](2) لفظ البيت خبر، ومعناه تحسر وتوجيع من كربة وخبر قيار محذوف؛ لأن قوله: لغريب لا يصلح أن يكون خبرا عن إنى وقيار، لأن قيارا، لكونه عطفا على محل اسم إن مبتدأ، والعامل في خبره المبتدأ، ولا يجوز عامل عاملين في معمول واحد سواء كانا من جنس واحد، أو من جنسين مختلفين، لا لأنه مفرد، والمفرد لا يصلح أن يكون خبرا لمتعدد قد يخبر عنه بمفرد
(1) هو لضابئ بن الحارث البرجمي. وفي رواية: «فمن يك» ، والأصوب «ومن» ، وكان عثمان بن عفان- رضي الله عنه قد حبس ضائنا هذا في المدينة لهجائه قوما في شعره.
(2)
انظر البيت في شرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 102)، الأصمعيات (184)، خزانة الأدب (9/ 326)، (10/ 312، 313، 320)، الدرر (6/ 182)، الشعر والشعراء (358)، لسان العرب (5/ 125)(قير)، مجالس ثعلب (316)، الإشارات والتنبيهات (62)، الإيضاح (88).
الرحل: المنزل، قيّار: اسم فرسه أو غلامه.
إذا كان بين آحاده كمال اتصال بتنزيله منزلة الواحد، صرح به الرضى، وأقام عليه آية بينة من القرآن، ولا يجوز أن يكون المحذوف خبر إن؛ لأن دخول اللام يسجل على أن المذكور خبر إن، فالتقدير: إني وقيار بها لغريب غريب، وقد عطف غريب على قوله: لغريب وقيار على محل ضمير المتكلم بعاطف واحد، ولا غبار عليه إذا كان العامل واحدا، فعلى هذا يكون خبر قيار عطفا على محل خبر إن؛ ليكون العامل فيه عامل قيار، لا على لفظه حتى يكون العامل فيه إن، لأنه مع ذلك لا يصلح أن يكون خبر قيار، ولم يثبت في محله جواز العطف على محل خبر إن، فلا تعويل على هذا التوجيه، وإن ذكره الشارح المحقق، بل لتوجيه أن العاطف يعطف مجموع قيار غريب على قوله: إني لغريب، عطف جملة على جملة، وبه قطع الكشاف في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى (1) الآية، لكن فيه تقديم بعض المعطوف على بعض المعطوف عليه، وهل يجوز؛ ولعله لهذا لم يتبعه الرضى (جعل) واو والصابئون اعتراضية، وبعد تجويزه ثقة يقول الزمخشري، وموافقة الإمام المرزوقي له، ودفعه فساد التقديم بأن المقدم في نية التأخير، وإن يتجه عليه أن تقديم المعطوف على المعطوف عليه أيضا في نية التأخير، مع عدم جوازه في السعة لا بد للتقديم من نكتة.
قال الزمخشري: النكتة التنبيه على أنهم مع كونهم أبين المذكورين ضلالا وأشدهم غيّا يتاب عليهم، إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح فما الظن بغيرهم؟
وفيه أن هذا التنبيه حاصل بالحكم عليهم بأنهم يتاب عليهم، ولا مدخلية للتقديم، وقال الشارح المحقق: نكتة التقديم في البيت التسوية بين القيار ونفسه في التأثر بالغربة، أولو قال: إني لغريب وقيّار، لجاز أن يتوهم أن له مزية على قيار في التأثر عن الغربة؛ لأن ثبوت الحكم أولا أقوى، فقدمه؛ ليتأتى الإخبار عنهما تنبيها على أن قيارا- مع أنه ليس من ذوي العقول- قد ساوى العقلاء في استحقاق الإخبار عنه بالاغتراب قصدا إلى التحسر، ولا خفاء في الفرق بين النكتتين إذ أحداهما التسوية، والآخر كون البعض أولى من البعض، وأن يشعر
(1) المائدة: 69.
