الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قسيمه، فإنه في الأكثر أخبار وضعت موضع الإنشاء كصيغ العقود وأفعال المدح وفعلا التعجب وعسى والقسم، وأما جعل مطلق أفعال المقاربة للإنشاء كما ذكره الشارح فلا يصح إذ كاد زيد يخرج يحتمل الصدق والكذب وكذا طبق زيد يخرج وكذا رب رجل لقيته وكم رجل ضربته وإن كان كم لإنشاء التكثير في جزء الخبر ورب لإنشاء التقليل فيه لكن لا يخرج به الكلام عن احتمالين الصدق والكذب ولا يتعدى الإنشاء منه إلى النسبة، فعد الشارح إياهما من الإنشاء ليس كما ينبغي؛ لأن إنشاءهما ليس مما نحن فيه ولعل لإنشاء الترجي ويجعل الكلام إنشائيا.
[أنواعه]
(وأنواعه كثيرة) لم يرد بالكثرة ما ينبو عنه صيغة جمع القلة فإنها على ما ذكره المصنف خمسة:
(ومنها: التمني (1)، واللفظ الموضوع له ليت ولا يشترط إمكان التمني) لا يشترط إمكان المطلوب في شىء من أقسام الطلب بل يكفي زعم إمكانه فيما سوى التمني ولا يشترط فيه زعم الإمكان أيضا بل يصح مع العلم بامتناعه، وقد عرفت توجيه مثله فتذكر والمراد بالإمكان إن كان الإمكان الذاتي ففي دلالة قوله (تقول: ليت الشباب يعود) علية بحث؛ لأن في امتناع عود الشباب نظرا وإن أريد الإمكان العادي فنفى الاشتراط المذكور قاصر إذ لا يشترط الإمكان الذاتي أيضا بل يصح تمني المستحيل بالذات، وكما لا يشترط الإمكان لا يشترط الامتناع وخص الإمكان بالنفي لأنه يتبادر الوهم إلى اشتراط إمكانه لما تقرر أنه لا يصح طلب المحال وعدم تمييز الوهم بين طلب على وجه التمني وطلب لا على هذا الوجه في المفتاح أنه يجب في بمعنى تمني الممكن أن لا يكون لك طمع وإلا لكان ترجيا، وفيه بحث لأنه لا طلب في الترجي وإنما هو طمع وترقب فإذا كان طلب المرجو على سبيل المحبة كان هناك تمن وترج فإذا أتى بليت فقد أفيد التمني دون الترجي وإذا أتى بلعل فقد أفيد الترجي.
(وقد يتمنى بهل) كان المناسب إيراده في المعاني المجازية للاستفهام إلا أنه لما تعين ذكر «لو» و «لعل» هناك ناسب ذكر «هل» هنا استيفاء للألفاظ المجازية للتمني (نحو هل لي من شفيع؟ حيث يعلم أن لا شفيع) قرينة صارفة عن إرادة
(1) هو طلب المحبوب الذي لا طمع فيه؛ بأن يكون غير ممكن أو يكون بعيد الحصول.
[الإيضاح ص 243].
الحقيقية إذ لا سبيل إلى الاستفهام عن وجود الشىء مع العلم بتعرضه أتى بها لتوقف التجوز عليها لأخذها في مفهوم المجاز ولا تصلح قرينة معينة؛ لأن العلم بعدم الشفيع لا يوجب الحمل على التمني لجواز أن يكون للاستبعاد أو لإظهار شدة افتقاره إلى الشفيع، وترك ذكر القرينة المعينة لعدم توقف المجاز عليها وإنما يتوقف عليها صحته ولم يهملها صاحب المفتاح والعدول إلى «هل» لكمال العناية بالتمني حتى نزل منزلة ما لا جزم بانتفائه، ومنه قوله تعالى: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا (1) حكاية عن الكفار ولا يخص ذلك بهل بل يكون بالهمزة أيضا كقوله:
ألا سبيل إلى خمر فأشربها
…
ألا سبيل إلى نصر بن حجّاج (2)
وقد صرح به ابن الحاجب وورثه عن الجزولي وسيبويه فالأولى وقد يتمنى بحرف الاستفهام (وقد يتمنى بلو نحو لو تأتيني فتحدثني بالنصب) أراد بقوله بالنصب نصب القرينة الصارفة عن الحقيقة فإن المضارع بعد الفاء إنما ينصب بعد الأشياء الستة وأما القرينة المعينة للتمني فهو أن استعارة لو للتمني من بين النسبة قد شاعت دون غيره والعلاقة كون كل منهما لتصوير غير الواقع واقعا، وليس القرينة المعينة أن المناسب للمقام التمني كما ذكره الشارح؛ لأنه يحتمل المقام التحسر على انتفاء الإتيان فيكون «لو» مستعارا للنفي، وإنما يعدل في التمني إلى «لو» إشعارا بامتناعه والامتناع في المثال المذكور يحتمل أن يكون باعتبار الإتيان وأن يكون باعتبار التحديث وقيل:«لو» مصدرية مختصة بما بعد فعل فيه معنى التمني نحو ودوا لو تدهن أي: أن تدهن وكثيرا ما يستغني باختصاصها بما بعد فعل التمني عن ذكره قبلها فقوله لو تأتيني بتقدير أود أن تأتيني.
قال (السكاكي (3) كان حروف التنديم) في الماضي (والتحضيض) في المضارع وقيل التحضيض في المضارع يستلزم التنديم على قوله في الماضي أو على
(1) الأعراف: 53.
(2)
البيت لفريعه بنت همام في خزانة الأدب (4/ 80 - 84، 88، 89)، لسان العرب (مني) وبلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب ص 271 وشرح المفصل (7/ 27). ورواية البيت:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها
…
أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج
(3)
المفتاح ص 166.
عدم فعله قبل الحض والتنديم في الماضي يوجب التحضيض على فعله في المستقبل فهي لا تنفك عن تنديم وتحضيض (وهي هلا وإلا بقلب الهاء همزة) على عكس قراءة «هياك نستعين» في إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (ولولا ولو ما مأخوذة منهما (1) مركبتين مع لا وما المزيدتين) جعلهما مركبتين مع ما تغليب لهل أو إلا وإنما جعل المأخوذ «هل» و «لو» مع أن «ما» و «لا» أيضا من الأجزاء؛ لأن المراد في الأخذ هما وإنما زيدتا تبعا لهما كما يظهر من قوله (لتضمينهما معنى التمني)(2) أي: جعل زيادة ما ولا علامة إرادة التمني فهما مع أخذهما لا ينفكان عنه فزيادتهما لإلزام التمني إياهما وليس المقصود مجرورا وحروف التحضيض إلى هل ولو حتى يكون خارجا عن نظر الفن متعلقا بعلم الاشتقاق، بل المقصود التنبيه على أن التمني المقصود بهما قد يجعل ذريعة إلى أمر آخر وهذا من أسرار هذا الفن لا يرضى الألمعي فيه أن يفوته مثله ويرشدك إلى هذا المقصد قوله:(ليتولد) تعليلا للتضمين (منه) أي: التمني (في الماضي التنديم نحو: هلا أكرمت زيدا وفي المضارع التحضيض نحو: هلا تقوم) فإن قلت: التمني طلب الشىء على سبيل المحبة ومحبة المتكلم للشىء لا يوجب ندامة المخاطب على تركه أو حرصه على فعله فكيف يتوسل به إلى التحضيض والتنديم؟ قلت: التمني لا لنفسه بل للشفقة على المخاطب فيوجب ذلك بلا خفاء ولله در معرفة المصنف زبدة مقاصد المفتاح ولطف تنقيحه لكلامه حيث لخص كلامه في هذا الموضع على هذا الوجه وهو في خفاء الدلالة عليه بحيث يكاد ينكر صحة نقله؛ ولهذا اشتغل الشارح بتصحيحه، ونحن اعتمدنا على ذكاء الناظر في كلامه المباهل للنظر فيه ولمعرفة مرامه ونحن نقول: الأحسن أن يجعل لا وما أيضا مما له مدخل في التنديم والتحضيض ولا يجعلان مجرد أمارة على قصد التمني بهما مع أنه لم يتبين مناسبة لهما بكونهما علامتين وجّهه لاختيارهما دون غيرهما، وذلك بأن يقال ما ولا للنفي تحسرا على ما فات وما سيفوت فكأنه قال: ليتك فعلت ما فعلت وليتك تفعل لا تفعل.
(1) أي من «هل ولو» اللتين للتمني، وهذا تكلف من السكاكي، والنحويون على أنها موضوعة للتخصيص والتنديم من أول الأمر. [بغية الإيضاح (2/ 33)].
(2)
يريد بتضمينهما ذلك جعلهما دالين عليه مطابقة لا تضمنا.
(وقد يتمنى بلعل فيعطي له حكم ليت) لا اختصاص له بلعل بل هو مشترك بين هل ولو وليت (نحو: لعلي أحج) من حد نصر أي: أقصدك (فأزورك بالنصب لبعد المرجو) أي لبعد ما من شأنه أن يترجى لا المرجو باستعمال لعل كما يتبادر وإلا لم يكن لعل مستعملة في التمني بل في الترجي (عن الحصول) وقال السيد السند: إن المراد المرجو بلعل ومعنى التمني به جعل الترجي به في حكم التمني ولا يخفى أنه بعيد والأقرب أن يتمنى بلعل لقرب المتمني من الحصول فكأنه قريب من الرجاء ولا يبعد أن يقال: استعمال لعل في المثال المذكور لأن القصد مرجو والزيادة بعيدة؛ لأنه ليس بيد القاصد فللحكم مناسبة بليت ومناسبة بلعل فروعي الجهتان باستعمال ونصب أزورك ولظني بك فطانة لا أتحاشى من إلقاء دقائق يختبر بها من له كعب أعلى.
(ومنها) أي: من أنواع الطلب (الاستفهام) وهو كلام يدل على طلب فهم ما اتصل به أداة الطلب فلا يصدق على أفهم فإن المطلوب به ليس طلب فهم ما اتصلت به؛ لأن أداة الطلب صيغة الأمر وقد اتصل بالفهم وليس المطلوب به طلب فهم الفهم بخلاف أزيد قائم؟ فإن المطلوب به طلب فهم مضمون زيد قائم، وسمى استفهاما لذلك وهذا الطلب على خلاف طلب سائر الآثار من الفواعل فإن العلم في علمني مطلوب المتكلم، وهو أثر المعلم لكن يطلب فعله الذي هو التعليم ليترتب عليه الأثر وكذا في اضرب زيدا المطلوب مضروبية زيد ويطلب من الفاعل التأثير ليترتب عليه الأثر وفي أزيد قائم؟ يطلب نفس حصول قيام زيد في العقل؛ لأن الأداة اتصل بقيام زيد بخلاف علمني، فإن الأداة فيه متصلة بالتعليم.
