الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول
(أحوال الإسناد الخبري)
قدم أحوال الإسناد لأن المقصود بالذات من الخبر الإسناد، والمسند، والمسند إليه، إنما يقصدان لأجله، ولأنه يتم الكلام به بخلاف الطرفين؛ ولأن البحث عن المسند إليه من حيث إنه كذلك لا عن ذات المسند إليه، والإسناد متقدم عليه، وإن تأخر عن ذاته، وقدم أبحاث الخبري لكون الخبر أعظم شأنا وأعم فائدة؛ لأنه هو الذي يتصور بالصور الكثيرة، وفيه تقع الصياغات العجيبة، وبه يقع غالبا المزايا التي بها التفاضل، ويتوقف عليه فوائد الإنشاء، لأنه ما لم يعلم أنه موضوع لكذا، وقصد المتكلم به كذا وهيئته المبحوث عنها في التصريف كذا، وكذا، لم يفد، ولكونه أصلا في الكلام؛ لأن الإنشاء يحصل منه باشتقاق كالأمر والنهي، أو نقل كعسى ونعم، وبعت واشتريت، أو زيادة أداة كالاستفهام والتمني، وما أشبه ذلك.
ولا يذهب عليك أن في جعل الأمر مطلقا وجعل النهي حاصلا من الخبر باشتقاق كما في الشرح بحثين: أحدهما: ظهور أنه لا فرق بين الأمر باللام والنهي، وبين الاستفهام، في أن كلا بزيادة أداة. وثانيهما: أنه صرح الشارح والسيد السند في شروح الكشاف أن المشتقات كلها مشتقة من المصدر، وعباراتهم المخالفة لذلك مؤولة. فقولهم: اسم الفاعل ما اشتق من فعل مؤول بما اشتق من مصدر فعل، فكيف يحكم بأن النهي مشتق من الخبر.
واعلم أن الشيخ الرضي (1) لم يجعل المشتق من الخبر إلا الأمر بغير اللام؛ لكنه قال: إنه مشتق من تضرب بالاتفاق، ففيه تأييد لبعض ما ذكرنا، وتزييف لبعض، فتدبر.
والإسناد الخبري هو ضم كلمة أو ما يجري مجراها إلى الأخرى بحيث يفيد أن
(1) الرضي: هو الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر الصاغاني رضي الدين، أعلم أهل عصره في اللغة ولد في الهند عام 577 هـ وتوفي في بغداد عام 650 هـ.
مفهوم إحداهما ثابت لمفهوم الأخرى، أو منفي عنه، وهذا أولى من قولهم:
بحيث يفيد الحكم بأن إحداهما ثابت لمفهوم الأخرى أو منفي عنه؛ لأن مفاد الخبر هو الوقوع واللاوقوع لا الحكم بهما، وهذا أوفق بإطلاق المسند والمسند إليه على اللفظ، من تعريفه بأنه الحكم بمفهوم لمفهوم بأنه ثابت له أو منفي عنه، لكن صاحب هذا التعريف أراد التنبيه على أن هذا الإطلاق على ضرب من المسامحة وتنزيل الدال منزلة المدلول لشدة الاتصال بينهما، ولا يختلجن في وهمك أن تعريف الإسناد لا يشمل الإسناد الشرطي لأن هذا مبني على الإسناد في الجملة الشرطية في الجزاء، والشرط قيد له، وأما من جعل الحكم بين الجملتين فالتعريف الصحيح عنده هو: ضم كل كلمة أو ما يجري مجراها إلى الأخرى أو ضم إحدى الجملتين إلى الأخرى، بحيث يفيد الحكم بأن إحداهما ثابت بمفهوم الأخرى، أو عنده، أو مناف لمفهوم الأخرى، أو ينفي ذلك.