كلام الشارح بالاتحاد، والبيت مثال لحذف المسند عن المعطوف؛ للاحتراز عن العبث مع ضيق المقام، أو لحذف المسند بتمامه، أو للحذف مع تقديم القرينة وقوله: (وكقوله:
نحن بما عندنا، وأنت بما
…
عندك راض، والرأي مختلف) (1)
مثال للحذف لهذه النكتة بعينها، مع كون المسند المحذوف للمعطوف عليه، أو مع تأخير القرينة، أو مع بقاء متعلق المحذوف، وقد أشار الشاعر إلى ترجيح جانبه بالتعبير عن نفسه بضمير المتكلم مع الغير تعظيما لشأنه.
(وقولك): الخطاب لغير معين؛ لإفادة العموم، فيكون فيه إشارة إلى نهاية شيوع الاستعمال (زيد منطلق وعمرو) مثال للاحتراز عن العبث بدون ضيق المقام كما يستفاد من الإيضاح، والعطف يحتمل أن يكون من عطف جملة على جملة، وأن يكون من عطف مفردين على مفردين، وفي تصحيحه دقة، وهو أن المقصود تشريك المسند مع المسند في كونهما مسندين، لا في كونهما مسندين لمسند إليه واحد، وكذا الحال في التشريك مع المسند إليه، هكذا أفاده السيد السند في شرح المفتاح.
(وقولك: خرجت فإذا زيد)، لعله مثال لتخييل العدول إلى أقوى الدليلين من الفعل واللفظ. قال الشارح: الحذف هنا لما مر مع اتباع الاستعمال الوارد هذا، فإن قلت: لم يسبق في المتن ذكر للاتباع المذكور فكيف يمثل للحذف لما مر بما هو لاتباع استعمال الوارد؟ قلت: الاتباع المذكور مندرج تحت قوله: وإما لنحو ذلك، ونحن نظن بك أنك على ثروة كافية في معرفة هذا المثال قبل أن تصير مخاطبا لنا في هذا المقام، فلو اشتغلنا بما يتعلق به لتعدنا مشتغلا بفضول الكلام، فأعرضنا عنه خوفا عن الملام (وقوله: ) أي: الأعشى ([إنّ محلا وإنّ مرتحلا] أي: لنا في الدنيا) حلولا كحلول المسافرين وارتحالا إلى الوطن، وهو الآخرة، [وإنّ في السّفر إذ مضوا مهلا](2) في الصحاح السفر
(1) البيت لقيس بن الحطيم يخاطب مالك بن العجلان حين رد قضاءه في واقعة الأوس والخزرج، والبيت في الإيضاح ص 88، وخزانة الأدب (10/ 295)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 102).
(2)
البيت للأعشى الأكبر ميمون بن قيس يمدح سلامة ذا قائش، في ديوانه ص 170،
…
-
جمع سافر، كصحب وصاحب- يقول: سفرت أسفر سفرا أي: خرجت إلى السفر، وفي القاموس: رجل سفر وقوم سفرة ذو سفر ضد الحضر، والسافر المسافر لا فعل له، وقوله: مهلا بالتحريك أي تؤدة ووقارا، وقوله: إذ مضوا متعلق بالمهل (و) حاصل المعنى (أن) لنا حلولا في الدنيا قليلا وارتحالا (عنها) إلى وطن بعيد لا يقطع طريقه بسرعة، ولا بد لنا من تهيؤ أسباب كثيرة في قطع هذه المسافة، فلفظ البيت خبر، ومعناه: تحسر على عدم التمكن في هذا الحلول القليل من تهيؤ أسباب السفر الشديد، وقطع الأمد البعيد، وفي الشرح وفي السفر الرفاق قد توغلوا في المعنى، لا رجوع لهم، ونحن على إثرهم، ودلالة المهل على ما ذكرنا أظهر مما ذكره، والحذف هنا لقصد الاختصار، والعدول إلى أقوى الدليلين، وإتباع الاستعمال الشائع، فإنه كثر هذا الحذف في مثل هذا التركيب حتى قال سيبويه في كتابه: باب: إن مالا وإن ولدا، وقال الشيخ عبد القاهر: لو أسقطت إن لم يحسن الحذف، أو لم يجز؛ لأنها المتكلفة بشأنه، والمترجمة عنه، ولضيق المقام للتحسر ومحافظة الوزن، ولم يذكر الشارح إلا الوجه الثاني المضيق، ولقد نبه في هذا المثال على أن الخبر الظرف، مع كونه نائبا عن الخبر الحقيقي بحذف.
