الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فزيادة مطابقة كلام على مطابقة كلام آخر مما لا خفاء في تحققها، لكن الظاهر أن المراد بقولهم: البلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال مطابقته لكل ما هو مقتضى الحال، لأنه المتبادر اللائق بالاعتبار، وإن لم يكتف، وشرط في البلاغة مطابقة الكلام لمقتضيات الحال كلها، فمزية المطابقة على مطابقته بأن يكون أحوال كلام أكثر من أحوال كلام آخر.
[فمقتضى الحال]
(فمقتضى الحال هو الاعتبار المناسب) متفرع على قوله: وارتفاع شأن الكلام، والمقصود منه التنبيه على أن مقتضى الحال معناه مناسب الحال لا موجبه، الذي يمتنع أن ينفك عنه، كما يقتضيه المقتضي، وإنما إطلاق المقتضى للتنبيه على أن المناسب للمقام في نظر البليغ كالمقتضى الذي يمتنع انفكاكه، فلا يجد بدّا منه؛ لكن التفرع خفى فبينه بأن ارتفاع شأن الكلام في الحسن الذاتي الداخل في البلاغة إنما يكون بالاعتبار المناسب دون غيره، لو كان الاعتبار المناسب مقتضى الحال، إذ لو وجد اعتبار مناسب غير مقتضى الحال لكان ارتفاع شأن الكلام به في الحسن الخارج عن حد البلاغة، ولو وجد مقتضى حال غير الاعتبار المناسب لوجد ارتفاع لغير الارتفاع المناسب، وبينه الشارح المحقق بأنه بملاحظة مقدمة معلومة وهو أنه لا ارتفاع إلا بالمطابقة لمقتضى الحال، فإن هذه المقدمة المعلومة مع هذه المقدمة المذكورة التي هي في قوة لا ارتفاع إلا بالمطابقة للاعتبار المناسب، لأن المصدر المضاف إلى المعرفة للاستغراق، فيستفاد الحصر منه يقتضي اتحاد إفرادهما، إذ لولا اتحاد إفراد مقتضى الحال والاعتبار المناسب لبطل أحد الحصرين، أو كلاهما، هذا كلامه، ولا يخفى أنه منقوض بصحة الحصرين في قولنا «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» (1) وقولنا «لا صلاة إلا بالنية» والشارح نفسه أوضح فيما كتب في حاشية هذا المقام مراده، ووافقه السيد السند فقال: أما بطلان أحد الحصرين ففيما إذا كان بين مقتضى الحال والاعتبار المناسب عموم وخصوص مطلقا فإنه يبطل الحصر في الأخص ضرورة تحقق الارتفاع بالإفراد الآخر للأعم، وأما بطلان كلا الحصرين ففيما إذا كان بينهما مباينة أو عموم من وجه، فإنه يصدق كل منهما بدون الآخر فلا يصح الحصر في أحدهما، هذا وفيه أن اللازم ليس إلا بطلان أحد الحصرين كما لا يخفى، ولا
(1) أصله في الصحيحين، بلفظ:«لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» ، وبلفظه في الحلية (7/ 124).
يتعين البطلان في الأخص لاحتمال بطلان الحصر في الأعم باعتبار الجزء الثبوتي للحصر، ثم قال: وفيه نظر؛ وأوضحه فيما كتب في الحاشية من أن حصر شيء في شيء لا يوجب ثبوته لكل من أفراده حتى يبطل بذلك الحصر، فيما هو أخص من ذلك مطلقا، أو من وجه، كقولنا: ليس الضحك إلا للحيوان، هذا وفيه بحث؛ لأن مقصود أرباب التدوين بمثل قولهم لا ارتفاع إلا بالمطابقة للاعتبار المناسب أن الارتفاع يكون بها لا محالة، ولا يكون بغيره، إذ الغرض أن يتعلم المتعلم ما به يعرف الكلام المرتفع، وبهذا اندفع ما أوردناه من النقض، لكن ما كتب في الحاشية لدفعه أن أمثال هذه المقامات منتجة في الخطابيات لا نعرف له محصلا، قال السيد السند: قيل على تقدير صحة المقدمتين لا يلزم إلا المساواة في الصدق بين المقتضي والاعتبار المناسب والمطلوب هو الاتحاد في المفهوم، وأنت تعلم أن تفريع قوله فمقتضى الحال هو الاعتبار المناسب على ما تقدم، وجعله نتيجة له لا يستلزم دعوى الاتحاد في المفهوم، وإن مثل هذا التركيب ليس صريحا في الاتحاد مفهوما، هذا وفيما قيل نظر؛ لأنه على تقدير صحة المقدمتين كما لا يلزم الاتحاد في المفهوم لا يلزم المساواة، بل اللازم أحد الأمرين، وفيما ذكره السيد السند أيضا من هذه العبارة ليست صريحة في دعوى الاتحاد نظر، لأنه إن كان الحكم على مفهوم مقتضى الحال، فليس إلا دعوى الاتحاد. وإن كان على فرد منه فلا يلزم المساواة، ولو سلم فلا يتفرع لاحتمال الاتحاد، وحمل العبارة على المشترك بين الاتحاد والمساواة دون خرط القتاد، فالأوجه أن الفاء فصيحة، يعني إذا عرفت هذا فاعلم أن مقتضى الاتحاد هو الاعتبار المناسب لئلا يشتبه عليك صحة هذا الحصر بما تقرر من أنه لا ارتفاع إلا بالمطابقة لمقتضى الحال، وينكشف لك أن العبارتين بمعنى واحد.