(والألفاظ الموضوعة له) أي: لغرض تحصيل الاستفهام وإلا فليس الاستفهام المعنى المطابقي للأسماء (الهمزة) قدمها لأنها الأصل والبواقي متفرعة عليها كما تقرر في موضعه (وهل) عقب الهمزة بها لكمال مناسبتهما وعقبها بقوله (وما ومن) لذلك وكان الأنسب جمع كم معهما (وأي وكم ويكف وأين وأني ومتى وأيان) فبعضها لطلب التصديق أي: إيقاع النسبة وانتزاعها وبعضها لطلب التصور أي: إدراك سواهما، وبعضها يعمها قال الشارح المحقق: ولكون الأعم أهم قدمه فقال (فالهمزة) ونقول: تقديمها هناك ليكون التفصيل على طبق الإجمال فاجعل
ما ذكره في سلك ما ذكرناه في مقام الإجمال، ولقد حق القول بأن في التأخيرات آفات (لطلب التصديق) قد ظهر وجه لتقديمه على التصور فأدركه إن كنت من أهل التدبر، وهناك وجه آخر هو أنه ليس طلب التصور إلا كلام ظاهري ولا طلب إلا للتصديق، وسنحققه لك إن شاء الله تعالى وننجيك من التحير (كقولك أقام زيد؟ ) قدم الفعلية لأن الاستفهام أحق بها (وأزيد قائم؟ ) وألم يقم زيد؟ وأزيد ليس بقائم؟ وما من مقام يستفهم من الإيجاب إلا وسعة الاستفهام عن السلب ويرجح أحدهما على الآخر رغبة المتكلم به والاهتمام بوقوعه (أو التصور كقولك) في طلب تصور المسند إليه (أدبس في الإناء أم عسل؟ ) فإنك تعلم أن في الإناء شيئا والمطلوب بعينه (و) في طلب تصور المسند (أفي الخابية دبسك أم في الزّقّ؟ ) فإنك تعلم أن الدبس محكوم عليه بالكينونة في أحدهما والمطلوب التعيين قال السيد السند: كون الاستفهام لطلب التصور كلام ظاهري مبني على التوسع لوجهين: أحدهما: أن المجيب لسؤال أدبس في الإناء أم عسل؟ لم يزد في تصور السائل شيئا. وثانيهما: أن الحاصل بالجواب هو التصديق بثبوت المحمول لمعين وهذا التصديق يخالف التصديق بثبوته لأحدهما والثاني لا يمتنع عن طلب الآخر لأنه لم يحصل بحصوله ونحن نقول: مطلوب البليغ بتركيب الخبر إفادة النسبة الخارجية بين محمول وموضوع ولإحضارهما وتصويرهما طرق مختلفة فشأنه ترجيح طريق على طريق لاقتضاء المقام فيما يتعلق بهما من خصوصياتهما لتحصيل تصورهما ليكون التصديق بالنسبة على وجه يقتضيه المقام فالتصديق بالثبوت لأحد الأمرين هو التصديق بالثبوت لمعين اختلف الموضوع فيه بحسب المقامين وتعيين الموضوع في أحدهما ليحصل تصور الطرف على وجه فيه خصوصيته ليكون فائدة الخبر أتم فالمجيب بالتعيين عن سؤال أدبس في الإناء أم عسل؟ يجعل ذات الموضوع متصورا بأحدهما ليكون حكمه أتم فالمطلوب بالسؤال تغيير طرق حكمه من العموم إلى الخصوص ليصير تصديقه أتم فليس تعدد التصديق في النظر البليغ وإن اقتضته التدقيق الفلسفي فالمطلوب ليس التصديق بل تبديل التصور، وتغيير التصديق يلزم من تبديله، ولا يلزم من توجه الطلب إلى شىء توجهه إلى لازمه فجعل بعض كلمات الاستفهام لطلب التصور لكونه سؤالا عن مفرد من مفردات الخبر ليس مبنيا على التوسع، وليس
المقصود بالجواب إلا تصوير هذا الطرف ليكون التصديق بالنسبة أتم سواء كان التصديق الأتم تصديقا آخر أو عين الأول وإن تأملت حق التأمل لا تجد فرقا بين قول المجيب عن الاستفهام المذكور بقوله دبس وبين قولك من أول الأمر في الخابية شىء أي: دبس فكما أن النظر في التفسير ليس إلى تحصيل تصديق بل إلى تحصيل تصور الشىء بخصوصه، فكذلك جواب السؤال لتحصيل تصور الموضوع المبهم بخصوص الدبس لا أظنك في ريبة مما أوضحناه لك مع مزيد التشييد إن لم يكن بين بصرك الحديد، ومشاهدة الحق غشاوة التقليد، ومنه التوفيق والتأييد (ولهذا) أي: لكون الهمزة لطلب التصور (لم يقبح أزيد قام؟ ) كما قبح هل زيد قام؟ لإبهامه طلب التصور مع أنه لم يجئ له وذلك لأن الاستفهام بالفعل أولى فيوهم أن إيلاء الاسم للدلالة على أنه المسئول عنه، وذلك الإيهام لا يضر في أزيد قام؟ (وأعمرا عرفت؟ ) (1) كما قبح هل عمرا عرفت؟ قال الشارح المحقق:
وذلك لأن التقديم يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل فيكون هل لطلب حصول الحاصل وهو مح بخلاف الهمزة فإنها تكون لطلب التصور وتعيين الفاعل أو المفعول وهذا ظاهر في أعمرا عرفت؟ وأما في أزيد قام؟ فلا إذ لا نسلم أن تقديم المرفوع يستدعي التصديق بنفس الفعل حتى لا يصح السؤال عن التصديق غايته أنه محتمل لذلك على مذهب عبد القاهر فيجوز أن يكون أزيد قام لطلب التصديق ويكون تقديم زيد للاهتمام ونحوه ويدل على هذا أنه علل قبح: هل زيد قام بأن؟ هل بمعنى قد لا بأنه مختص بمطلب التصديق كما سيجيء وهذا إنما يتجه على ما علل به القبح دون ما عللناه به؛ لأن زيدا قام، وأن لا يوجب كون التقديم للتخصيص حتى يكون مع التصديق بأصل الحكم بل لا يصح عند السكاكي لكن أزيد قام؟ يستدعي أن يكون التصديق حاصلا بأصل الحكم ويكون تقديم زيد لتعلق السؤال به وإلا فالاستفهام بالفعل أولى ولذا لم يقل لم يقبح أزيد قائم؟
لكن العلة في قبح هل زيدا عرفت؟ عند السكاكي والمصنف ما ذكره لا ما ذكرناه وكان الأولى أن يقول: ولهذا لم يمتنع أزيد قام أم عمرو؟ ولم يقبح إلخ (والمسئول
(1) لأنه إذا كان التقديم للتخصيص استدعى حصول التصديق بنفس الفعل ويكون المسئول عنه زيدا بخصوص وعمرا بخصوص وذلك تصور، وإذا كان لتقوية الحكم كان المسئول عن التصديق به، وكل منهما تصلح له الهمزة، وهذا بخلاف «هل» كما سيأتي. [المفتاح للسكاكي ص 169].
عنه بها) أي: بالهمزة (هو ما يليها كالفعل في أضربت زيدا؟ ) أم أكرمته؟
وأما مجرد أضربت زيدا؟ فالمطلوب فيه التصديق والمتبادر أن الواقع بعدها الجملة؛ إذ ليس تقديم الفعل لتعلق الاستفهام به بل على ما هو الأصل فيه (والفاعل في أأنت ضربت زيدا؟ ) إذ لو كان السؤال عن صدور الضرب عن الفاعل لقيل أضربت إذ لا فائدة في ذكر أنت ولأن الاستفهام بالفعل أولى (والمفعول في أزيدا ضربت؟ ) المفعول يعم الخمسة إلا المفعول معه فإنه لا يتقدم على عامله، والاستفهام عن المفعول المطلق المحدود نحو أجلسته؟ بفتح الجيم أو كسرها مع التصديق بأصل الفعل متجه وأما عن المبهم فلا، نحو أجلوسا جلست، وكذلك الحال نحو راكبا جئت وخبر كان نحو أقائما كان زيد؟ وأما البواقي فلا يتصور فيها أن يلي الهمزة ولا يخفى من له درية في نحوه.
(و «هل» لطلب التصديق) الأولى لطلب الإيجاب قال الرضى «هل» لا تدخل على النافي أصلا، قلت: كأنه لرعاية أصله؛ لأنه في الأصل بمعنى «قد» ، و «قد» لا تدخل على النافي (فحسب) أي: إذا عرفت أنه لطلب التصديق فحسبك هي فحسب مبتدأ لكن ضمنه ليس رفعا لأنه يبني بعد حذف المضاف إليه على الضم ومآله القصر على طلب التصديق وأن ليس من طرفه وتدخل على الجملتين (نحو هل قام زيد؟ وهل عمرو قاعد؟ ) اعتني بتكرار المثال دفعا لتوهم التخصيص بالفعلية من كونه في الأصل بمعنى قد وكون هذا الأصل مرعيا في المنع عن الدخول على النافي والدخول على اسمية خبرها فعل، وأشار باختيار هل عمرو قاعد؟ على عمرو قعد إلى قبحه، ولو مثل بهل زيد قائم؟ لكان إشارة أوضح (ولهذا امتنع هل زيد قام أم عمرو؟ ) أي: استعمالها مع أم المتصلة، لأنه يكن حينئذ لطلب التصور لوجوب حصول التصديق مع أم المتصلة الإيهام يطلب بالاستفهام تعيين هذا المبهم ومنه يعرف سر منع النحاة إيراد «هل» مع أم المتصلة (وقبح هل زيدا ضربت؟ ؛ لأن التقديم يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل) في الإيضاح لما تقدم أشار به إلى أن تقديم المفعول للتخصيص، ولا يخفى أن التخصيص يستدعي ثبوت الحكم وخطأ المخاطب في قيد من قيود الكلام قال الشارح: وإنما لم يمتنع لاحتمال أن يكون «زيدا ضربت؟ » من قبيل حذف العامل والتفسير، لكن التفسير قبيح بدون الاشتغال بالضمير هذا ولا
يخفى أن هل زيدا ضربت؟ على هذا ليس متعينا للقبح، بل هو دائر بين أن يكون قبيحا أو ممتنعا إلا أن يقال الدائر بين الامتناع والقبح متعين للقبح ثم قال الشارح: وقيل: لم يمتنع لاحتمال أن يكون التقديم لمجرد الاهتمام به غير التخصيص، وفيه نظر؛ لأنه لا وجه حينئذ لتقبيحه سوى أن الغالب في التقديم هو الاختصاص وهذا يوجب أن يقبح وجه الحبيب أتمنى على قصد الاهتمام دون الاختصاص ولا قائل به، هذا وفيه أنه إذا كان احتمال الاهتمام دافعا للقبح، فلا يصح الحكم بقبح هل زيدا ضربت؟ ويختل كلام المصنف فتمام كلام المصنف يستدعي أن يكون احتمال الاهتمام مجامعا مع القبح فيصح أن يجعل وجها لحكمه بالقبح دون الامتناع وأنه فرق بين وجه الحبيب أتمنى، وقولنا هل زيدا ضربت؟
فإن في الثاني إيهام التناقض؛ فإن غلبة الاختصاص فيه يوجب الحكم بعلم المتكلم بأصل الحكم وهل يحكم بجهله به بخلاف الأول على أن في الثاني حمل المخاطب على جواب آخر خطأ هو التعيين بخلاف الأول فإنه لا يدعو إلى جواب (دون ضربته) أي: لم يقبح هل زيدا ضربته؟ (لجواز تقدير المفسر قبل زيد) جوازا غير مرجوح وإنما قيدنا الجواز لأنه الفارق بين زيدا ضربت؟ وزيدا ضربته؟ إذ الجواز مشترك قال الشارح: بل التقدير قبل زيد أرجح لأن الأصل تقديم العامل قلت: ولأن الاستفهام بالفعل أولى وجواز هل زيدا ضربته؟ مما يشهد له كلام ابن الحاجب حيث جعل النصب مختارا بعد حرف الاستفهام في المضمر على شريطة التفسير، لكن الرضى حكم بعدم جواز حذف فعل هل اختيارا وأيضا يرد على قوله دون ضربته أن انتفاء هذا الوجه للقبح لا يوجب عدم قبحه؛ لأن انتفاء علة مخصوصة لا يوجب انتفاء المعلول ما لم يقم دليل على انحصار العلة فيه.
(وجعل السكاكي قبح هل رجل عرف؟ لذلك) أي: لأن التقديم يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل لما سبق من أن اعتبار التقديم والتأخير في رجل عرف واجب وأن أصله عرف رجل على أنه بدل من الضمير كما في قوله تعالى: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)(1) وفيه بحث لأن اعتبار التقديم والتأخير فيه لأنه لا سبب سواه لكون المبتدأ نكرة وهو منتف مع حرف
(1) الأنبياء: 3.
الاستفهام؛ لأنه يصح وقوعه نكرة بعد حرف الاستفهام مبتدأ صرح به الرضى.
قال الشارح المحقق: وإنما لم يحكم بالامتناع لاحتمال أن يكون رجل فاعل فعل محذوف، وفيه أن الحكم بالقبح على هذا مشكل؛ لأنه ليس فيه قبح عدم اشتغال المفسر بالضمير على أنه فيه نجاة عن تكلفات ارتكبها السكاكي لتصحيح وقوعه مبتدأ (ويلزمه) أي: السكاكي (أن لا يقبح هل زيد عرف؟ ) لأنه لا يجعله للتخصيص كما عرفت، واللازم باطل باتفاق النحاة وفيه أنه هل يبالي السكاكي بمخالفة النحاة معه وأنه فليقبح طرد اللباب قال الشارح: إن انتفاء علة مخصوصة لا يستلزم انتفاء الحكم، نعم هذا الوجه لا يستلزم قبحه وفرق بين عدم الاستلزام واستلزام العدم ويمكن دفع الكل بأن مراد المصنف أنه يلزم السكاكي أنه لا يقبح هل رجل عرف؟ لهذا الوجه يعني يلزمه أن لا يكون وجهه جاريا في جميع مواد القبح والمقصود ترجح وجه الغير باطراده لا إبطال وجهه أو إبطال حكم ينسب إليه بمقتضى وجهه (وعلل غيره) أي: غير السكاكي (قبحهما) أي: قبح هل رجل عرف؟ وهل زيد عرف؟ (بأن هل بمعنى قد في الأصل) والأصل أهل وقد جاء على الأصل في قوله أهل عرفت الدار بالغير بين (وترك الهمزة قبلها لكثرة وقوعها في الاستفهام) وقد يقع في الخبر كقوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ (1) أي: قد أتى فلما التزم ترك الهمزة نابت منابها في الاستفهام وقد من أمور لا ينفك عن الفعل المذكور فكذا ما هو بمعناه فبقي بعد صيرورته بمعنى الاستفهام على أصله فلم يفارق الفعل لا بالحذف ولا بالفصل في كلام فيه فعل وما لا فعل فيه يسلب عنه لما لم يجد، فإن قلت: ما الفرق بين هل ومتى حتى جعلوا الثاني متضمنا معنى الهمزة والأول بمعناها؟ قلت: لم يرضوا ببقاء معنى «قد» فيه لئلا يوجب امتناع دخوله على الجملة الاسمية وكان اختصاص «هل» لطلب التصديق أيضا نشأ من كونه في الأصل بمعنى قد الذي هو لتحقيق النسبة أو تقليلها ولا اتصال لها بالمفردات.