وتعريف المفتاح حيث قال: الإسناد الخبري هو الحكم بمفهوم لمفهوم، كما يحتمل أن يكون بمعنى هو الحكم بثبوت مفهوم لمفهوم، فيكون في معنى التعريف المذكور، إذ الحكم أعم من الإيجاب والسلب، وهذا هو الذي زعمه الشارحون، وقصر عليه نظرهم الناظرون، وجعلوه مبنيا على أن الحكم في جزاء الشرط يحتمل أن يكون بمعنى هو الحكم بمفهوم لأجل مفهوم؛ لأن الحكم في الخبر لأجل المحكوم عليه ولمصلحته، ولهذا أسماه محكوما له، وحينئذ ليشمل الإسناد الشرطي مطلقا من غير ابتناء على ما سبق؛ لأن الحكم هو الإيجاب أو السلب، أي إدراك وقوع ثبوت أمر لأمر، أو عنده، أو الانفصال بينهما، أو إدراك لا وقوعه.
(لا شك أن قصد) أي مقصود (المخبر) أي المعلم بالنسبة التامة المحتملة للصدق والكذب على ما هو اللغة، أو المتلفظ بالجملة الخبرية مرادا بها معناها، على ما هو العرف، كما ذكره الشارح المحقق في شرح الكشاف في تفسير: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ (1) فقول الشارح هنا أي من يكون بصدد الإخبار والإعلام، لا من يتلفظ بالجملة الخبرية؛ فإنه كثيرا ما يورد الجملة الخبرية لأغراض سوى إفادة أحد الأمرين من التحسر والتحزن، والتخشع، وتحريك
(1) البقرة: 25.
الحمية، والدعاء إلى غير ذلك- محل نظر لأنه إن أراد المتلفظ بالجملة الخبرية مرادا بها معناها فلا وجه لنفيه لصحته، وإن أراده مطلقا فلا يحتاج إلى نفيه، لأنه ليس من محتملات العبارة؛ لكن ينبغي أن يراد من هو بصدد الإخبار بأي معنى كان، لا المخبر بالفعل، وإن كان قصده أيضا لا يخرج من الأمرين ليصح قوله: فإن كان خالي الذهن إلى آخره فتأمل.
(بخبره) متعلق بالقصد فتأمل، والمراد به إخباره لا الجملة؛ إذ المقصود بالفعل والغرض منه الإفادة لا المقصود بالجملة الخبرية، فإن المقصود بها نفس الحكم، أو لازمه، فلو أريد الجملة لما صح قوله:(إفادة المخاطب إما الحكم أو كونه عالما به) أو كليهما، كما إذا سأل واحد عن أمر بمحضر جماعة يبادر كل واحد إلى الجواب ليفيد الحكم وإن كان عالما به، فإن قلت: قد يكون قصد المخبر إحضار الحكم في ذهن المخاطب بعد ما غاب عنه، قلت: هو حينئذ ليس مخبرا إلا بمعنى المعلم للنسبة الخبرية، ولا بمعنى المتلفظ بالجملة الخبرية مرادا بها معناها؛ إذ لم يقصد بالخبر الحكم للإعلام، وهو معنى الخبر بل للإذكار، وبعد فيه نظر؛ إذ قصد المخبر ربما يكون إفادة غير المخاطب حكما، كما في صورة التعريض، نحو:
لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (1) فإن المقصود من هذا الخبر إفادة المعرض بهم من المشركين بأنها حبطت أعمالهم، إلا أن يقال: المخاطب صورة هو النبي- عليه السلام ومعنى هؤلاء المعرض بهم، غايته أنه عدل عن الخطاب معهم إلى الخطاب مع النبي؛ لأنه أعون على القبول؛ كما سيجيء في محله.
