الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلام لا لمعناه؛ فإن المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي، ولا شك أن الفصاحة من صفاته الفاصلة، فتكون راجعة إلى اللفظ دون المعنى، ووجه التوفيق أنه أراد بالفصاحة معنى البلاغة، وحيث أثبت أنها من صفات الألفاظ أراد أنها من صفاتها باعتبار إفادتها المعنى بالتركيب، وحيث نفى ذلك أراد أنها ليست من صفات الألفاظ المفردة، والكلم المجردة من غير اعتبار التركيب أو ليست من صفات الألفاظ باعتبار أنفسها لا باعتبار إفادتها المعنى، وحيث أثبت أنها صفة المعنى أراد أن للمعنى مدخلا تامّا في ثبوتها للفظ، وحيث نفاه أراد أنها ليست من صفاته مع قطع النظر عن إفادة اللفظ إياها بالتركيب، ويمكن التوفيق أيضا بأنه حيث جعلها صفة اللفظ دون المعنى أراد معناها المستفيض، وحيث جعلها راجعة إلى المعنى جعلها بمعنى البلاغة؛ لكنه كوجه ذكره المصنف لا يطابق ما قصده الشيخ، بل الوجه ما ذكره الشارح المحقق أنهم سموا ترتيب المعاني الأول والمعاني الأول ألفاظا، وفضيلة الكلام باعتبار هذا الترتيب، فحيث جعلها صفة راجعة إلى اللفظ أراد باللفظ المعاني الأول، وكذلك حيث جعلها صفة راجعة إلى المعنى، وحيث نفى نفي كونها صفة للألفاظ المنطوقة وللمعاني الثواني، وما يقال فليكن مراد المصنف باللفظ تلك المعاني الأول، فيطابق مراد الشيخ، فليس بشيء لأن الشيخ بين في كتابه تلك المواضعة، والمصنف لم يبينها، وكلما استعمل اللفظ استعمل لمعناه المستفيض، فحمل اللفظ في كلامه على هذا حمل له على ما لا يحتمله.
[ولها طرفان: ]
(ولها) أي للبلاغة في الكلام (طرفان: أعلى) إليه ينتهي البلاغة، كذا في الإيضاح، ولو اعتبر الطرف شخصا ففيه بحث، إذ ثبوت الطرف يتوقف على أن يثبت تناهي مراتبها، ولا دليل يدل عليه (وهو) أي الطرف الأعلى (حد الإعجاز) أي مرتبة إعجاز لكلام البشر، بأن يبلغ مرتبة لا يمكن للبشر أن يأتي بمثله (وما يقرب منه) أي من حد الإعجاز أي الطرف الأعلى نوع تحته صنفان: كلام يعجز البشر عن الإتيان بمثله، وقريب من حد الإعجاز بأن لا يعجز الكلام البشر، ولكن يعجز مقدار أقصر سورة عن الإتيان بمثله، وكلاهما مندرج تحت حد الإعجاز؛ لأن حد الإعجاز هو حد الإعجاز عن الإتيان بأقصر سورة، وبهذا اندفع
ما أورده الشارح المحقق من أنه لا معنى لجعل حد الإعجاز وما يقرب منه طرفان؛ إذ المناسب أن يؤخذ حقيقيا كالنهاية، أو نوعيا كالإعجاز، إذ قد أخذ نوعيا هو حد الإعجاز المعتبر في الشرع، وهو حد إعجاز أقصر سورة إلا أنه نبه على أنه صنفان: كلام يعجز نفسه، وكلام يعجز مقدار سورة من جنسه، وهذا أوجه مما ذكره الشارح المحقق، حيث قال: ومما ألهمت بين النوم واليقظة أن قوله وما يقرب منه عطف على هو والضمير في منه عائد إلى الطرف الأعلى، لا إلى حد الإعجاز، أي الطرف الأعلى مع ما يقرب منه