(وهي) أي كلمة هي (تخصيص المضارع بالاستقبال) قال الشارح: بحكم الوضع كالسين وسوف، هذا وفيه أنه لو كان بحكم الوضع لكان مخصصا للماضي
(1) الإنسان: 1.
أيضا بالاستقبال مع أنه ليس كذلك قال الله تعالى: فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا (1) إلا أن يقال: وضع هل للمستقبل فإذا دخل على المضارع لا يلزم من تخصيصه بالمستقبل خروج شىء من وضعه بخلاف ما إذا أدخل على الماضي؛ فإنه لا بد إما من خروج الماضي عن وضعه أو خروج هل فيختار خروج هل دون الفعل؛ لأنه ركن الكلام والقياس يقتضي تخصيصه الجملة الاسمية أيضا بالمستقبل (فلا يصح هل تضرب زيدا وهو أخوك؟ )(2) كما يصح أتضرب زيدا وهو أخوك؟ لأن التقييد بهذا الحال يخصه بزمان الحال والعامل يقارنه وفيه أن تخصيصه المضارع بالمستقبل لا يستلزم عدم دخوله على المضارع المقيد بما جعله حالا كما لا يستلزم عدم دخوله على الماضي إلا أن يقال: يصرف هل سابق على التقييد بالحال؟ فإن قلت: كونه بحكم الوضع مختصا بالمستقبل يمنع دخوله على الحال إذا كان مستعملا في معناه وهو هاهنا للإنكار دون الاستفهام إذ لا معنى للاستفهام عن الضرب حال الأخوة قلت: التزم هذا المقتضى للوضع حين دخوله على المضارع وجعل الرضى امتناع المثال لامتناع كون هل مستعملا في الإنكار، وقد وهم البعض من تخصيصه المضارع بالمستقبل أنه لا يدخل إلا على المستقبل، وقد عرفت فساده (ولاختصاص التصديق بها) الباء داخل على المقصور (وتخصيصها المضارع بالاستقبال) هو المقصور عليه فقد جمع في العبارة بين استعمالي التخصيص (كان لها مزيد اختصاص) أي: ارتباط فافهم (بما كونه زمانيا أظهر كالفعل) الأظهر هو الفعل، ولم يقل مزيد اختصاص بالفعل ليظهر وجه مزيد اختصاص قال المصنف: أما الثاني فظاهر وأوضحه الشارح بقوله، وأما اقتضاء الثاني أي: تخصيصها المضارع بالاستقبال لذلك فظاهر، إذ المضارع إنما يكون فعلا، وكأنه عرض بالمفتاح حيث قال: ولاستدعائها التخصيص بالاستقبال لما يحتمل ذلك وأنت تعلم أن احتمال الاستقبال إنما يكون لصفات الذوات لا لنفس الذوات؛ لأن الذوات من حيث هي هي ذوات فيما مضى وفي الحال وفي الاستقبال استلزم ذلك مزيد اختصاص لهل دون الهمزة بما كونه زمانيا أظهر كالأفعال، هذا ووجه المؤاخذة عليه أن توضيح للواضح بالخفى لأن
(1) الأعراف: 44.
(2)
أي على أن الضرب واقع في الحال كما يفهم عرفا من تقييده بالأخوة، لأنها حالية لا مستقبلة.
التخصيص بالمستقبل إنما هو للمضارع، وهو فعل، وهذا لا يرد؛ لأن التخصيص بالمستقبل لا يحتمل غيره وهو المضارع والجملة الاسمية لكونها مخصصة للمضارع بالمستقبل لا يقتضي مزيد الاختصاص إنما يقتضيه لو كان التخصيص مختصا بالمضارع فلا بد من إثبات أن الاختصاص بالمستقبل له مزيد خصوصية بالمضارع حتى يتضح المطلوب ولا بد في بيانه مما ذكره السكاكي كما سيتضح لك ثم قال المصنف: وأما الثاني فلأن الفعل لا يكون إلا صفة والتصديق حكم بالثبوت أو الانتفاء والنفي والإثبات إنما يتوجهان إلى الصفات لا الذوات وأحال السكاكي معرفة توجه النفي إلى الصفة دون الذات إلى علوم أخر واختلف الآراء في تنقيح هذا الكلام وبيان المراد بالذات والصفة فمنهم من أراد الأجسام والعوارض، ومنهم من أراد الحقائق والعوارض والأول أراد بالعلوم الطبيعيات، والثاني علم الكلام وفي تفصيلهما ليس إلا وصمة ذوي الأحلام فطويناهما على غيرهما، وإن كنت تشتهيهما فعليك بحواشي السيد السند على الشرح فليكن ما لنا عليهما من التعديل والجرح في ساحة الطرح والإبهام، ولما اضطر السيد السند في تنقيحه ادعى للذات والصفة معنى يتم به الكلام وإن لم يثبت في السنة مشاهير الأنام، وهو أن المراد بالذات المستقل بالمفهومية، وبالصفة ما لم يستقل ويكون معنى حرفيا وهو النفي والإثبات النسبة الرابطة وحينئذ صح قول المصنف: والفعل لا يكون إلا صفة بخلاف الأسماء فإنها ذوات؛ لأنها وضعت لمعان مستقلة صالحة لأن يحكم عليها وبها ونحن نقول مندوحة إذ المراد بالصفة المحمول؛ لأن المراد به الوصف أبدا لأنه ملحوظ على وجه الثبوت للغير، وبالذات الموضوع لأنه ملحوظ على وجه يثبت له الغير كما هو شأن الذوات، ومن ناول علما حقق فيه حقيقة النفي والإثبات علم أنهما يتوجهان إلى المحمولات ويتعلقان بالموضوعات فأنت في زيد قائم أثبت القائم لزيد لا زيدا لشىء وفي ما زيد قائما نفيت القائم عن زيد لا زيدا عن شىء والفعل لا يكون إلا صفة لأنه اعتبر الحدث فيه مسندا أبدا بخلاف الاسم؛ فإنه ربما تعرض له النسبة إلى شىء وربما لا تعرض فقول المصنف:
والفعل لا يكون إلا صفة مما له مزيد مدخل في تحرير كلام المفتاح أي بخلاف الاسم فإنه ربما يكون صفة وربما يكون ذاتا فلهل مزيد اختصاص بالفعل بلا خفاء لكونه للتصديق ولكونه للتخصيص بالمستقبل لأن التخصيص في المضارع أطوع
لأنه رفع لاحتمال المراد، والمستقبل مدلول له بخلاف الاسمية فما يشعر به كلام الشارح من حصر الأسماء في الذوات ليس كما ينبغي، فإن قلت: النفي والإثبات لا يخص الحملية فكيف صححت أنهما لا يتعلقان إلا بالصفات؟ قلت: لا تغفل عما سمعته من تخصيص السكاكي والمصنف الحكم في الشرطية بالجزاء فإن قلت:
الصفة في مفهوم الفعل ليست محمولة بل قائمة بالفاعل، قلت: حقق في تلك العلوم أنها راجعة إلى المحمولة فلا تنازعنا للغفلات ومما نبهك عليه أن زمانية المستقبل أظهر من غيره من الأفعال؛ لأن حدثه يمر على نظير البصيرة متماشيا مع الزمان متجزيا بتجزية على حسب أعداد الآن وهذا هو السر في اختصاصه بالاستمرار التجددي (ولهذا)(1) أي: لأن لها مزيد اختصاص بالفعل (كان فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (2) أدل على طلب الشكر) علم منه أن الاستفهام يكون بمعنى الطلب كما علم سابقا أنه بمعنى التمني فلما علما لم يتعرض لهما فيما سيجىء من بيان المعاني المجازية (من فهل تشكرون وفهل أنتم تشكرون) مع أن أنتم فاعل فعل محذوف وفيه تأكيد للتكرير وليس أنتم تشكرون جملة اسمية لما عرفت من قبح هل زيد قام؟ فما ذكره السيد السند في شرح المفتاح من قوله سواء كان أنتم تشكرون اسمية أو فعلية مكررة ليس كما ينبغي؛ لأن أنتم تشكرون ساقط عن درجة الاعتبار في مقام الترجيح وقد عرفت أن فهل أنتم تشكرون مما رده الرضى (لأن إبراز ما سيتجدد في معرض الثابت) لم يقل: إبراز المتجدد لأن ما سيتجدد زمانيته أظهر كما نبهناك عليه (أدل على كمال العناية بحصوله) من عدم الإبراز وإن أكد ألف تأكيد وفيه خفاء (ومن أفأنتم شاكرون لأن هل أدعى للفعل من الهمزة فتركه معه أدل على ذلك) الكمال من تركه مع الهمزة (ولهذا لا يحسن هل زيد منطلق؟ إلا من البليغ)(3) إذ الظاهر هل ينطلق زيد أو هل زيد ينطلق بتقدير الفعل فالعدول بلا نكتة لا يحسن، ومعرفة النكتة لا تكون إلا للبليغ وفيه نظر إذ معرفة نكتة نوع من الكلام لا يتوقف على البلاغة التي هي ملكة الاقتداء على تأليف كل كلام بليغ فتأمل، وكان ينبغي أن يقول: لا يحسن إلا
(1) أي لكونها مزيد اختصاص بالفعل. [المفتاح ص 167].
(2)
الأنبياء: 80.
(3)
لأنه هو الذي يراعي دقائق النكت، ويأتي بالكلام على مقتضى المقام.
من البليغ مع البليغ إذ كما لا يحسن من غير البليغ لا يحسن من البليغ مع غير البليغ، وكما لا يحسن هل زيد منطلق؟ إلا منه لا يحسن أزيد منطلق لأنه يدعو إلى الفعل وإن كان دعوته دون دعوة هل إلا أن نقصان الحسن معها أقل فكأنه للتنبيه على هذا خص الحكم بهل وإلا حسن بيان المفتاح حيث قال: والخطب مع الهمزة في أزيد منطلق؟ أهون وكان منشأ ترك المصنف إياه الغفلة.
(وهي) أي: هل (قسمان بسيطة) لا يخفى أن هذا التقسيم لا يخص «هل» لأن الهمزة الطالبة للتصديق أيضا قسمان إلا أنه جرى الاصطلاح بتسمية هل بسيطة ومركبة فلذا خص بها التقسيم واعتمد على أن الطالب بعد معرفة «هل» مستغن في الهمزة عن التعليم (وهي التي يطلب بها وجود الشىء) يخرج عنه نحو قولك هل النسبة واقعة؟ هل العمى ثابت؟ (كقولنا هل الحركة موجودة ومركبة وهي التي يطلب بها وجود شىء لشىء كقولنا هل الحركة دائمة؟ )(1) والمراد: وجود شىء لشىء نفيا أو إثباتا وكذا المراد بوجود الشىء فقولنا هل الحركة لا موجودة بسيطة؟ وهل الحركة لا دائمة مركبة؟ كذا في الشرح أقول: قد سمعت أن «هل» لا تدخل على النفي فهذا التعميم فاسد وإن أراد بالنفي العدول فالمحمول في قولنا الحركة لا موجودة غير الوجود فقد اعتبر غير الوجود أمران فهي مركبة ثم أقول جعل «هل» الحركة دائمة هل المركبة كلام ظاهري إذ المحمول فيه الوجود والدوام جهتيته القضية إلا أن الجهة والمحمول أديا بعبارة واحدة والاعتبار بالمعنى قال الشارح المحقق: قد أخذ في البسيطة شيئان الوجود وغيره وفي المركبة ثلاثة أشياء: المحمول والموضوع والوجود، أقول: هذا كلام ظاهري خال عن التحصيل إذا المعتبر في كل قضية سوى الوجود الرابطي أمران فلا يستحق ما محموله الوجود أن تكون بسيطة بالنسبة إلى ما محموله غير الوجود، والقول بأن المحمول لما كان كالنسبة من جنس الوجود كأنهما أمر واحد تكلف جدّا وكأنه من هنا وهم من قال في قضية محمولها الوجود: لا نسبة في القضية ولا تركيب إلا من الموضوع والمحمول؛ لأن الوجود يرتبط بنفسه فلا يحتاج إلى اعتبار رابط؛ ولذلك يقال: زيد هست ولا يقال هست است والأحق بالاعتبار أن البساطة دائرة على أن مطلوب هل البسيطة ليس إلا مشتملا على التصديق بوجود الشىء بخلاف
(1) الحق أن هذا التقسيم لا يختص بهل؛ لأن الهمزة مثلها فيه، على أن البحث فيه لا شأن لعلم المعاني به.