(فالبلاغة صفة راجعة إلى اللفظ)(1) لأنها باعتبار خصوصيات اعتبرت في تركيب يفيد أصل المعنى (باعتبار إفادته المعنى بالتركيب) أي الغرض المصوغ له الكلام، فالمعنى إما مخفف أو مشدد، وبالجملة يراد به المعنى الذي يقصده البليغ، فقوله بالتركيب متعلق به، ويحتمل التعلق بالإفادة، وذلك لأن مقتضى الحال
(1) انظر الإيضاح ص 11، دلائل الإعجاز ص 42 وما بعدها طبع المنار.
والاعتبار المناسب إنما يعتبر أولا في المعنى، ثم في اللفظ، فإن المعنى تقدم في العقل مثلا لداع له، ثم يتلفظ باللفظ على طبقه، ولا يرد ما اعترض به السيد السند في شرح المفتاح من أن هذا لا يصح في طي المسند إليه وإثباته، فإن الإثبات والطي من عوارض اللفظ، فالحق أن يعتبر أولا في المعنى ما يقتضي الخصوصية، لأن معنى المسند إليه يحكم عليه العقل من غير قصد إحضاره بالذكر لتعينه لهذا الحكم، فيطويه في مقام قصد إفادة المعاني بذكر الألفاظ، ويأتي اللفظ على طبقه أو يحكم عليه بعد قصد إحضاره، كذلك لعدم تعينه فيثبته فيما بين المعاني المقصودة بالإفادة بذكر لفظه، ويأتي اللفظ على طبقه فتأمل.
والشيخ يسمي إيراد اللفظ على طبق ما اعتبر من المعاني الزائدة نظما، وكأنه بالغ في أن الفضيلة في تطبيق الكلام على مقتضى الحال، وإلا فالنظم عند المحققين ترتيب الألفاظ متناسبة المعاني متناسقة الدلالات، أو الألفاظ المرتبة، كذلك على ما ذكره أن الشارح المحقق في التلويح وفسره به في الديباجة فلا بد لتحققه من رعاية علم البيان أيضا.
(وكثيرا ما) أي حينا كثيرا فهو منصوب على الظرفية، وما لتأكيد معنى الكثرة، والعامل ما يليه على ما ذكره صاحب الكشاف في قوله تعالى: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (1)(يسمى ذلك) أي مطابقة الكلام الفصيح لاعتبار مناسب، وتذكير ذلك لتأويل المشار إليه بالمفهوم (فصاحة أيضا) كما يسمى بلاغة أو كما يسمى المفهومات السابقة فصاحة، وكأنه أطلق اسم الفصاحة على البلاغة لأن ما لا بلاغة له بمنزلة الأصوات الحيوانية عندهم، فكيف يوصف بالفصاحة.
واعلم أن قوله فالبلاغة صفة
…
إلخ متفرع على قوله: وارتفاع شأن الكلام في الحسن والقبول
…
إلخ، يعني لما كان ارتفاع شأن الكلام بمطابقته للاعتبار المناسب، ومعلوم أن ارتفاعه بالبلاغة علم أن البلاغة صفة للفظ بالقياس إلى إفادته المعاني والأعراض بالتركيب، والمقصود منه على ما صرح به في الإيضاح جمع كلامين متنافيين وقعا من الشيخ، حيث قال تارات: إن الفصاحة راجعة إلى المعنى وإلى ما يدل عليه اللفظ دون الألفاظ، وتارات إن الفضيلة للفظ
(1) الأعراف: 10.