في البلاغة مما لا يمكن معارضته هو حد الإعجاز، وهو مع كونه خلاف الظاهر بيان لحد الإعجاز بما يتوقف على معرفته، لأن ما يقرب منه بين بما لا يمكن معارضته، ولا معنى لحد الإعجاز إلا ما لا يمكن معارضته، وقد اعتذر هو نفسه أن هذا إلهام بين النوم واليقظة، الحمد لله الذي ألهمنا يقظان لا نومان، وما أيد به توجهه من أنه الموافق لما في المفتاح، من أن البلاغة يتزايد إلى أن يبلغ حد الإعجاز، وهو الطرف الأعلى، وما يقرب منه، ولما في نهاية الإيجاز أن الطرف الأعلى، وما يقرب منه كلاهما هو المعجز لا يخصه، بل له وجه موافقة لتوجيهنا، فإن كلام المفتاح نحمله على أن حد الإعجاز هو الطرف الأعلى المعجز بنفسه، وما يقرب منه المعجز أقصر سورة من جنسه، وكذا كلام نهاية الإيجاز، فتفطن. وقد اعترض الشارح على كون الطرف الأعلى وما يقرب منه معجزا خارجا عن طوق البشر بأن البلاغة ليست سوى المطابقة لمقتضى الحال مع فصاحته، وعلم البلاغة كافل بإتمام هذين الأمرين، فمن أتقنه وأحاط به لم لا يجوز أن يراعيها حق الرعاية فيأتي بكلام هو الطرف الأعلى، ولو بمقدار أقصر سورة، ولا يخفى أن الإشكال لا يخص بتكفل علم البلاغة، بل تكفل سليقة العرب أقوى، وأوجب للإشكال. ثم أجاب بأجوبة ثلاثة: الأولى: أن العلم لا يتكفل إلا بيان مقتضيات الأحوال وأما الاطلاع على كميات الأحوال وكيفياتها فأمر آخر. وثانيها: أن إمكان الإحاطة بهذا العلم لغير علام الغيوب محال. وثالثها: أن الإحاطة لا تفيد القدرة على تأليف كلام بليغ فضلا عن تأليف الطرف الأعلى، إذ كثيرا من مهرة هذا الفن كانوا عاجزين عن التأليف، وفي الجواب الثاني والثالث نظر؛ إذ لو لم يكن للبليغ
الإحاطة بعلم البلاغة لم يكن بليغا؛ لأن البلاغة ملكة الاقتدار على تأليف أي كلام بليغ خطر بالبال معناه، فإذا خطر بباله معنى لم يخطر بما تعلق به من علم البلاغة لم يقدر على تأليف كلام بليغ له، ولأنه إذا أحاط بعلم البلاغة ولم يقدر على تأليف كلام بليغ لم يكن بليغا، ولقد تركنا نبذا من الكلام ذكره الشارح المحقق في هذا المقام لما لم يشاهد فيه إلا الإطالة والإسآم.
(وأسفل) جعله طرف البلاغة إشارة إلى أنه بليغ، وقال في الإيضاح (1):
منه يبتدي لمزيد توضيح لذلك دفعا لما أوهمه كلام نهاية الإيجاز أن هذه المرتبة ليست من البلاغة في شيء وإن كان الظاهر أن قصده المبالغة في دناءتها وعدم الاعتداد بها (وهو ما إذا غير عنه إلى ما دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات) يعني ما يستلزم تغييره الالتحاق بأصوات الحيوانات مما قيل إنه يصدق على غير الأسفل؛ لأنه إذا غير إلى ما دونه التحق؛ لأن ما دون الأسفل ما دونه ليس بشيء، على أن دون لما هو أحط قليلا، وتحقيق الأسفل هو أنه ما ليس فيه مقتضى الحال متعددا، ولم يعرفه به مع أنه أوضح وأخصر لينبه على أن ما دونه ملتحق بأصوات الحيوانات.