المركبة؛ فإنه مشتمل على التصديق بوجود الشىء ووجود شىء له لأن ثبوت شىء لشىء إذا كان غير الوجود فرع ثبوته لكنه إنما يتم لو لم يكن ثبوت الوجود أيضا فرع ثبوت الشىء كما هو المشهور، ويكون الحق أنه مستلزم وجود الشىء وإن كان بهذا الوجود المحمول فافهم متأملا تأملا وافيا.
(والباقية) من ألفاظ الاستفهام (لطلب التصور) الأولى أن يقول: فحسب قال الشارح: ويختلف من جهته أن المطلوب بكل منها تصور شىء آخر، وهذا لا يصح في حق أين، فإنه لا يطلب بها إلا ما يطلب بكيف أو أين كما سيظهر (فيطلب بما شرح الاسم) أي: شرح مفهومه، وإنه لأي معنى وضع، فحق الجواب إيراد وضع مفرد أشهر؛ إذ مفهوم الاسم أمر مجمل، فإذا أجبت بمركب دخل في الجواب تفصيل ليس من دواخل المسئول عنه، فإذا لم يوجد مفرد أشهر عدل إلى المركب، والمراد بالاسم ما يقابل المسمى؛ إذ شرح المفهوم لا يخص بالمقابل للفعل والحرف، ولا يبعد أن يقال: لا يمكن أن يجاب لمفهوم الحرف بعينه عن السؤال بما؛ لأنه ليس قابلا للحكم به، ولا بمفهوم الفعل، لأنه وإن يحكم به، لكن على فاعله، لا على المسئول فالسؤال عنهما سؤال عن مفهوم اسم منطبق على مفهومهما فيقال: ما معنى من؟ وما معنى ضرب؟ ويجاب بأنه الابتداء، أو الضرب المقترن بالماضي؛ فلذا اكتفوا بقولهم شرح الاسم (كقولنا ما العنقاء؟ ) فيجاب بما بعينه، ولو بلغة أخرى، وما الشارحة للاسم بالمباحث اللغوية أنسب (أو ماهية المسمى كقولنا ما الحركة؟ ) الأولى أو حقيقة المسمى، لأن الحقيقة الماهية الموجودة، ولا ترتيب بين هل البسيطة، وما الطالبة لتفصيل الماهية الاعتبارية، ولا يخرج عن البيان ما زيد؟ حيث يجاب بالإنسان، ولا ما الإنسان والفرس؟ حيث يجاب بالحيوان؛ لأنه سؤال عن حقيقة المسمى.
(وتقع هل البسيطة) الطالبة للوجود (في الترتيب بينهما) فالمحتاج إلى السؤال عن مفهوم الاسم، ووجوده، وتفصيل حقيقته لا بد أن يسأل أولا عن مفهومه إجمالا، ولو يسأل بعد الإجمال عن تفصيله قبل السؤال عن وجوده لكان أحسن؛ إذ يكون فراغ عن مسلك، ثم اشتغال بآخر، فإن قلت: بل الأحسن أن يسأل أولا تفصيلا؛ لأن فيه قصر المسافة. قلت: لعل المعرفة الإجمالية له يغني عن التفصيل لبداهتها، وبعد معرفته إجمالا يتجه السؤال عن الوجود، ولا
يصح تقديم السؤال عن الوجود على السؤال عن الخصوص؛ إذ بعد التصديق بوجوده بخصوصه لا محال للسؤال عن الخصوص، وهذا مراد من قال: ما الشارحة للمفهوم إجمالا متقدمة على هل البسيطة قطعا، وأما الشارحة للمفهوم تفصيلا، فالأولى تقديمها فلا يرد عليه أنه يكفي ما الشارحة تفصيلا للسؤال عن الوجود، فالجواب تقديمه أحد الأمرين، وبعد معرفة الوجود يتجه السؤال عن الحقيقة، أي: الماهية من حيث الوجود؛ إذ ربما يتفاوت الماهية بالقياس إلى الاسم، والماهية بالقياس إلى الوجود، فرب ماهية بالقياس إلى الاسم هي عرضية للموجود، ورب ماهية للموجود هي عرضية لماهية الاسم، لأن ماهية الاسم ما اعتبرها الواضع في وضع الاسم، فربما كان عرضيا للموجود، نعم قد يتفقان، فإن قلت: فإذا اتفقا فلا معنى للسؤال عنها بعد معرفة الوجود إذا عرف قبل مطلب هل بديهة أو بالتفصيل، قلت ربما لم يعرف السائل الاتحاد، فيسأل نعم لا يجب الجواب بإيراد الحد، بل قد يكون الجواب التنبيه على الاتفاق، فإن قلت: فإذا جاز أن يكون الحد الأسمى رسما حقيقيا أو بالعكس، فكيف صح ما ذكره الشيخ في الشفاء أن الحدود التي توضع في أول التعاليم قبل إقامة البرهان حدود بحسب الاسم، وبعد إثبات الوجود يصير حدودا بحسب الحقيقة قلت: حكم الشيخ على الحدود الحقيقة التي ذكر قبل إثبات الوجود، لا على المطلق، وإلا نسب بالعلوم الحكمية ما الشارحة حقيقة المسمى لا يقال: كما يقع هل البسيطة بين مائين يقع ما الشارحة بين هل المركبة وهل البسيطة، فإنه ما لم يعرف أن للفظ مفهوما استحال السؤال عن بيان خصوصه إجمالا أو تفصيلا على ما قيل، وذلك مطلب هل المركبة، فكما أن لهل البسيطة تقدما على هل المركبة، كذلك لها تقدم على البسيطة، بل له التقدم المطلق؛ لأنا نقول: إنما يسأل عن خصوص المفهوم بعد أن وجد اللفظ مستعملا في الموارد، وحصل العلم بأن له مفهوما، فلا يستعمل هل في طلب أن له مفهوما، فلذا لم يلتفتوا إليه، ولم يتعرضوا له.
(و (بمن) المراد المشخص لذي العلم) الأظهر أن المطلوب بمن المشخص من ذي العلم كقولنا: من في الدار؟ فيجاب بزيد، فإذا لم يكن الجواب بالمشخص يعدل إلى مفهوم كلي منحصر في الشخص، وليس الإتيان به؛ لأنه يفهم منه كما يستفاد من كلام الشرح؛ لأن المفهوم الكلي لا يفيد الشخص (كقولنا: من في
الدار؟ ) فيجاب بزيد، وفيه بحث؛ لأن السائل يعرف شخص زيد، ويردد الكون في الدار بينه وبين غيره، وإنما يطلب تصديقا خاصا فهو كالهمزة، وأم في سؤال المتردد بين الأشخاص في الكون في الدار (السكاكي (1) يسأل بما عن الجنس) (2) سواء كان من غير ذي العلم أو منه (يقول: ما عندك؟ أي: أي أجناس الأشياء عندك؟ وجوابه كتاب أو نحوه) وهذا سؤال عن الجنس إجمالا، وقد يسأل عنه تفصيلا، فيقال: ما الكلمة؟ فيجاب بلفظ وضع لمعنى مفرد، أو هذا سؤال عن الجنس مع قطع النظر عن أنه مسمى الاسم، وقد يسأل عنه من حيث هو كذلك كما سمعت، وكما يقال ما الإنسان؟ فيقال: بشر، فلم يرد المصنف بما ذكر على ما ذكره السكاكي إلا تفصيلا لما اندرج في بيانه (أو عن الوصف نحو: ما زيد؟ وجوابه: الكريم) وأما إذا أجيب بإنسان فهو سؤال عن الجنس (ونحوه) وفي الحديث (سيروا فقد سيق المفردون، فقيل: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات)(3)(ويسأل بمن عن الجنس من ذوي العلم تقول: من جبريل؟ أي: أبشر هو، أم ملك، أم جني؟ وفيه نظر) إذ لائم أنه سؤال عن الجنس، وأنه يصح الاكتفاء بالجنس في الجواب، كذا في الإيضاح، ويرده قوله:
(أتوا ناري، فقلت: منون أنتم) فقالوا: الجنّ، قلت: عموا ظلاما (4) ويمكن أن يجاب بأنه ليس جوابا، بل يلقى المخاطب السائل بغير ما يتطلب تنبيها على أنه المهم له؛ لأنهم ظنوهم أناسى، فطلبوا تعيينهم، فنبهوهم على أنه لا يمكن لكم تعيينا، وإنما غاية التعريف لنا عندكم تعيين جنسا، وهناك نظر أقوى، وهو أنه لو كان للسؤال عن الجنس لما صح لمن قال لك: جاءني إنسان من هو؟
مع شيوعه، وليصح السؤال عمن جهل جنسه وهو بحضرتك بمن هو (ويسأل بأي
(1) المفتاح ص 167.
(2)
يعني به الحقيقة الكلية، فيشمل جميع أقسام ما يقال في جواب «ما هو» من النوع والجنس والحقيقة الإجمالية والتفصيلية، كما يشمل الجنس من ذوي العلم وغيرهم. [الإيضاح ص 258].
(3)
مسلم برقم (2676).
(4)
البيت لشمر بن الحارث في الحيوان (4/ 482)، وخزانة الأدب (6/ 167)، في الخصائص (1/ 128)، همع الهوامع (2/ 157، 211)، وفي جواهر الأدب ص 107 وفي شرح المفصل (4/ 16) وفي المقتضب (2/ 307).
عما تميز به أحد المتشاركين في أمر يعمهما) أو أحد المتشاركين، أو المتشاركات، واحترز به عن المتشاركين في مال أو دار، فإنه لا يسأل بأي عما يميزهما ما لم يجعلا تحت ما يعمهما، ولو كان مفهوم المتشاركين في هذا المال، ولم يتنبه له السيد السند، فقال في شرح المفتاح: هو لتأكيد التشارك، ولا بد في معرفة ما يعم في موضع موضع فطانة، ففي قولك: جاءني زيد وعمرو، ولا أدري أيهما تقدم الأمر الأعم الجائي، أي: لا أدري، أي: الجائيين، تقدم.
قال الشارح: قيل: إنه إذا أضيف إلى ما يشارك إليه كقولهم: أيهم يفعل كذا؟ فجوابه اسم متضمن للإشارة الحسية، أو اسم علم، وإذا أضيف إلى كلى، فجوابه كلى مميز لا غير هذا، وفيه نظر؛ لأن الضمير إذا رجع إلى جماعة فيهم لابس ثوب أبيض، فلا خفاء في صحة فعله من ثوب له أبيض، وإذا قيل: أي إنسان فعل كذا؟ يصح أن يقال: زيد، فلا نعلم ما صحة هذا القول؟ وهاهنا بحث ذكرناه لك في: من في الدار؟ فتذكر (وبكم عن العدد) وفي الرضى عن العدد المعين هذا، فلا يصح أن يجاب عن قولك: كم رجلا في البلد بالوف نحو: (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ)(1) الآية ليست على حقيقة الاستفهام، فلا ينبغي التمثيل بها؛ لأن المقام مقام بيان المعاني الحقيقة كما لا يخفى، قيل: تمييزكم من آية بينة، زيدت من؛ لأنها يراد للفصل بينه وبين مفعول الفعل المتعدي الفاصل بين كم ومميزه، وأنكر الرضى زيادة من في مميزكم الاستفهامية، وقال: لم أجده في نظم ولا نثر ولا كتاب من كتب النحو، ومن لطائف الشرح أنه قال في مقابلته: وأقول: سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة، ويندفع كلام الشارح بأنه يحتمل الآية كم الخبرية على ما ذكره الزمخشري، فلا يتم تمسكا عليه، ونحن نقول: يجوز أن تكون من زائدة في المفعول، ويكون كم مصدرا، أي: كم مرة آتيناهم آية بينة.
(وبكيف عن الحال) أي: الصفة فهو أبدا السؤال عن المسند أو عن الحال مثال الأول كيف زيد؟ ومثال الثاني كيف يقوم زيد؟ أي: على أي حال يقوم أقائما أم قاعدا؟ ولا يتوهم أنه سؤال عن الظرف؛ لأنه من الظروف، لأنه ليس
(1) البقرة: 211.
منها، وإنما عد منها توسعا كما بين في محله.
(وبأين عن المكان) وهو لازم الظرفية فإما أن يسأل به عن المسند نحو أين زيد؟ وإما عن الظرف نحو أين يسكن؟ أو من أين تجىء.