فإن قلت: المقصود خطاب النبي بأنهم حبطت أعمالهم، وهذا هو المعنى التعريضي، قلت: يكذبه أن رعاية المؤكدات والخلو عنها إنما هو بالنسبة إليهم لا بالنسبة إلى المخاطب، والمراد بكونه عالما به ليس مجرد حصول صورته في ذهنه، وإن ظنه الشارح؛ لأن تصور الحكم لا يعتد به، ولا يسمى علما، ولا يعد المتصور عالما به، بل يحكم عليه بالجهل به، بل المراد به كونه مصدقا به أي تصديق كان.
قال السيد السند: إطلاق العلم عليه مستفيض لغة، وهذا لا ينافي ما ذكره
(1) الزمر: 65.
بعض المحققين من أن: إطلاق العلم على الظن والتقليد والجهل مخالف العرف والشرع واللغة؛ لأنه يجوز أن يكون مقصوده الإطلاق على سبيل الحقيقة، ويكون الإطلاق المستفيض الذي ذكره السيد السند مجازيا، ولا يشتبه عليك أن الخبر الذي يستفيد منه اليقين لازمه تعين المتكلم به، والخبر الذي تستفيد منه الظن لازمه يحتمل أن يكون ظنه، ويحتمل أن يكون اليقين فتأمل.
ولا ينافي بين كون الحكم وكون المخبر عالما لازما وملزوما وبين الانفصال بين قصدي إفادتهما، وإن توهمه بعض الأفاضل وأطال في دفعه بلا طائل.
ومن ينظر بعين التحقيق ولا يكتفي ببادئ النظر عن الفكر العميق، لا أظنه أن يبقى من أهل التصديق بأن قصد المخبر غير إفادة الحكم، وكيف ولا قصد إلا إلى إفادة الحكم إما بمضمون حقيقة الخبر أو بمضمون ما يلزمه من المعاني المجازية، أو الكنائية، أو التعريضية، إذ إفادة كونه عالما به لا يخرج عن أحد هذه المعاني، والمراد بالحكم الوقوع واللاوقوع لأنه الذي يفاد بالخبر بحكم بديهة العقل، كما أشار إليه بقوله: لا شك، وإن كان كلام القوم يشعر بأنه الإيقاع والانتزاع؛ حيث قالوا: مدلول الخبر إنما هو حكم المخبر بوجود المعنى أي بوجود الأمر القائم بالطرفين في الإثبات، وبعدمه في النفي، وأنه لا يدل على ثبوت المعنى وانتفائه، وإلا لما وقع شك من سامع في خبر يسمعه، بل علم ثبوت ما أثبت وانتفاء ما نفى، إذ لا معنى للدلالة إلا إفادة العلم بذلك الشيء، ولما صح ضرب زيد إلا وقد وجد منه الضرب، لئلا يلزم إخلاء اللفظ عن معناه الذي وضع له، وحينئذ لا يتحقق الكذب أصلا، وللزم اجتماع المتناقضين في الواقع عند الإخبار بأمرين متناقضين.
هذا ونحن نقول: بل يلزم اجتماع المتناقضين عند الإخبار عن أمر غير واقع لاقتضاء دلالة اللفظ التحقق، والواقع عدمه، ثم يتجه إلى استدلالهم هذا بأنه يجري في كون المدلول حكم المخبر؛ إذ يمكن أن يقال: لا يدل على حكم المخبر بوجود المعنى وعدمه، وإلا لما وقع شك من سامع في خبر يسمعه، بل علم حكم المخبر بالثبوت أو بعدمه، ولما صح ضرب زيد إلا وقد وجد من القائل العلم بضرب زيد؛ لئلا يلزم إخلاء اللفظ عن معناه الذي وضع له، وحينئذ لا يتحقق الكذب، وللزم اجتماع المتناقضين عند الإخبار بأمرين متناقضين؛ لأنه يلزم الحكم
بالوجود وبالعدم، وكل حكم يستلزم انتفاء الآخر فيلزم وجود كل من الحكمين وعدمه.