قال السيد السند: إن جعلت «إذ» اسما غير ظرف بمعنى الوقت جعلته بدلا عن السفر، أي: في السفر في زمان مضيهم، وإن جعلت ظرفا أبدلته من قوله: في السفر، والمعنى واحد، وفيه بحث؛ لأنه ذكر الرضي إن «إذ» لازم الظرفية لا يكون اسما إلا إذا أضيف إليه زمان، أو يكون مفعولا به، وأيضا التؤدة والوقار صفة السفر، لا وقت مضيهم، فالوجه ما ذكرنا (وقوله تعالى:
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) (1) جعل الشارح المحقق سبب إيراد هذا المثال كون المسند فيه فعلا على حذف ما تقدم، فإن المسند فيه، إما اسم، أو جملة، ونحن نقول: أورده للتنبيه على أن المحذوف فيه مجرد المسند، لا المسند، والمسند إليه بأن يكون أنتم تأكيد الفاعل المحذوف؛ لأنه لا يثبت كثرة
- ودلائل الإعجاز ص 321، والإشارات والتنبيهات ص 63 والإيضاح ص 89.
(1)
الإسراء: 100.
الحذف فيما يغني عنها قلة الحذف، وللتنبيه على أن الداعي إلى تقدير المسند قد يكون غير بقاء المسند إليه بلا مسند هو هنا حرف الشرط؛ إذ لولاه لكان الكلام أنتم تملكون، كما زعم الكوفيون، مع وجوده، وللرد عليهم، وللاستشهاد بالقرآن، وقدمه على قوله: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ (1) تقديما للمنصوص على المحتمل، وللتنبيه على الحذف الواجب بعد الجائز؛ ولأن الداعي إلى الحذف فيه يخالف الدواعي المتقدمة، إذ الباعث فيه تحصيل الإبهام أولا، ثم التفسير؛ ليتمكن في النفس فضل تمكن، وللإتيان بما فيه غرابة تسر الناظرين، وهو تحصيل مزيد التمكن من حذف الدال، وإبراز ما هو في غاية النفع في صورة البعث إذا أول ما يبدو للناظر أن المتكلم عابث في حذف المسند، ثم الإتيان به مع زيادة هو المسند إليه، ثم يلوح عليه أنه في غاية الإفادة، فيحلو المتكلم في عينيه كالتاجر يأتي بالأشياء في غير صورها، فاحفظ هاتين النكتتين، فإنهما من البدائع. قال الشارح:
الغرض من الحذف الاحتراز عن العبث إذ المقصود من الإتيان بهذا الظاهر تفسير المقدر، فلو أظهرته لم يحتج إليه.
أقول أولا: فليكن هذا أيضا موجبا؛ لإيراد هذا المثال، فإن العبث فيما سبق كان نفس المسند، وهنا ما ذكر للتفسير، وثانيا: أن ما ذكره ينافي ما ذكره المصنف في الإيضاح: أن التقدير لو تملكون تملكون، على أن التكرير للتأكيد فليس ذكر المفسر المؤكد عبثا، لأن فيه فائدة التأكيد، لكن الحق أن أصل التركيب: لو تملكون لما حذف تملك بقي أنتم، ففسر بتملكون، فلو ذكر المحذوف لكان التفسير عبثا، وهو المسطور في كتب النحو، ولا حاجة إلى تقييد هذا العبث بقيد بحسب الظاهر؛ لأنه عبث صرف، وهذا- أيضا- من أسباب إيراد هذا المثال.
قال الزمخشري: هذا ما يقتضيه علم الإعراب، وأما ما يقتضيه علم البيان، فهو أن: أنتم تملكون: فيه دلالة على الاختصاص، وأن الناشئ هم المختصون بالشيخ المتبالغ؛ لأن الفعل الأول لما سقط لأجل المفسر برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر يعني: كما أن: أنا سعيت في حاجتك، وهو المبتدأ، وخبره يفيد
(1) يوسف: 18.