(ومتى عن الزمان) نحو متى القتال؟ ومتى يخرج؟ والزمان بإطلاقه يتناول الحال، وقول الشارح في شرحه: ماضيا كان أو مستقبلا يشعر بالتخصيص، ويقتضي عدم صحة قولك: الآن في جواب متى شعرك؟ وفيه نظر (وبأيان عن المستقبل) نحو أيان الحج؟ أو أيان الحج؟ وقد خصه بالتمثيل لينبه بالمثال على أنه يسأل به عن الأمر العظيم (نحو سأل يسأل أيان يوم القيامة وأنى تستعمل تارة) أي مرة بعد مرة على ما في الصحاح، فالتقييد بتارة كالتقييد بكثيرا (بمعنى كيف) ويجب أن يكون بعده فعل (نحو فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) (1) ولا يقال: أنى زيد؟ بمعنى كيف زيد؟ ويجيء بمعنى متى أيضا، وهو كما هو جاء بمعنى كيف، قال الرضى: وفسر الآية بالمعاني الثلاثة (وأخرى) أي: تارة أخرى، ولا يناسب وصف مرة بعد مرة بأخرى، فكأنها استعملت بمعنى مرة (بمعنى من أين؟ نحو (أنى لك هذا) ذهب جماعة إلى أنها في معنى من أين؟
وآخرون إلى أنها في معنى أين ومن مقدرة، فلذا قال: بمعنى من أين؟ ليمكن تطبيقه على أي مذهب يراد، فمن قال: الباء بمعنى في، فقد خرج عن المصلحة، ويؤكد كونها بمعنى أين مجىء من أنى لك، كما في قوله: من أين عشرون لنا من أنى وهاهنا بحث شريف خفى عن البصائر؛ لأنه لطيف، وهو أنه ليس شىء، مما ذكر، ويذكر من مباحث الاستفهام مما يتعلق بفن المعاني، فإن حقائقه وظائف لغوية، ومجازاته من مباحث البيان، وفروع قواعد المجاز، نعم أنه يتفرع على حقائقه مزايا تتوقف معرفتها على معرفة الحقائق، لكن لم يذكر شيئا منها، وينبغي أن يقول: وأما الاستفهام فلاعتبارات لا يعرف إلا بمعرف ما بين أدواته من التفصيل، وقد بين ذلك في النحو كما قال في بيان اعتبارات تقييد المسند بالشرط: إذ الفرق بينهما تحكم.
(ثم إن هذه الكلمات) الأولى ثم هذه الكلمات على طبق الإيضاح؛ إذ لا
(1) البقرة: 223.
داعي إلى تأكيد الحكم (كثيرا ما يستعمل في غير الاستفهام) منه الخبر ومنه الإنشاء، وهل إرادة غير الاستفهام بهذه التراكيب من قبيل الاستعارة التمثيلية، فتكون هذه الكلمات مستعملة في معانيها، أو من قبيل التجوز في تلك الكلمات كما صرح به المصنف لا سبيل إلى تعيين أحد الأمرين، بل الأمر متوطن في موطن الاحتمال، ولذا بينه المفتاح على الإبهام، فقال: وكثيرا ما يتولد من هذه الكلمات معان بمعونة قرائن الأحوال، وبعد كون التجوز في تلك الكلمات هل وقع التجوز فيها بالأصالة أو في متعلقاتها أصالة؟ وفيها تبعا كما اعتبروا في استعارة الحروف لاشتراك العلة بين الاستعارة والمجاز المرسل، وكأنه إلى هذا أشار الشارح المحقق حيث قال: وتحقيق كيفية هذا المجاز، وبيان أنه من أي نوع من أنواعه مما لم يحم أحد حوله، وعرض به بالمصنف حيث جزم بالتجوز في تلك الكلمات بأنه أمر من عنده، والسابقون قد توقفوا، وحمل السيد السند كلامه على استصعاب بيان علاقة المجاز فيها وبيان كيفية المناسبة المجوزة له، وقال متحججا: ونحن نذكر في هذه المواضع ما يتضح به وجه المجاز فيها، ونستعين به فيما عداها، ثم استعمالها في تلك المعاني بمعونة القرائن والعلاقات، إذ لو فات شىء منهما خرج استعمالك من حيز اللطف والسداد إلى مزلقة العنف والفساد، وهل المستعمل بمجرد تقليد العرب من غير اطلاع على السبب مصيب أو كلامه معيب؟ يشبه أن يكون على الصواب كما يشم من جميع أهل اللغة المجازات المشهورة في كل باب (كالاستبطاء (1) نحوكم دعوتك) أريد به الاستبطاء اللازم للاستفهام عن عدد رعاية إياه؛ لأن الاستفهام يستلزم الجهل المستلزم لاستكثاره عادة، أو ادعاء؛ لأن القليل منه يكون معلوما عادة، والاستكثار يستلزم الاستبطاء عادة، أو ادعاء، كذا قاله السيد السند، والأقرب أن الاستفهام المذكور يستلزم عرض الكثرة، وهو يستلزم الاستبطاء.
(والتعجب (2) نحو ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ (3)). أريد التعجب، لأن
(1) دلالتها عليه من إطلاق اسم المسبب وإرادة السبب على سبيل المجاز المرسل؛ لأن الاستفهام عند عدد الدعاء مثلا سبب عن تكرير الدعوة، وتكريرها مسبب عن الاستبطاء في إجابتها.
(2)
دلالتها عليه من إطلاق اسم الملزوم وإرادة اللازم على سبيل المجاز المرسل؛ لأن سؤال العاقل في الآية عن حال نفسه مثلا يستلزم جهله به، وجهله به يستلزم التعجب منه.
(3)
النمل: 20.
الاستفهام عن سبب عدم رؤيته يستلزم قلة وقوعه والجهل لسببه؛ إذ لا يستفهم عادة عن سبب ما يكثر وقوعه، وقلة الوقوع والجهل بالسبب يستلزم التعجب، لأنه كيفية نفسانية تابعة لإدراك الأمور القليلة الوقوع المجهولة الأسباب، وفي هذا المثال احتمال الحقيقة، ومال إليه الكشاف (والتنبيه على الضلال نحو فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (1) أريد به المبالغة في ضلالهم فقد استعمل في الإخبار المؤكد عن الضلال ووجهه أن الاستفهام مبني على التجاهل المبني على أنه من كمال بعد هذا المذهب عن الاختيار لا يمكن العلم بأنه مذهبكم، فيفيد الحكم بضلالهم حكما مؤكدا في الغاية، وفيه مع ذلك الاحتراز عن مواجهتهم بالتصريح بالضلال، وأدخل في النصح، ولعل هذا التوجيه أقرب بما ذكره السيد السند من أن الاستفهام عن الشىء يستلزم تنبيه المخاطب عليه، وتوجيه ذهنه إليه، فإذ أسلك طريقا واضح الضلالة تزعمك كان ذلك غفلة منه عن الالتفات إلى ذلك الطريق، فإذا نبه عليه، ووجه ذهنه إليه ينبه لضلالة، فالاستفهام عن ذلك الطريق يستلزم توجيه ذهنه إليه المستلزم للتنبيه على كونه ضالا، وفي استعمال الاستفهام دون التصريح بكونه طريق ضلال مبالغتان إحداهما أن كونه ضالا أمر واضح يكفي في العلم به مجرد الالتفات إليه، والثانية إيهام أن المخاطب أعلم بذلك الطريق من المتكلم حيث يحتاج إلى السؤال عنه.
(والوعيد (2) كقولك لمن نسى الأدب: ألم أأدب فلانا إذا علم ذلك؟ ) وأنت تعلم أنه يعلم ذلك، أريد به أنه سيؤدب فوق تأديب فلان، لأن الاستفهام دل على أن إساءة أدبه صار سببا للشك في أن ما فعل بفلان كان تأديبا له، ويستلزم ذلك أن يفعل به فوق ذلك ليعتبر الغير، ولعل هذا أقرب مما ذكره السيد السند أن هذا الاستفهام يستلزم تنبيه المخاطب على جزاء إساءة الأدب الصادرة عن غيره، وهذا التنبيه يستلزم وعيده على إساءته الأدب، وفي العدول عن الاستفهام عن الإثبات بأن يقول: أدبت فلانا إلى الاستفهام عن النفي إيهام أن المخاطب اعتقد نفي التأديب، فلذلك أقدم على الإساءة، وفيه من المبالغة ما لا
(1) التكوير: 26.
(2)
دلالتها عليه من إطلاق اسم الملزوم وإرادة اللازم أيضا؛ لأن الاستفهام في المثال ينبه على المخاطب إلى جزاء إساءة الأدب، وهذا يستلزم وعيده لاتصافه بها. [بغية الإيضاح 3/ 44].
يخفى هذا، قلت: وفي اختياره على أأدبك؟ إحضار صورة تأديبه المهيب، وتذكير قدرته، لكن لا بد في ذلك من كون تأديبه الواقع هائلا، والمخاطب مثل من أدب أو دونه ليظهر جريان قدرته في حقه.
(والتقرير) أي: حمل المخاطب على الإقرار، فإن الاستفهام يحمل المخاطب على إفادة ما يعلم، والإفادة مستلزمة للإقرار، وقد جاء التقرير بمعنى التحقيق والتثبيت، وهو الاستعمال المشهور، لكن الشارح والسيد السند حكما بأن المراد هنا هو الأول، ولا قاطع لي فيه؛ إذ يصح أن يكون الاستفهام ليتقرر، ويتثبت الحكم المعلوم للمتكلم في ذهن المخاطب؛ لأن الاستفهام يستدعي توجهه إليه وإحضاره، والجواب به وليكن هذا على ذكر منك، وإن لم يحمل التقرير عليه في هذا المقام لرسوخك في التقليد (بإيلاء المقرر به الهمزة) أي: بشرط أن يلي الهمزة ما حمل المخاطب على الإقرار أو ما يثبت المخاطب فيه (كما مر) من التفصيل في حقيقة الاستفهام، وجعل الشيخ وتبعه كثيرون قوله تعالى: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (1) من أمثلة التقرير قال الشيخ: لم يقولوا ذلك، وهم يريدون أن يقر لهم بأن كسر الأصنام قد كان ولكن أن يقر بأنه منه كان وكيف؟ وقد أشاروا له إلى الفعل في قولهم: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا وقال عليه السلام:
بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا (2) ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب: فعلت، أو لم أفعل هذا، وكأنه لم يكتف في كونه لتقرير الفاعل بإيلائه الهمزة لما ذكر الشيخ أنه إذا كان التقديم لا للتخصيص يكون الإنكار لأصل الحكم لا لما ولى الهمزة، وفيه نظر.
منهم من زاد في القرينة: إن الغرض من الحمل على الإقرار كان مؤاخذته به، وهي لا يترتب على الإقرار بالفعل، بل بأنه كان منه، وليس بشىء لأن الحمل على الإقرار بالفعل فيما إذا كان وقوع شىء من الفاعل مسلما، ولم يكن معينا، فيعترض الفاعل بأنه كان الشىء الفلاني ينفع في غرض المؤآخذة، واعترض المصنف بأنه لا صارف للآية عن الحمل على حقيقة الاستفهام؛ إذ ليس في السياق ما يدل على أنهم كانوا عالمين بأن إبراهيم عليه السلام هو الذي كسر
(1) الأنبياء: 62.
(2)
الأنبياء: 63.
الأصنام! ! وأجيب عنه أولا بمنع انتفاء الدّالّ في السياق، إذ يكفي فيه حلفه بقوله: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (1) ثم لما رأوا كسر الأصنام قالوا: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (2) فالظاهر أنهم قد علموا ذلك من حلفه ومن ذمه الأصنام، وثانيا بعد تسليم انتفاء الدال في السياق بمنع استلزام انتفاء الدال في السياق انتفاء الدال مطلقا، وكفى دالّا على علمهم ما روى أنهم هربوا وتركوه في بيت الأصنام ليس معه أحد، لشتمه أصنامهم، فخافوا أن يصيبهم بلية عظيمة من سوء أدبه بالأصنام، فتركوه وحده ليخربه أصنامهم لسوء أدبه، فلما أبصروه يكسرهم أقبلوا إليه يسرعون ليكفوه.
هذا وقد أقبل الشارح المحقق والسيد السند إلى هذا الجواب، وفيه بحث؛ لأن الكفار اعتقدوا أصنامهم أجلّ من أن يكيدهم إبراهيم بنفسه، فلعل حملوا كيدة أصنامهم على دعوة ربه إلى أن يكيدهم، وجوزوا أن يكون الكسر من إليه إبراهيم؛ فيكون التقديم قصر قلب أو جوزوا أن يكون بإمداد جنود أرسلها إليه لإعانته، فيكون قصر إفراد. وأما ما روي فلعله لم يثبت عند المصنف، ولو كان ثابتا لما احتاجوا إلى إقرار، بل كان يتأتى لهم تأديبه بالشاهد المشاهد، وإنما خص اشتراط الإيلاء بالهمزة مع أن هل أيضا لتقرير ما يليه؛ لأنه لا يتفاوت المولى لها، بل يليها أبدا الجملة بتمامها، وإنما يتفاوت المولى للهمزة، فهل يستغني عن بيان الشرط بخلاف الهمزة، وكذا الأسماء الاستفهامية؟ لأنها بتقرير ما يسأل بها عنه لا للمولى يليها.