قال الشارح: تأويل كلامهم: أن المدلول ليس الثبوت والعدم قطعا، بحيث لا ينفك عن الدلالة، إذ فهم الثبوت أو الانتفاء من الخبر ضروري لا يمكن إنكاره، ولو كان مدلول الخبر الحكم لوجود المعنى وانتفائه لما كان لإنكار الخبر معنى؛ لامتناع أن يقال: إنه لم توقع النسبة، ولكان مفهوم جميع القضايا متحققا دائما، فلم يصح قولهم بين مفهومي: زيد قائم، وزيد ليس بقائم تناقض، لامتناع تحقق المتناقضين، وفيه أولا: منع امتناع أن يقال لم توقع النسبة لجواز أن يكون التكلم على خلاف الاعتقاد، ومنع تحقق مفهوم جميع القضايا لجواز أن لا يكون المتكلم باللفظ عالما بالمعنى، إلا أن يراد إمكان تحقق مفهوم جميع القضايا لجواز أن يتكلم بالنقيضين شخصان عالمان بمضمونهما، وأنه يجوز أن يكون مدلول الخبر الحكم المطابق، فلا يمكن تحقق المتناقضين لعدم إمكان مطابقة حكميهما، ويجوز إنكار الحكم المطابق بإنكار مطابقته بلا خفاء. وثانيا: أنه لو كان تأويل كلامهم ما ذكره لكان حاصله إنكار قطعية الدلالة، ولا تعلق لذلك الإنكار بكون المدلول الحكم بالثبوت والانتفاء، أو الثبوت والانتفاء في الواقع؛ فإن قطعية الدلالة باطلة لكونها وضعية، مع كون المدلول الحكم أيضا بالوجوه المذكورة، كما أشرنا إليه؛ إلا أن يقال: إن مرادهم أن المدلول بالوضع وجود المعنى وعدمه، من حيث إنه متعلق حكم المخبر، وبواسطته يدل على ثبوت المعنى وعدمه في الواقع، وليس المدلول أولا ثبوت المعنى أو عدمه قطعا، بحيث لا يحتمل الخلاف، وإنما تعرضوا لمدلولية الثبوت والعدم من حيث إنهما متعلقا الحكم؛ لأنه بتوسطه يظهر أن الدلالة غير قطعية، لجواز عدم مطابقة العلم، نعم لا ينحصر وجه عدم القطعية فيه إذ دلالة الخبر باستعمال المخبر فيما قصد به، فيجوز أن يتخلف لعدم استعماله في صورة ذهنية متحققة، بأن يتلفظ به من غير صورة ذهنية، ومن هاهنا انكشف ترتب الدلالات الثلاث في المكتوب؛ دلالة الخط على اللفظ، واللفظ على الصورة الذهنية، أي التي من حيث إنه متعلق علم المتكلم، ودلالة الصورة الذهنية على الأمر الخارجي، أي على الشيء مع قطع النظر عن أنه متعلق العلم.
ونحن نقول: لو كان مدلول الخبر الحكم بالثبوت والعدم؛ لكان دخول أداة الاستفهام لطلب المتكلم العلم بعلمه بمضمون الخبر ودخول أداة الشرط لتعليق الحكم بالحكم بدخول لام الأمر لطلب حكم المتكلم به، ولكان: ليت زيدا قائم لتمني العلم بقيامه وعلى هذا القياس.
(ويسمى الأول) أي الحكم من حيث إنه يستفيده المخاطب من الخبر (فائدة الخبر) لا من حيث إنه يفيده المخاطب كما يشعر به عبارة الشارح المحقق، وذلك لأن الفائدة لغة ما استفدته من علم أو مال، فاللائق في وجه تسمية الحكم فائدة الخبر كونه مستفادا لا كونه مفادا.