الاختصاص، فكذلك ما هو في صورة المبتدأ والخبر، فاستفاد منه الشارح العلامة أنه يجوز جعل: أنا عرفت: جملة فعلية مفيدة للاختصاص بتقديم التأكيد الذي هو الفاعل المعنوي؛ ليصير في صورة المبتدأ والخبر فجرى عليه في شرح كلام السكاكي حفظا لظاهر مقاله: أن المسند إليه فاعل معنوي قدم للتخصيص، وفهم منه الشارح المحقق أنه ادعى أن: كل ما يفيد الاختصاص جملة فعلية في صورة الاسمية عند الزمخشري فتعجب من استدلاله بهذا الكلام، وقال: هذا الكلام صريح في نقيض دعواه، وحجة عليه لا له، إذ الزمخشري جعلها مفيدة للاختصاص، لكونها في صورة ما يفيد الاختصاص، نعم التعجب عن غفلة العلامة عن كلام السكاكي من جعل: رجل عرفت مبتدأ لا محالة، حيث قال: قدر تأخيره، لئلا ينتفي التخصيص المصحح للابتداء؛ إذ لا سبب له سواه (وقوله تعالى) مرفوع خبره يحتمل الأمرين (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يحتمل الأمرين)، بل الثلاثة ثالثها: أن يكون من قبيل سلام عليك، أي: فصبري جميل (أي: أجمل) بالنصب تفسير الأمرين (أو فأمري) صوابه: الواو، لأن مفعول الاحتمال لا يكون مردودا، والأحسن في جعله محذوف المسند تقديره:
صبر جميل لي؛ لأنه مصدر، والأصل فيه النصب، وقد قرأ «فصبرا جميلا» فالأصل: فاصبر صبرا جميلا عدل إلى الرفع لإفادة الدوام، والثبات والشائع في العدول جعل معمول الفعل خبرا عن المصدر، كما في الْحَمْدُ لِلَّهِ، * وكأنه أشار بتقديم بيان المسند إلى أنه أجمل؛ لأن المقصود الأظهر من الكلام، وهو توطين النفس على الصبر يرجحه، وإن ذكر الشارح المحقق لترجيح حذف المبتدأ ستة أوجه، ورب واحد يعدل ألفا، والصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه إلى الخلق، وجعل صاحب المفتاح: لتكثير الفائدة، ولك أن تجعله لضيق المقام، لكمال توجع المتكلم وتحزنه.
قال صاحب المفتاح (1): وقد يكون حذف المسند بناء على أن ذكره يخرج الكلام إلى ما ليس بمراد، كقولك: أزيد عندك أم عمرو؟ فإنك لو قلت: أم عندك عمرو، تصير أم منقطعة، ويتجه عليه أن هذا لا يقتضي الحذف؛
(1) انظر المفتاح ص 111.
لإمكان أن يقال: أم عمرو عندك، فإن أم حينئذ تصح أن يكون متصلة، ودفع بأن «أم» هنا، وإن جاز كونها متصلة؛ لكن الظاهر فيه الانقطاع، لأن إيراد المفرد بعد «أم» أقرب إلى الاتصال، فمع إمكان إيراده إيراد الجملة دليل قصد الانقطاع، إلا أن يكون قرينة واضحة على قصد الاتصال، كقولك: سواء أزيد عندك أم عمرو عندك، ولا يخفى أنه يستفاد مما ذكره أن ذكر المسند إليه قد يكون؛ لأنه لو حذف يخرج إلى ما ليس بمراد، كما في قولك: أزيد عندك أم عمرو عندك؟ فإنه لو حذف يخرج إلى ما ليس بمراد، كما في قولك: أزيد عندك أم عمرو عندك؟ فإنه لو حذف يخرج من الانقطاع إلى الاتصال، والذي أرى أنه لا خبر مقدر في: أزيد عندك أم عمرو؟ لأنه في معنى أيهما عندك؟ ولا يذهب عليك أن وجوب قرينة للحذف لا يخص بحذف المسند، وكأنه لم يذكره في المسند إليه؛ إما لأنه ربما يحذف بلا قرينة، كما إذا أقيم مقامه المفعول، وإما لأن وجوب القرينة على المحذوف مما يعرفه العاقل، إلا أنه لما عبر عن حذف المسند بالترك الموهم للإعراض عنه بالكلية، والاستغناء عن نصب القرينة تداركه بقوله:
(ولا بد) أي: للحذف (من قرينة)، ولك أن تجعل المراد وجوب القرينة للحذف، ولداعيه إذ الحذف مشترك بين دواع، فهو كاللفظ المشترك لا يفيد المعنى المراد بلا قرينة، إلا أنه لم يفصل إلا قرينة الحذف ولا عكس، أي:
ليست القرينة مما لا بد لها من الحذف، بل ربما لا يحذف مع وجود القرينة (كوقوع الكلام جوابا لسؤال محقق) أي: مذكور، لكن الوقوع أعم من أن يكون محققا، كقولك: زيد، في جواب: من قام؟ أو مقدرا (نحو: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)(1)، وهذا مراد الشارح المحقق حيث قال: حذف المسند، لأن هذا الكلام عند تقدير ثبوت ما فرض من الشرط والجزاء يكون جوابا عن سؤال محقق، يعني: كونه جوابا عن هذا السؤال المحقق في الكلام إنما يتحقق عند تقدير ثبوت ما فرض، ولا ريب فيما ذكره، ولا يرد ما ذكره السيد السند: من أن فيه إشعارا بأن السؤال في نظم الآية ليس بمحقق، وإنما يصير محققا إذا وقع ذلك المقدر: بأن يسألهم، فيجيبوا، ولما كان في الآية فرض تحققهما ذكرا فيه على طريقتهما ذلك إذا تحققا، وأنت
(1) لقمان: 25.
تعلم: أن القرينة لأي ذات سؤال، وهي محققة في الآية، وهذا هو المراد بقولهم: لسؤال محقق، لا كونها سؤالا، وهو المفروض المقدر فيها ن هذا كلامه.
وكيف لا؟ والشارح لم يعلق تحققه على تقدير ثبوت ما فرض؟ بل وقوع الكلام في جوابه: فإن أراد بأن ذات السؤال قرينة أنها قرينة من غير كون الكلام جوابا له، فباطل.
وقول المصنف: كوقوع الكلام جوابا لسؤال شاهد عليه، وإن أراد أن ذات السؤال بشرط وقوع الكلام جوابا له قرينة، فلا بد من اعتبار الوقوع، وما ذكره الشارح إنما هو تصدير الوقوع، وبهذا اندفع- أيضا- أن الشرط فرض السؤال المطلق، وهو يعم السؤال المحقق والمقدر، فكيف يلزم من تقدير وثبوته كون قولهم جوابا لسؤال محقق هذا؟ والأظهر أن المراد بقوله:(ليقولن الله) ما يعم قولهم:
ليقولن خلقهن الله؛ لأن المقصود أنهم يجيبون بإثبات الخلق له تعالى سواء كان ذلك الإثبات مع ذكر الفعل أو مع حذفه، فالآية مثال باعتبار ما يشتمل عليه من جواب حذف فعله، لا باعتبار أن الجواب المستفاد منه لا محالة محذوف المسند، ثم المسند المحذوف في جواب هذا السؤال في الأكثر الفعل، وربما تكون الجملة التي هي خبر المبتدأ على طبق مواقع الذكر، فإنه في الأكثر الفعل قال تعالى: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها (1) وقال تعالى:
مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (2) وقال تعالى:
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ (3) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ وذلك؛ لأن السؤال عن الفاعل المطلق، فالسائل خالي الذهن عما يلقي إليه المجيب، فلا يحتاج إلى تقوية الحكم فلا ينبغي تقديم المسند إليه المفيد للتقوي، وربما يقتضي المقام قصد التخصيص في الجواب، كما في قوله: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ (4) فتقدم المسند إليه، فمن قال: المقدر مطلقا هو الفعل، وجعله الشارح مذهب جمهور النحاة غفل، لكن لا كمن قال: المحذوف مطلقا هو الخبر؛ لأن رعاية المطابقة أمر
(1) يس: 78، 79.
(2)
الزخرف: 9.
(3)
الأنعام: 63.
(4)
الأنعام: 64.
مهم، والسؤال جملة اسمية، ولأن السؤال عن الفاعل، وتقديم المسئول عنه أهم، والشارح المحقق- أيضا- غفل حيث أثبت مذهب الجمهور بأن الواقع عند عدم الحذف جملة فعلية؛ لأنك عرفت أنه مختلف، والمشهور في ترجيح تقدير الفعل أن السؤال عن الفاعل، وأن القرينة فعلية.