(والإنكار كذلك نحو أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ)(3) أي بإيلاء المنكر الهمزة، فقوله:«كذلك» إما تشبيه بالتقرير، أو تشبيه بما مر، وغير الهمزة إما لإنكار نفس مدلول كلمة الاستفهام، أو إنكار نفس الحكم إذا كانت هل، ولا أظنك إلا مستغنيا عن التفصيل في التمثيل.
والذي يجب التنبيه عليه أن (ماذا) و (من ذا) و (كيف ما) لإنكار نفس
(1) الأنبياء: 57.
(2)
الأنبياء: 59 - 60.
(3)
الأنعام: 40.
الفعل إلا أن المنكر أولا مدلولها، ويتوسل به إلى إنكار الفعل على أبلغ وجه، فإذا قلت: ماذا يضرك لو فعلت كذا؟ نفيت به الضرر مطلقا بنفي شىء يضر؛ لأنه لا يتصور الضرر بدون الضار، وكذا:«كيف يؤذي أباك» نفي لإيذاء الأب بنفي الكيفية مطلقا إذ لا يتصور تحقق الشىء بدون كيفية، فهو من قبيل ما يجيء من نحو أزيدا ضربت أم عمرا؟ ومما جعل لإنكار الفعل قوله:[أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي؟ ](1) قال الشارح: فإنه ذكر مانعا من القتل، فلو كان لإنكار الفاعل وأنه ليس ممن يتصور منه القتل على ما قد سبق إلى الوهم- لما احتاج إلى ذلك. ونقول: وكذلك لو كان لإنكار المفعول وأنه ليس ممن يتصور منه قتله وفيه نظر، لجواز أن يكون لإنكار الفاعل، وأنه ليس ممن يتصور منه القتل في هذه الحالة لعدم مقاومته مع المشرفي، أو لإنكار المفعول، وأنه ليس ممن يتصور منه قتله، وهو مع المشرفي، ومنه قوله تعالى: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً (2) فإن المنكر هو نفس اتخاذ الآلهة، فلذا ولي الفعل الهمزة، كذا في الشرح، وفيه نظر؛ لأنه حينئذ ينبغي تقديم الآلهة؛ إذ لا ينكر نفس الاتخاذ، ولا اتخاذ الأصنام؛ لأنه لا مانع في اتخاذها خطبا! ويمكن أن يجاب بأن اتخاذ الأصنام منكرا لا لمجرد الآلهة، بل اتخاذها أنبياء، أو أعوانا أو شفعاء أيضا منكر، فالمنكر الاتخاذ المتعلق بهما، فلذا ولى الاتخاذ المقيد بهما الهمزة، فإن قلت: قد جعل صاحب المفتاح أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ (3) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ (4) من قبيل إنكار الحكم دون الفاعل مع أنه ولى الفاعل الهمزة، فلم يتم أن الإنكار يتعلق بما ولى الهمزة، وعلل الشارح نفي كون الإنكار للفاعل بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتقد اشتراكه في ذلك، ولا انفراده به، فلا يكون التقديم فيه للتخصيص، بل لتقوية الحكم المنكر، وفيه بحث؛ لأن اعتقاد الاشتراك باطل، فلا وجه لإنكار التخصيص الذي هو لرد الاشتراك، فلا وجه لذكر الاشتراك في هذا التعليل، ويمكن دفعه بأن إنكار التخصيص بإنكار فاعلية المخاطب، فليس
(1) البيت لأمرئ القيس ص 62، وفي الإيضاح ص 169، 208 وفي المصباح ص 116. وفي مفتاح العلوم ص 461. وعجزه: ومسنونة زرق كأنياب أغوال.
(2)
الأنعام: 74.
(3)
يونس: 99.
(4)
يونس: 42.
إنكار التخصيص مثبتا للاشتراك، وهذا كلام وقع في البين، فلنرجع إلى ما كنا فيه، قلت: إذا كان التقديم لتقوية الحكم لا للتخصيص كان ما يلي الهمزة الحكم كله لا الفاعل، والعلاقة بين الاستفهام والإنكار بمعنى نفي اللياقة أن ما لا ينبغي مما لا يصدق العاقل بوقوعه في الماضي، أو المستقبل، ويشك فيه، والشك يستدعي الاستفهام، فأفيد بالاستفهام أنه مما لا ينبغي، وكذا بين الاستفهام والإنكار بمعنى التكذيب أن الكاذب، وإن ادعاه أحد لا ينبغي أن يصدق به غاية الأمر الشك فيه، فأفاد المستفهم أن غاية الأمر فيه الشك دون الدعوى، وقال السيد السند: إنكار الشىء بمعنى كراهته والنفرة عن وقوعه في أحد الأزمنة، وادعاء أنه مما لا ينبغي أن يقع، يستلزم عدم توجه الذهن إليه المستدعي للجهل به المفضي إلى الاستفهام عنه، أو يقول: الاستفهام عنه يستلزم الجهل به المستلزم لعدم توجه الذهن إليه المناسب للكراهة والنفرة عنه، وادعاء أنه مما لا ينبغي أن يكون واقعا، وقس على هذا حال الإنكار، بمعنى التكذيب هذا.
(ومنه) لم يقل نحو أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ (1) رد الوهم أنه ليس منه حيث قيل: إنه للتقرير وبين مراد القائل تقريرا للدفع (أي: الله كاف) لأن إنكار النفي نفي، ونفي النفي مستلزم للأثبت (وهذا) أي: كون التقرير مستلزما للإنكار (مراد من قال: إن الهمزة فيه للتقرير بما دخله النفي) لا للتقرير بالانتفاء، وكأنه أسقط قوله: أي: للتقرير من المتن سهوا من الناسخ، قال الشارح: ولما كان مقتضى قوله: وهو الله كاف (لا بالنفي) وهو أليس الله بكاف عبده، فإن شئت جعلت الهمزة الداخلة على النفي للتقرير، وإن شئت للإنكار، وكلاهما حسن، ولا سبيل في شىء منهما إلى الإنكار، كذا ذكره الشارح، ولا يخفى عليك أنه كما أن إنكار النفي إثبات بإنكار الإثبات نفي، فيصح أن يجعل الإنكار كله داخلا في التقرير، فلا معنى لمن جعل التقرير مقابلا للإنكار، وأن يجعل الإنكار كلها تحت التقرير، ويمكن أن يدفع بأن التقرير لا يتصور إلا في بعض صور الإنكار، وهو ما يعترف فيه المخاطب بالحق من نقيض المنكر، فيحمل على الإقرار بما يعرف وتعرف به، وأما في صورة لا يعرف بالحق
(1) الزمر: 36.
فهو للإنكار الصرف، ولهذا قوبل التقرير بالإنكار، وأن يتحقق في بعض صور الإنكار، وفي قوله: هذا مراد من قال: الهمزة فيه للتقرير بما دخله النفي أنه لم يقل أحد بذلك، بل قيل الهمزة فيه للتقرير، وفسره المصنف بالتقرير بما دخله النفي، لا بالنفي، يظهر ذلك من الإيضاح، حيث قال بعد قوله للتقرير: أي للتقرير بما دخله النفي، لا للتقرير بالانتفاء، وكأنه أسقط قوله: أي: للتقرير من المتن سهوا من الناسخ، قال الشارح: ولما كان مقتضى قوله والإنكار كذلك أن لا يكون المنكر إلا يلي الهمزة، نبه على صورة أخرى (بقوله: ولإنكار الفعل صورة أخرى) يعني: لا يلي فيها الفعل الهمزة، ونحن نقول: ينطوي تحت ذلك التنبيه حل ما أشكل على السكاكي، ونكلف لتصحيحه، سيظهر لك في أثناء ما نحن بصدده، وتقديم المسند للقصر، أي: صورة أخرى مختصة بإنكار الفعل، نص عليه في الإيضاح، وكأنه أراد الاختصاص بالنظر إلى إنكار الفاعل وغيره؛ إذ جريان صورة أخرى في التقرير أيضا ظاهر، فإنه إذا اعتقد المخاطب الفعل في بعض المفاعيل، واستفهم عنه لتقرير الفعل لكان متجها، فيقول العاصي: يغفر الله، فيكون إقرار المخاطب به إقرارا بالفعل، بل في حقيقة الاستفهام أيضا (وهي نحو: أزيدا ضربت أم عمرا؟ ) مقولا (لمن يردد الضرب بينهما من غير أن تعتقد) على صيغة الخطاب دون الغيبة، وإلا لكان لغوا؛ لأنه لازم الترديد بالهمزة، وأم، ولفات شرط اعتقاد المتكلم الحصر أيضا، مع أنه لا بد منه؛ إذ لا يلزم من إنكار المفعولية إنكار الفعل بدونه (تعلقه بغيرهما) وكذا الفاعل أيضا نحو أزيد ضربك أم عمرو؟ وغيرهما نحو: في الليل كان هذا أم في النهار، والمدار على انحصار الفعل في الملابس المنكر سواء كان واحدا، أو متعددا مرددا.
قال في الإيضاح (1): وكذا قوله تعالى: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ (2)، إذ من المعلوم أن المعنى على إنكار أن يكون قد كان من الله إذن فيما قالوه، من غير أن يكون هذا الإذن قد كان من غير الله، فأضافوه إلى الله تعالى، إلا أن اللفظ أخرج مخرجه إذا كان الأمر كذلك، ليكون أشد لنفي ذلك وإبطاله، فإنه إذا نفى
(1) الإيضاح ص 283.
(2)
يونس: 59.
الفعل عما جعل فاعلا له في الكلام، ولا فاعل له غيره لزم نفيه من أصله هذا، وفيه رد على السكاكي؛ حيث جعل الكلام لنفي أصل الفعل، وجعل ما يلي الهمزة مجموع الكلام لا الفاعل بحمل التقديم على التقوى دون التخصيص، ووجه الرد أن إنكار فاعلية الفاعل المختص يستلزم إنكار أصل الفعل إلا أنه صور الرد في المتن فيما لا يحتمل التقوى، وبهذا عرفت وجه التعريض الموعود.
(والإنكار إما للتوبيخ، أي: ما كان ينبغي أن يكون) ذلك الأمر الذي قد كان (نحو: أعصيت ربك، أو لا ينبغي أن يكون) أي: أن يحدث ويتحقق في المستقبل، كذا في الشرح، ولا وجه للتخصيص؛ لأن للتوبيخ على الحال مجالا (نحو أتعصى ربك، أو للتكذيب) في الماضي، وقد نبه عليه بقوله (أي: لم يكن نحو أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ (1) أو في المستقبل، كذا في الشرح، والأظهر أن قوله (أو لا يكون) أعم من الحال والمستقبل وإن كان (نحو أَنُلْزِمُكُمُوها (2) للمستقبل والتوبيخ، يحتمل أن يكون مختصا بزمان من الأزمنة نحو: أعاص أنت ربك، أي: لا ينبغي في زمان ما، وكذا التكذيب نحو: أربنا متعدد، أي: لم يكن ولا يكون.
(والتهكم: نحو: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا)(3) فإن فيه تهكما به أو بالصلاة.
(والتحقير: نحو: من هذا) ولهذا جىء بهذا.
(والتهويل: كقراءة ابن عباس رضي الله عنهما ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون (4) بلفظ الاستفهام ورفع فرعون) والغرض من التهويل إحضار شدة العذاب الذي نجاهم منه تعظيما لنعمة النجاة وإيجابا لمزيد الشكر عليها (ولهذا) اي: للتهويل بالاستفهام (قال: إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ)(5) بترتبه للتهويل، وفيه تأييد لهذه القراءة.
(1) الإسراء: 40.
(2)
هود: 28.
(3)
هود: 87.
(4)
الدخان: 30 - 31.
(5)
الدخان: 31.
(والاستبعاد: نحو: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى)(1) كما يدل عليه قوله: (وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه) وبعد ما سمعت نبذا من علاقات المجاز للاستفهام، تمكنت من تخيل وجوه لم يسمع، فلذا تركنا المرء نفسه، فكلمة الاستفهام إذا امتنع حملها على الحقيقة، فافهم منها ما يناسب المقام مما سمعت إذ تؤديك إليه الفطرة السليمة عن السقام، وكذا إذا لم يمتنع حملها على الحقيقة، لكن دلتك القرينة على ما يتوسل إليه بالحقيقة، فتمسك بالكناية على حسب الدراية، فإن ساحة الكفر هنا رحيبة، والفطرة السليمة فيما يستحسنه مصيبة، ولست مقتصرا على السمع والطاعة، إذ للعقل فيه كمال البراعة.