(والثاني لازمها) الظاهر لازم فائدة الخبر، وفي إيراد الضمير خفاء، وإنما سمي الأول فائدة الخبر، والثاني لازم فائدة الخبر لأن المستحق لاسم الفائدة ما وضع له اللفظ، ولاسم لازم الفائدة ما هو غير الموضوع له، واستفادته لأنه يلزم الموضوع له، وقد نبه صاحب المفتاح على أن هذا اللازم ليس بمعنى اللازم في الجملة، ولو بقرينة، بل من قبيل ما يمتنع انفكاكه عن الشيء فقال: والأولى بدون هذه تمتنع، وهذه بدون الأولى لا تمتنع، أو نبه على أن لزومه باعتبار لزوم استفادته لاستفادة الحكم فقال: والأولى وهذه منبها بتأنيث الأولى، وهذه على إرادة الاستفادتين دون الحكم، وكون المتكلم عالما به. وقد ذكرهما على وجه التذكير حيث قال: ويسمى هذا فائدة الخبر، ويسمى هذا لازم فائدة الخبر، ثم أراد بيان أنه كيف خص إحدى الفائدتين باسم فائدة الخبر، والأخرى باسم لازم فائدة الخبر، فقال: كما هو حكم اللازم المجهول المساواة، يعني كما هو حكم لوازم اللفظ الموضوع المجهولة المساواة في النسبة إلى الوضع، يعني قاعدة القوم أن يجعلوا لوازم الدال بعضها فائدة وبعضها لازم فائدة، فما كان له مزيد اختصاص بالدال حتى كأنه يفهم من حاقه (1) يسمى فائدة، ويعتبر من دواخل المقصود به، وما جهل مساواته، بالمختص في الاختصاص سواء ظهر انحطاطه عنه أو لا يعد من لوازم الفائدة، مثلا: فائدة ضرب الحدث والنسبة والزمان لتساوي الثلاثة في النسبة إلى الوضع، والمكان المبهم، والعلة المبهمة، والمقارنة بحال من
(1) كذا بالأصل، وهو صحيح.
أحوال الفاعل- لا يعد فائدته- ولا يجعل من دواخل ما وضع له ضرب مع لزومها اللفظ ضرب، لأنه مجهول المساواة مع الثلاثة، هذا ما ألهمت في حل عبارته، والقوم جعلوا قوله: والأولى بدون هذه تمتنع، وهذه بدون الأولى لا تمتنع، كما هو حال اللازم المجهول المساواة- بيانا لوجه تسمية الثاني لازم الفائدة، يعني تسميتها لازما دون الأولى؛ لأنها لا تمتنع بدونها، كما هو حال اللازم المجهول المساواة، فبعضهم قال: أراد به اللازم الأعم؛ لأنه أحق بمجهولية المساواة من المساوى المجهول المساواة، وبعضهم قال: أراد به ما يشمل الأعم والمساوى المجهول المساواة: ولعمري؛ إن أمثال هذا من العجاب، والشاهد على عجز الممكن حيث وقع من جم غفير من أولي الألباب السابقين في كثير من الأبواب، وعلى أن المنزه ليس إلا الواجب رب الأرباب؛ اللهم لك التنزه والتقدس، ونعوذ بك عما هو لوازم الإمكان من التدنس، وكيف لا ووجه تسمية الأولى فائدة والثاني لازم الفائدة هو الواضح الذي قدمناه، فكيف تلتفت إلى مثل هذا التوجيه مع وضوحه، وكون الثانية لازما أعم واضح؛ فما الداعي إلى جعله من جملة المجهول المساواة؟ ! أو التعبير عنه بمجهول المساواة؟ ! ولا يظن بعاقل ما نسبوه إلى فاضل بيده مفتاح المعاني، وكامل يتنبد ببلاغته ثغور المباني.
بقي أنه كيف صح أن كونه عالما به لازم فائدة الخبر وكثيرا ما يتحقق الحكم، والمتكلم غير عالم به لكونه مخبرا على خلاف علمه؟ فقيل إن الملزوم واللازم عند التحقيق ليس الحكم، وكون المخبر عالما به بل إفادة الحكم وإفادة كونه عالما به، فإن الأولى يمتنع بدون الثانية، والثانية لا يمتنع بدون الأولى.