واعترض عليه الشارح بأن السؤال ليس عن الفاعل النحو؛ إذ لا معنى له، بل عمن صدر عنه الفعل، فيستوي في تعيينه تقدير الفعل، والجملة الفعلية، والقرينة لا تطلب إلا تقدير الفعل دون الفاعل، ولا يطلب تقديره عاملا في المسند إليه المذكور، ويمكن دفعه بأن السؤال عمن صدر عنه الفعل يقتضي تقدير المسند عاملا في المسند إليه، لا خبرا، لأن الأول يفيد صدور الفعل صريحا، وأما الخبر فيفيد اتحاد شيء مع المسند إليه، فربما يتضمن هذا الاتحاد صدر الفعل عنه، فالقرينة فعلية داعية إلى جعل الجواب جملة فعلية نعم، يتجه أن السؤال جملة اسمية، فالسؤال عمن يتجه معه المسند، لا عمن يصدر عنه الفعل، فالقرينة اسمية لا فعلية. والتقصي عنه بما حققه السيد السند أن: الجملة اسمية صورة فعلية قصدا؛ لأنه اختصار فعليات غير متناهية. هي أقام زيد أم أقام عمرو؟ إلى ما لا يتناهى؛ لأن الاستفهام بالفعل أولى لكونه متغيرا، فيقع فيه الإبهام، ولما أريد الاختصار وضع كلمة «من» لإحمال تلك الذوات، أو ضمنت لمعنى الاستفهام، فأوجب التضمن تقديمها، فصارت اسمية صورة، وفي الحقيقة هي فعلية، وبهذا اندفع- أيضا- أن الجواب بالفعلية ترك لرعاية المطابقة، على أن رعاية المطابقة يوهم قصد التقوية، وهو لا يليق بالمقام، وربما يرجح تقدير الفعل بأن في تقدير الجملة زيادة حذف، وتقليل الحذف أولى، ورده السيد السند بأن: الزيادة المشتملة على فوائد لا ترد، وتلك الزيادة تشتمل على تقوية الإسناد، ومطابقة الجواب للسؤال، وهو مردود بأن المقام ليس مقام التقوية، والمطابقة للفعلية كما عرفت (أو مقدر) ليس المراد المقدر في نظم الكلام، بل السؤال المنوي الناشئ من المقام، وأن لا يتجه تقديره (نحو: ) قول ضرار بن نهشل في مرثية يزيد بن نهشل: [ليبك يزيد ضارع] كأنه قيل من يبكيه فقال ضارع [لخصومة] أي: من بذل لخصومة؛ لأنه كان ملجأ للأذلاء وظهيرا
للضعفاء [ومختبط ممّا تطيح الطّوائح](1) المختبط: الذي يأتيك الليل للمعروف من غير وسيلة إخفاء عن الناس سؤاله؛ لأنه كان أصل ثروة، وابتلى بالسؤال لأجل إهلاك المهلكات ماله، فقوله: مما يتعلق بمختبط، كما تعلق قوله: لخصومة بضارع، ويكفي للظرف رائحة الفعل، ولا يتوقف صحته على اعتماد اسم الفاعل، والطوائح: بمعنى المطيحات؛ لأنه جمع مطيحة على خلاف القياس، كلواقح جمع ملقحة، ولهذا جعل فاعلا للإطاحة، فتطيح بمعنى الماضي عدل إلى المضارع لحكاية الحال، كذا ذكره الشارح المحقق، وهو المشهور، ونحن نقول: المراد بالضارع: من يضرع بعد موت يزيد، وبالمختبط: من يسأل كذلك بعد موته؛ لأنه كان دافعا للخصومات والمهلكات، فلا يكاد تقع في حياته خصومة، ولا إطاحة مطيحة لمال شمول، حتى يضرع أحد لخصومة، ويحتاج أحد إلى الاختباط، فالضارع بمعنى الاستقبال، ولا يخفى ما في هذا الاحتمال من كمال مدح يزيد، كحماية الناس من الظلمة.