(ومنها: الأمر) أي: من أنواع الإنشاء، فالأمر عبارة عن كلام تام دال على طلب الفعل على سبيل الاستعلاء وضعا، وأورد عليه لا تضرب، فإنه يطلب الكف عن الضرب؛ إذ عدم الضرب لا يطلب؛ لأنه غير مقدور، وزيد لدفعه تقييد الفعل بغير الكف، وأورد بعد كف عن الكف، ولا يرد، لأنه لم يوضع كف للكف عن المشتق منه، بل للكف مطلقا، ولا يخفى أن تقييد الفعل بالمشتق يغني عن تقييده بغير الكف عن المشتق منه، وأن تقييد طلب الفعل بغير لا، بأن يقال: الأمر طلب فعل بغير لا على جهة الاستعلاء، أبعد عن التكلف، وأدفع للشغب، وربما يجاب عن الانتقاض بالنهي بمنع كونه لطلب الفعل؛ لأنه لطلب معنى حرفي ملحوظ بتبعية الغير، ولا يقال له: الفعل، وإن اتحد ذاته بالفعل، ألا ترى أن الابتداء فعل، ولا يقال: وضع من للفعل.
قال الشارح: لما اختلف في أن صيغة الأمر لماذا وضعت؟ فقيل:
للوجوب، وقيل: للندب، وقيل: لهما، وقيل: للقدر المشترك بينهما، وقيل:
بالتوقف، وقيل: لكل منهما للإباحة، وقيل: للإذن المشترك بين الثلاثة والأكثر على أنها حقيقة في الوجوب، ولم يكن شىء من أدلتهم مفيدة للقطع، أشار إلى ما هو أظهر لقوة أماراته، فقال:(والأظهر) وما جعله الأظهر هو الوجوب عند السيد السند، لأن الاستعلاء مختص بالوجوب، والقدر المشترك بين الوجوب
(1) الدخان: 13.
والندب عند الشارح، ونحن نقول: لما اختلف في رويد ونظائره، فقيل:
موضوعة للفظ الأمر، وقيل: لمدلوله، لكن وضعا ثانيا، واشتهر أن لام الأمر اللام المطلوب بها الفعل، ولم يكن وضع رويد للفظ الأمر ظاهرا؛ إذ المتبادر خلافه. قال: والأظهر (أن صيغته من المعبر به باللام نحو: ليحضر زيد) ونحو قوله تعالى: (فَلْيَفْرَحُوا)(1) على صيغة المخاطب (وغيرها نحو أكرم عمرا ورويد بكرا، موضوعة لطلب الفعل استعلاء) أي: طلب استعلاء، في الصحاح: استعلى الرجل، أي: علا واستعلاه، أي: علاه، فظاهر العبارة اشتراط العلو، كما هو مذهب جمهور المعتزلة، لا طلب العلو، أو عد الطالب نفسه عاليا، كما هو مذهب أبي الحسين، لكنهم قصدوا بالاستعلاء طلب العلو، أو العد عاليا حتى قال الشارح في هذا المقام: سواء كان عاليا في نفسه أو لا، وفسره بكونه على طريق طلب العلو، وعد نفسه عاليا، وكان صيغة الاستعلاء بهذا المعنى من مصنوعات المصنفين.
قال الشارح المحقق: وفي هذا إشارة إلى أن أقسام صيغة الأمر ثلاثة:
الأول: المعبر به باللام، ويختص بالفاعل غير المخاطب، والثاني: ما يصح أن يطلب بها الفعل من الفاعل المخاطب بحذف حرف المضارعة، والثالث: اسم دل على طلب الفعل، وهو عند النحاة من أسماء الأفعال، وإلا ولأن لغلبة استعمالهما في حقيقة الأمر، أعني: طلب الفعل على سبيل الاستعلاء، سماهما النحويون أمرا، سواء استعملا في حقيقة الأمر، أو في غيرها حتى أن لفظ «اغفر» في: اللهم اغفر لي، أمر عندهم، وأما الثالث: فلما كان اسما لم يسموه أمرا تمييزا بين البابين، وفيما ذكره أبحاث أحدها: أن اختصاص المعبر به باللام بالفاعل غير المخاطب منه بسند قوله: (فَلْيَفْرَحُوا) إلا أن يقال: لم يقيد بالشاذ وبصيغ المجهول المخاطب، إلا أن يقال: لعله يدعى أنه أمر الغائب بصرف المخاطب، وفيه أن الظاهر أنه أمر المخاطب بأن يكون بحيث يقع عليه الضرب، فالأولى أن يجعل الجميع تحت قوله نحو: ليحضر زيد، وثانيها: أن النحاة لم يسم المعبر به باللام أمرا؛ بل مضارعا مجزوما، والأمر عندهم ليس إلا ما حذف منه
(1) يونس: 58.
حرف المضارعة.
قال الرضى: النحاة يسمون الأمر كلما يصح أن يطلب به الفعل من الفاعل المخاطب بحذف حرف المضارعة سواء طلب على وجه الاستعلاء، وهو المسمى بالأمر عند الأصوليين أو لمن يطلب كذلك، فالصواب سماها الصرفيون على طبق ما في المفتاح، وثالثها: أن تسمية المستعمل في غير الأمر أمرا لا يخص النحاة، بل يعم جميع أئمة اللغة، يدل عليه ما سيذكره من كلام المفتاح، ويشعر به قول المصنف: وقد يستعمل بغيره فتأمل (لتبادر الفهم عند سماعها إلى ذلك) وهل التبادر عند سماع المعبر به باللام من الصيغة، أو من اللام؟ فيه تأمل.
قال صاحب المفتاح: واتفاق أئمة اللغة على إضافة نحو: قم، وليقم إلى الأمر بقولهم: صيغة الأمر، ومثال الأمر، ولام الأمر دون أن يقولوا: صيغة الإباحة أو لام الإباحة مثلا يمد ذلك، وإنما جعله ممدا لا دليلا لاحتمال أن تكون الإضافة لنفس التبادر، لا لكونها حقيقية فيه، لكن الظاهر الإضافة إلى الموضوع له، ولم يلتفت إليه المصنف؛ لضعفه عنده، حيث قال في الإيضاح: وفيه نظر لا يخفى على المتأمل، والنظر إما ما ذكرنا، وفيه أنه لا يخرجه عن الإمداد، وإنما يسقط عن درجة كونه دليلا، وأما ما ذكره الشارح من منع كون الإضافة إلى الأمر بمعنى طلب الفعل استعلاء؛ بل بمعنى كلى يصدق على نحو: قم، وليقم.
وإضافة الصيغة من إضافة العام إلى الخاص، وإضافة اللام من إضافة الداخل إلى المدخول بدليل استعمالهم ذلك في مقابلة صيغة الماضي والمضارع، وفيه أيضا ما مر على أن ما رأينا هو استعمال الماضي والمضارع في مقابلة صيغة الأمر (وقد يستعمل لغيره) أي: لغير طلب الفعل استعلاء، لعلاقة بينه وبين معنى الأمر بحسب القرائن، فإن قامت قرينة على منع إرادة معنى الأمر فمجاز، وإلا فكناية، ولا يخفى عليك أن مباحث الأمر كالاستفهام ليس من فن المعاني، وليس منه إلا نكات العدول من الحقيقة إلى التجوز بالأمر، ولا أثر لها فيما ذكره، وذلك الغير إما غير الطلب، وإما الطلب، لا مع الاستعلاء، فإلى الأول أشار بقوله:
(كالإباحة: نحو: جالس الحسن أو ابن سيرين) وقد اشتهر هذا المثال في الإباحة وسره غير ظاهر؛ لأنه بالندب أشبه؛ إذ لا يتوهم منع مجالستهما حتى يحتاج إلى الإباحة، والعلاقة بين الإيجاب والإباحة أن الإيجاب لا ينفك عن الإباحة، والصحة، وفي التعبير عنها بالإيجاب كمال المبالغة، وترك الندب ربما يشعر بأن المصنف جعله داخلا فيما وضع له صيغة الأمر، وجعله من قبيل طلب الفعل استعلاء.
(والتهديد) أي: التخويف، وفي الصحاح: مع دعوة، والإنذار: الإبلاغ مع التخويف، والعلاقة بين الإيجاب والتهديد أن إيجاب ما يوجب العقوبة مبالغة في وقوع العقوبة، ولا يلتفت إلى ما توهمه عبارة المفتاح أن الإباحة والتهديد فيهما الطلب (نحو: اعملوا ما شئتم والتعجيز نحو فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (1) إذ ليس المط إتيانهم بصورة لكونه محالا كذا في الشرح، ولأنه لا ينفع الإتيان في دفع الريب في المط بالأمر، بل نسبة العجز إليهم، والمناسبة بين الإيجاب والتعجيز أن الإيجاب يوجب السعي في المأمور، وبالسعي فيه يظهر العجز.
والتسخير نحو كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (2) ذليلين.
(والإهانة: نحو كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً)(3) ويعرف التسخير من الإهانة، بأنه في التسخير لا ينفك الأمر عن الانقياد، وفي الإهانة لا يتحقق المأمور.
(والتسوية: نحو فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا)(4) والفرق بينه وبين الإباحة أنه في مقام توهم ترجيح المخاطب أحدهما، والثاني في مقام توهم المنع عن الفعل، والعلاقة بين الإيجاب والتسوية أن إيجاد أحد الأمرين يوجب تسويتهما في الإيجاب، فأريد به التسوية والتمني نحو:
ألا أيّها الليل الطّويل ألا انجلي
وأخر:
(1) البقرة: 23.
(2)
البقرة: 65.
(3)
الإسراء: 50.
(4)
الطور: 16.
بصبح وما الإصباح منك بأمثل (1)
أنث الخطاب لتأويل الليل بالليلة. أو الليلاة، فإن الثلاثة بمعنى على ما في القاموس، أو بتأويله بالليلة؛ لأن المراد بالجنس الواحدة في الصحاح: ليل وليلة كتمر وتمرة، وجمعه على ليالي بزيادة الياء على خلاف القياس، ونظيره أهل وأهالي، وقيل أصله ليلاة؛ لأن تصغيره لييلة، هذا وحينئذ الإشكال في تذكير الطويل، ولا يبعد أن يقال: الياء رد لما هو أصل؛ إذ الضرورة ترد الكلمة إلى أصلها، ولا يصح أن يكون إشباع الكثرة كياء أميل؛ لأنه لا تكتب الياء الحاصلة من الإشباع، وإنما حمل على التمني لامتناع حقيقة الأمر؛ لأن الانجلاء ليس مقدورا له، ولا يبعد أن يجعل من ظرافة الشعراء بجعل الليل بمنزلة إنسان متعصب يجري على البخل بالنفع للشاعر، فلا ينجلي لاعتقاده أن الانجلاء أنفع له، فيقول له: انجلى بصبح، فإنك أخطأت، وليس الإصباح، أي: الصبح منك بأمثل، أي: أفضل فلا يتجاوز عادتك لاعتقادك الخطأ، ووجه عدم فضل الصباح، أنه لا تفاوت في شدة همومه بين الظلم والمضيء، أو أن عينه يرى النهار كالليل مظلما؛ لازدحام الهموم والاشارة إلى القسم الثاني من غير الموضوع له.
إما من التمني إن كان الطلب المعتبر في هموم الأمر أعم من التمني، ويكون المميز قيد الاستعلاء، وأما من الدعاء إن كان الطلب مقيدا بما يستدعي الإمكان، واختار الشارح الثاني، ولا يتم إلا بدعوى أن المتبادر منه هذا الطلب. قال الشارح: إنما حمل على التمني دون الترجي؛ لأن الشاعر لاستطالته تلك الليلة لا طماعة له في الانجلاء، ولك أن تقول: لشدة همومه واضطرابه سمى انجلاء في إتيانه، وذلك الانجلاء يستحيل.
(والدعاء: نحو: رب اغفر لي) فإنه طلب للفعل على سبيل التضرع.
(والالتماس: كقولك لمن يساويك رتبة) لا حاجة إلى هذا القيد، وكأنه أراد مثالا متفقا عليه (افعل بدون الاستعلاء) إذ مع الاستعلاء أمر، ولا بد
(1) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 117، وجاء شطره في التلخيص ص 44، والإيضاح ص 146، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص 117.
من قيد آخر يميزه عن الدعاء هذا. قال الشارح: وقد تفارق الالتماس فيما يكون مع نوع من التضرع لا إلى حد الدعاء. قلت: فينبغي أن يقيد تعريف الدعاء بمزيد التضرع.
(ثم الأمر، قال السكاكي (1): حقه الفور) جمع السكاكي الأمر والنهي في هذا الحكم (لأنه الظاهر من الطلب) فيكون كذلك الدعاء والالتماس، فالتعليل لإثبات الدعوى، وتعميمه عبارة السكاكي؛ لأنه الأظهر غيره إلى الظاهر ليكون نظيره خاليا عن شائبة تسليم الظهور، ونبه السكاكي على ذلك الظهور بالنظر في حال أخويهما الاستفهام والنداء، فإنه لا رتبة في الفور فيهما، ومما يوضح كونه للفور أن الطالب لا يرضى بفوت المط إلا لضرورة، وأن الانتظار مهروب عنه (ولتبادر الفهم عند الأمر بشىء بعد الأمر بخلافه إلى تغيير الأمر الأول دون الجمع وإرادة التراخي) وهذا على إطلاقه، لا يصح لأنه إذا كان بالعطف يتبادر الفهم إلى الجمع والتراخي، كأن يقال: قم واقعد، أوثم اقعد أو فاقعد، ويحتمل أن يكون داخلا في قوله (وفيه نظر) أي: في قوله: حقه الفور، والنظر فيه راجع إلى النظر في دليله، أو في كل من دليله نظر لكون الظهور من الطلب بلا قرينة ممنوعا، وكذا التبادر بلا قرينة، بل الحال متفاوتة بالنسبة إلى المقامات، وللسكاكي دليل آخر لم يذكره، وكان حقه أن يذكر ليتم نظره، وهو استحسان العقلاء تأديب الخادم إذا أخر الامتثال، ولك أن تقول: ولاعتذار العقلاء عند تأخير الامتثال.