قال المصنف: التحق وإن كان صحيح الإعراب ووافقه الشارح، وفيه أن غير صحيح الإعراب ليس أولى بالالتحاق، لجواز أن يكون صحيح الإعراب ضعيف التأليف، معقدا مع عدم فصاحة الكلمات، فالمناسب أن يقول: وإن كان فصيحا، فإن قلت: كيف يلتحق ما يشمل على الدقائق البيانية بأصوات الحيوانات؟ قلت: اعتبار الوضوح والخفاء في الدلالة بالنسبة إلى المعاني المجازية، وتلك المعاني أزيد من الدلالات الوضيعة، ومما يتعلق بعلم المعاني، فرعاية البيان لا ينفك عن رعاية المعاني.
(وبينهما مراتب كثيرة) عطف على طرفان، أي لها مراتب كثيرة حال كونها بينهما، أو الجملة تامة معطوفة على قوله لها طرفان (ويتبعها) أي البلاغة في الكلام (وجوه أخر) احتراز عن المطابقة، والفصاحتين، فإنها وجوه يتبعها البلاغة، ولا يصح جعله احترازا عن البلاغة، بأن يكون المعنى: ويتبع البلاغة وجوه أخر
(1) انظر الإيضاح ص 10 وما بعدها.
سوى البلاغة، لأنه يصير لغوا، وفي قوله: يتبعها تنبيهات: أحدها: أن الوجوه البديعية لا تحسن بدون البلاغة، وثانيها: أنه يجب تأخير علم البديع عن علم البلاغة، ثالثها: أن حسنا تورثه عرضي غير داخل في حد البلاغة، ورابعها: أن هذه الوجوه إنما تكون من البديع، إذا لم يقتض الحال، إذ لو اقتضاها الحال لم تكن تابعة للبلاغة وإنما جعلها تابعة لبلاغة الكلام دون المتكلم لاختصاص ما وصفت به الوجوه بها أعني قوله:(يورث الكلام حسنا) ولم يتعرض بحالة تحصل للمتكلم بالقياس إليها؛ لأنه لم يلتفت إليها، ولم يسم المتكلم باعتبارها باسم، ولم يوصف بصفة، وإنما تعرض لها في أثناء تحقيق بلاغة الكلام تتميما لبيانها وتكميلا لتمييز مقتضيات الأحوال عن غيرها، وقيل تمهيدا لبيان الحاجة إلى علم البديع، واختار لفظ يورث على يفيد للتنبيه على أن ليس النظر الأعلى حسن في الكلام، ولا نظر على هذه الوجوه كأنها فنيت وبقي الحسن، بخلاف وجوه البلاغة؛ فإن النظر إليها وهي الداعية إلى التكلم، وليس النظر إلى حسن الكلام وإنما هو من توابعها.
(و) البلاغة (في المتكلم ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ) أي لا يعجز بها عن تأليف كلام بليغ، فالنكرة في سياق نفي عمت، والمراد كلام بليغ ورد معناه على المتكلم، وأراد بيانه (فعلم) تفريع على تعريفات الفصاحة والبلاغة أي علم بالقوة العربية من الفعل، إذ بالتأمل في التعريفات يعلم ذلك، ولو قال:
فكل بليغ فصيح ولا عكس لاستغنى عن هذا التكلف، والظاهر أن المراد تفريع المعلوم إلا أنه فرع العلم مبالغة في ظهور تفريع المعلوم، والمقصود بيان النسبة بعد التعريف تتميما للتعريف، كما هو العادة، كأنه قال: فالفصيح أعم مطلقا من البليغ، ولو قال كذلك لكان أخصر وأوضح فيما هو مقصوده، وفيه تعريض للسكاكي؛ حيث لم يشترط في البلاغة إلا الخلوص عن التعقيد المعنوي، فانحصر مرجع البلاغة عنده في علم البلاغة، وما ذكره المصنف ليس اصطلاحا منه، بل مما ينقل عن ابن الأثير: أنه ذكره في المثل السائر، لكن ربما يرجح اعتبار السكاكي بأن البلاغة مما يتميز به البليغ عن غيره، ولا يكون الأمر المشترك معتبرا في المميز.