والمشهور جعل ضارع فاعلا للمحذوف، كما في المثال السابق، وقد نص عليه ابن الحاجب، ونحن نقول: الأبلغ تقدير ضارع لخصومة يبكيه، فيكون الكلام مفيدا للحصر تعريضا بأن الظلمة التي تضرع الناس؛ لخصومتهم في السرور عن موته، وفيه مزيد تحسر موته، ولفظ البيت أمر، ومعناه: يزيد لفوت التحسر على فوت هذه المنافع لعامة الناس، وهذا من موجبات فضل هذا التركيب على خلافه، فاجمعه مع ما ستسمع. فهذا المثال للسؤال المقدر كما صرح به، وللمسند الخبر على خلاف ما تقدم، والله تعالى أعلم.
ومن المباحث النفيسة التي خلا عنه زبر الأخيار، وشذ عن أنظار أولى الأبصار، وصدته لك أيها المتفطن المتلخص عن ربقة التقليد، المتلذذ بإصغاء جديد بعد جديد هو: أن السؤال الناشئ من ذكر «ليبك» من المأمور بالبكاء فالمقام يستحق حسب المسند إليه، أي: المأمور ضارع، وكان تقدير من يبكيه؛
(1) البيت ينسب للحارث بن ضرار النهشلي، والحارث بن نهيك، ولبيد بن ربيعة، والمزرد بن ضرار.
انظر البيت في الإيضاح (92)، المصباح (46)، الخصائص (2/ 424)، خزانة الأدب (1/ 303)، شرح شواهد الإيضاح (94).
لكونه في قوة من تمثيل أمرك، وقدر الزمخشري: ليبكيه ضارع.
قال السيد السند: هو أنسب بالمعنى، ويبكيه أنسب السؤال المقدر، وكان وجه الأنسبية بالمعنى: أن المقام مقام تعيين المأمور، ولما كان هذا البيت مثالا على تقدير: جعل ليبك مبنيّا للمفعول، ولو احتمال البناء للفاعل، والمحتمل لا يصلح شاهدا ما لم يترجح جانب الشهادة، فضلا عن أن يكون مرجوحا؛ لكون الحذف خلاف الأصل لم ير بدّا من الترجيح.
وقال: (وفضله)، أي: فضل اعتبار الحذف في البيت ونظائره (على خلافه)، وهو عدم اعتبار الحذف بجعل:«ليبك» مبنيّا للفاعل، و «يزيد» مفعولا به، وضارع فاعل الأمر (بتكرر الإسناد)، أي: بذكره مرتين، فقوله:(إجمالا ثم تفصيلا) تفصيل للذكر الضمني، لا للتكرر، فلا يلزم تكرر الإجمال والتفصيل، مع إنه خلاف الواقع، وقدر الشارح بتكرر الإسناد بأن أجمل إجمالا، ثم فصّل تفصيلا، والإسناد الإجمالي متكرر؛ لأنه يحصل مرة من الفعل المجهول الدال على أن هناك باكيا، ومرة من السؤال الدال عليه، واشتماله على تكرار الإسناد يوجب تمكينه الإسناد في نفس المخاطب، وكونه نائبا مناب الجمل الثلاث، وكون اللفظ أجمع للفوائد مما يساويه في الأجزاء يرجحه عليه، وبهذا اندفع أن من جهات الفضل الذي ذكره السكاكي كونه: أجمع للفوائد، ولا وجه لترك المصنف إياه، نعم، قصور النظر عائد إلى من اقتصر في بيان ترجيح تكرر الإسناد على كونه موجبا لمزيد التمكين في النفس هذا، ونحن نقول: وبتكرر إيقاع البكاء على يزيد، وهو أنسب بالمرثية، (وبوقوع نحو: يزيد غير فضلة) قد أشار بإدراج النحو إلى أن الكلام ليس في خصوص البيت، والأولى: ووقوع نحو «يزيد» مسندا إليه، فإن المسند إليه أرجح من المسند، والمسند من الفضلة (ويكون معرفة الفاعل، كحصول نعمة غير مترقبة) لا يخفى أنه ينافي كونه جوابا لسؤال مقدر؛ لأن السائل مترقب للجواب. قوله:
(لأن أول الكلام غير مطمع في ذكره) فيه أنه: إن أراد أنه غير مطمع بالذات، فسلم، لكنه لا يكفي في كونها: كنعمة غير مترقبة، وإن أراد: أنه غير مطمع أصلا، فممنوع، لا يفضي إلى السؤال المطمع والأولى؛ لأن أول