(ومنها) أي: من أنواع الطلب (النهي) وهو طلب الكف عن الفعل استعلاء، ولعلك تتفطن بما يتعلق به توجها ودفعا إن كان الأمر بيدك (وله حرف واحد في) الأخصر (وله لا الجازمة وحدها) والأولى (فهو) صيغة واحدة (نحو قولك: لا تفعل) ليعلم أن ليس له صيغة أخرى كما أنه ليس له حرف آخر ولعله احترز بتقييد الجزم بقوله: في نحو قولك: لا تفعل، عن المذكر، وصيغة جمعي المؤنث، فإنها لا تجزم فيهن، لكونها مبنيات، ونبه بتقديم الظرف في قوله:
وله حرف واحد على حصر لا الجازمة في النهي.
(1) المفتاح ص 171.
(وهو كالأمر) لو اكتفى به لأفاد معناه الحقيقي والمجازي برمته بلا خفاء، ولم يحتج إلى تطويل قوله:(في الاستعلاء، وقد يستعمل في غير طلب الكف) كما هو مذهب البعض.
(أو الترك) كما هو مذهب البعض فإنهم اختلفوا في أن مقتضى النهي كف النفس عن الفعل بالاشتغال بالضد أو ترك الفعل، وهو نفس أن لا تفعل. قال الشارح المحقق: والمذهبان متقاربان، يعني لا ثمرة للخلاف، ويدفعه ما ذكره السيد السند: أن الخلاف مبني على الاختلاف في كون عدم الفعل مقدورا، ولا وجه للاختصاص على قوله.
(كالتهديد: كقولك لعبد لا يمتثل أمرك: لا تمتثل أمري) ومثال التسوية من النهي قد سبق، وينبغي أن يبين أن حقه الفور؛ لئلا يتوهم أنه كالأمر في منع الفور فيه بمقتضى الوضع، وقال السكاكي: إن كان الطلب بالأمر والنهي راجعا إلى قطع الواقع كقولك للساكن تحرك، والمتحرك: لا تتحرك، فالأشبه المرة، وإن كان راجعا إلى إيصال الواقع كقولك في الأمر المتحرك: تحرك، وفي النهي له: لا تسكن، فالأشبه الاستمرار وقد يستعظم الأمر والنهي لطلب الدوام والثبات على ما كان المخاطب عليه من الفعل والترك نحو: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا (1) أي دم وأثبت على ذلك، كذا في الشرح، والأولى على ما كان المأمور عليه ليشمل نحو: ليهدنا الله الصراط المستقيم، وهل هذا المعنى سوى ما ذكر السكاكي من الاستمرار حتى تذكر معه، كما فعله الشارح في خفاء.
(وهذه الأربعة) يعني: التمني والاستفهام والأمر والنهي (يجوز تقدير الشرط بعدها) مع أداته، ولا بد من ذكر هذا القيد؛ لأن تقدير الشرط قد ينفك عن تقدير أداته نحو (الناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا) ولو قال: تقدير حرف الشرط لكان مستلزما تقدير الشرط؛ إذ لا يكون تقدير حرف الشرط بدون تقدير الشرط، وهذا الشرط ينبغي أن يقدر بأسره، ولا يجوز التقدير مع ذكر جزء، فلا يقال: أكرمني إياي أكرمك، يذكر مفعول الشرط والشرط المقدر على
(1) إبراهيم: 42.
طبق هذه الأربعة، فكل قيد يراد في الشرط يذكر في الطلب، فيقال عند إرادة إن تكرمني قائما أكرمني قائما، وعند إرادة إن تكرمني في الدار أكرمني في الدار وهكذا، والمراد جواز تقدير الشرط مطلقا لأن هذه الأربعة قرائن بخلاف الحذف في غيرها، فإنه لا يصح إطلاق الحذف فيه؛ إذ قد توجد قرينة وقد لا توجد، فالضابط فيه وجود القرينة، والضابط في هذه الأربعة وجود أحدها؛ لا لأنه يستغني الحذف معها عن القرينة، بل لعدم انفكاكها عن القرينة، فليس مقابلة قوله: وفي غيرها لقرينة، مع قوله وهذه الأربعة
…
إلخ. باعتبار وجود القرينة وعدمها كما يوهمه ظاهر عبارته، وتحقيق القرينة مع الأربعة بما قيل من أن الطلب لكونه فعلا اختياريا لا بد له من حامل عليه، وذلك الحامل هو إما المطلوب المقصود لذاته، وإما غيره إذا كان المطلوب مقصودا لغيره وهو الأكثر؛ لأن أكثر الاشياء يطلب لغيره غالبا، فإذا سمع الطلب يتوقع بيان مسببه بحسب الخارج لمطلوبه المذكور حامل على هذا الطلب بتصوره، وهذا هو العلة الغائبة التي قالوا في شأنها: أول الفكر آخر العمل وقد نظمه نظما حسنا من قال:
نعم ما قال زمرة الدّول
…
أوّل الفكر آخر العمل
فإذا جاء بعد الأربعة ما يصلح سببا للطلب، لتفرعه على المطلوب بجعل مسببا له، وهذا معنى الشرط والجزاء، فيقدر الشرط إظهارا للسببية المقصودة، ولما قيل من أن كل كلام لا بد فيه من حامل للمتكلم عليه في قاعدة التكلم، فإن التكلم في قاعدة البيان في الكلام الخبري، لإفادة مضمون، وفي الطلبي للطلب المتعلق بما هو مقصود لذاته قليلا وبما هو مقصود لغيره غالبا، فإذا ذكر ذلك الغير بعد ما فيه معنى الطلب فهم إرادة ترتبه على المطلوب، وهذا معنى الشرط والجزاء، ولا يخفى تميز هذا الوجه عن الأول، لأن الأول مبني على أن الطلب فعل اختياري لا بد له من حامل عليه والثاني أن الكلام في عرف أرباب اللسان لا بد له من حامل عليه، سواء كان ما يفيده طلبا أو غيره، والسيد السند ظن أنهما وجه واحد وخطأ الشارح المحقق حيث جعلهما وجهين، فجواز تقدير الشرط بشرطين التفرع المذكور وقصد السببية وكأنه دل عليه بالأمثلة، ولا يذهب عليك أن حذف الشرط من مباحث الإيجاز، وليس له تعلق بهذا المقام، والبحث عنه هنا من فضول الكلام (كقولك: ليت لي مالا أنفقه أي إن أرزقه) الأولى أن
يكون لي؛ لأنه مفهوم من الطلب (وأين بيتك، أزرك إن تعرفينه؟ ) الأظهر، أي: أن أعرف؛ لأن السبب هو المعرفة سواء كان بتعريف المخاطب، أو بدونه لا يقال، وهذا التقدير لا يعم كل استفهام، فإنه لا يجري في قولك: أتكرمني أكرمك فإنه لا يصح أن التقدير إن تعرفني، أو أن أعرف إكرامك أكرمك، بل إن تكرمني أكرمك؛ لأنا نقول السببية بين ما بعد الطلب والمطلوب، والمطلوب في الاستفهام الفهم فلو لم يتفرع المذكور بعد الاستفهام على الفهم لا يقدر الشرط وإن تفرع على المفهوم (وأكرمني أكرمك) أي: تكرمني (ولا تشتمني يكن خيرا لك) أي: إن لا تشتم.
(وأما العرض، كقولك: ألا تنزل عندنا تصب خيرا فمولد من الاستفهام)(1) يريد أنه لا حاجة إلى عد العرض بعد عد الاستفهام لدخوله تحت الاستفهام، هكذا يستفاد من كلام الشارح المحقق والسيد السند، وفيه أن المراد بالاستفهام ما يكون على حقيقته؛ إذ لا يقدر الشرط بعد غير العرض من المولدات، فلا يغني ذكر الاستفهام عن ذكره، فالأولى أن يقال: المراد أن العرض في التقدير محمول على أصله، وأن لا يشاركه في اقتضاء الشرط، وبيان المفتاح ملائم لهذا المعنى جدا، حيث قال: هذه الأبواب الأربعة تشترك في الإعانة على تقدير الشرط بعدها، وأما العرض فليس بابا على حدة، وإنما هو من مولدات الاستفهام، نعم يتجه أن العرض أيضا تعين على تقدير الشرط؛ لأنه لا بد لعرض النزول من فائدة، فإذا ذكر ما يصلح فائدة للنزول يجعل فائدة مترتبة عليه، فلا حاجة إلى جعله محمولا على أصله، ولما كان المقصود النزول لا النفي، فالمذكور في الحقيقة الإثبات، فلذا يقدر الشرط مثبتا، مع أنه يجب التقدير بقرينة الأمور الأربعة من جنس تلك الأمور الأربعة، إن مثبتا فمثبت، وإن منفيا فمنفي، فلا يجوز: لا تكفر تدخل النار عند الجمهور خلافا للكسائي، ونحن نظن أن لا خلاف بينه وبين الجمهور؛ إذ هم لا يجوزون تقدير المخالف للأربعة بقرينتها لاشتمال النفي على الإثبات، وهو يجوز مع القرينة، وقيل تقدير المثبت بعد النهي أقرب من تقدير المنفي بعد الأمر، لاشتمال النفي على الإثبات
(1) فهو مثله في كونه قرينة دالة على شرط والترجي في ذلك أيضا مثل التمني، والدعاء ونحوه مثل الأمر والنهي.
دون العكس، فأسلم تدخل النار، أبعد من: لا تكفر تدخل النار، وفيه أن الأمر بالشىء يتضمن النهي عن ضده، فالأمر بالشىء أيضا يشتمل على ذكر عدمه بهذا الاعتبار.
(ويجوز في غيرها) أي: تقدير الشرط في غير المواضع الخمسة (لقرينة) قلت وكذا معها لقرينة لو لم يقدر من جنس المذكور من الخمسة (نحو: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ (1) أي: إن أرادوا وأولياء بحق) الأظهر أن الشرط المقدر إن أرادوا أولياء؛ لأن قوله: هُوَ الْوَلِيُّ للحصر وتنزيل غيره منزلة العدم لا ينحصر الولي بحق، والظاهر أنه قصر قلب، بدليل أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ، أي: متجاوزين الله، فإنه ظاهر في ترك الله، واتخاذ غيره وليا، لكن الشارح جعله قصر إفراد، وقد يمنع وجود القرينة في المثال المذكور لصحة تفرع، فالله هو الولي على ما قبله؛ لأن الاستفهام المستفاد من قوله: أم اتخذوا للإنكار فيؤول إلى النفي أي: لا يليق أن يتخذوا من دون الله وليّا، فالله هو الولي، وأجاب عنه الشارح المحقق بأنه ليس كل ما فيه معنى الشىء حكمه حكم ذلك الشىء؛ إذ لا يخفى على ذي طبع حسن قولنا: لا تضرب زيدا فهو أخوك، بخلاف أنضرب زيد فهو أخوك؟ استفهام إنكار، وإنما يحسن بالواو الحالية، والجواب بعيد عن التحصيل، أما أولا: فلأن ما ذكر في بيان أن ليس كل ما فيه معنى الشىء حكمه حكم ذلك الشىء مما لا يفيده؛ لأن معنى أتضرب زيدا؟
ليس معنى النهي، بل نفي اللياقة، فالشرط المقدر بعده أن لا يليق أن تضرب زيدا فهو أخوك بخلاف النهي، فإن الشرط المقدر بعده: إن لا تضرب زيدا فهو أخوك، ولا خفاء في أن نفي الضرب يصير سببا لبقاء الأخوة دون نفي لياقة الضرب، فإنه يجامع الضرب، ولا يبقى معه الأخوة، وإما ثانيا فلأن النفي المذكور غير حق؛ لأن ما فيه معنى الشىء حكمه الذي يقتضيه المعنى حكم ذلك الشىء بلا شبهة، وأما ثالثا: فلأن ورود منع القرينة لا يتوقف على أن يكون حكم ما فيه معنى الشىء حكم ذلك الشىء لا محالة، بل يكفيه جواز أن يكون كذلك، وهاهنا بحث وهو أن ما مر أنه يجوز تقدير الشرط بعد هذه الأربعة إن أريد به جواز تقدير الشرط بعدها باعتبار معانيها الحقيقة، يدخل الدعاء والالتماس في
(1) الشورى: 9.