وقال المصنف، ووافقه العلامة: إنهما عند التحقيق علم المخاطب من الخبر نفسه بهما، فإن علمه من الخبر بالحكم لا ينفك عن علمه بكون المخبر عالما به منه، بخلاف العكس فجعل ملزوما ولازما، باعتبار هذين العلمين، والشارح المحقق ظن أنهما فجعلا اللازم والفائدة نفس العلمين، وخالف المفتاح، وبيانهما ليس موجبا لما ظنه، فليحمل على ما سمعت.
وبالجملة بيان اللزوم أن علم المخاطب بالحكم من الخبر موقوف على علمه بأن المخبر عالم به علما مطابقا، حتى لو شك في علمه، أو مطابقة علمه لم يحصل له
العلم بالحكم من الخبر، فالعلم بالحكم منه لا ينفك عن العلم بكون المخبر عالما، والعلم بكونه عالما بالحكم منه ينفك عن العلم بالحكم منه، كما في قولك: حفظت التورية لمن حفظه، وهذا بيان واضح لا تحوم حوله ريبة. إلا أنه خفى على السلف والمصنف ذكر في بيان أن علم المخاطب بالحكم منه يستلزم علمه بكون المخبر عالما به منه، بأن العلم الثاني لو لم يحصل عند الأول فإما لأنه قد حصل قبل، أو لم يحصل بعد، وكلاهما باطل.
وبين الشارح بطلان الأول بأن: العلم بكون المخبر عالما بالحكم يوجب كون الحكم حاصلا في ذهنه ضرورة، وإن لم يجب أن يكون حصوله من ذلك الخبر، وفيه نظر؛ لأنه مبني على أن اللازم مجرد إدراك أن المخبر عالم بالحكم، ولو تصورا، وقد عرفت ما فيه، بل الحق في بيانه أن علم المخبر بالحكم من الخبر يتوقف على علم المخاطب بكونه عالما به علما مطابقا كما عرفت، ولو حصل هذا العلم قبل حصول العلم بالحكم بالخبر لحصل العلم بالحكم أيضا قبل حصوله بالخبر، فيكون حصوله بالخبر تحصيل الحاصل. وبين المصنف بطلان الثاني، بأن سماع الخبر من المخبر كاف في حصول الثاني منه، وأثبته الشارح بأن التقدير: أن حصولهما من نفس الخبر، وفيه نظر؛ لأن التقدير الذي نحن فيه ليس إلا أن حصول الحكم بالخبر، لا نقول إذا كان حصول الحكم بالخبر كان حصولهما به؛ لأنه لازمه؛ لأنا نقول: هذا أول المسألة ونحن في بيانه، فالتمسك به مصادرة، فالوجه أن يقال: إن سماع الخبر من المخبر الموثوق به كاف في حصول الثاني منه؛ لأنه لا يتكلم على خلاف علمه، فإن قلت: كثيرا ما نسمع خبرا وليس في ذهننا أن المخبر صادق، قلت: إن أردت أنه ليس مجمل هذا الحكم، فمما لا يسمع، وإن أردت أنه ليس مفصلا فلا يقدح.
واستصعب الشارح الإشكال فاختار طريقا ثالثا في تعيين الفائدة ولازمها؛ فجعل الفائدة الحكم، ولازمها كون المخبر عالما به، وهذا ضروري للمخبر، ولا يخفى عليك أن الضروري حصول صورة الحكم في ذهنه لا التصديق به، وهو المدار، والأول بمعزل عن الاعتبار، وبعض الناظرين في هذا الكتاب ذكر احتمالات كثيرة يمكن اعتبارها في الفائدة ولازمها، وكان لنا عليه زوائد، لكن أمثال هذا لا ينفع