الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لاستقام الوزن، ولم يكن حذف الضمير، ونظير اعتراضنا اعتراض ابن الحاجب عليه، بأنه لا يصح نصب كلهن؛ لأنه لا يلي العامل اللفظي، بل يجب إما كونه مبتدأ أو تأكيدا، ولا يخفى أن اعتراض ابن الحاجب لا يتوجه على سيبويه، إذ لو لم يجز حذف الضمير في السعة لم يكن وجه الاختيار الرفع على نصب كلهن مع سلامته عن الحذف، واستوائهما في عدم الجواز على النزاع بين ابن الحاجب وسيبويه يؤول إلى النزاع في صحة كون الكل المضاف إلى الضمير معمولا للعوامل اللفظية أصالة، وقد صرح المغني بثبوته على قلة، ولا أظن بك أن لا تتذكر هنا ما قدمناه لك أن مراد الشيخ: أن التقديم على النفي يفيد العموم إذا خلى، وطبعه كإفادة الوقوع في حيز النفي رفع العموم كذلك، ولا ينافي ذلك تخلف الإفادة لعارض، فلا يذهب عليك أن إثبات الحديث والشعر تلك الدعوى دونه خرط القتاد.
[وأما تأخيره فلاقتضاء المقام]
(وأما تأخيره فلاقتضاء المقام تقديم المسند) يعني: أن تأخيره ليس من مقتضيات الأحوال، وإنما هو من ضرورات مقتضى الحال، فلذا لا يبحث عنه، وبما ذكرنا اندفع ما يتجه عليه أن التأخير ليس مقتضى الحال فلا معنى للبحث عنه، وإنما يتجه لو كان مقصوده: أن تأخيره مقتضى أحوال تبين في تقديم المسند وستعرفها، وليس كذلك، ولذا لم يعد مجيئها، لا في هذا الكتاب، ولا في الإيضاح، وقد يعد الشارح حيث ظن أن المقصود ذاك، فقال: وسيجيء بيانه، ومما يقتضي تأخيره اقتضاء المقام تقديم متعلق المسند، نحو: على الله عبده متوكل. فتأمل (هذا كله) قد نبه بإيراد كله تأكيدا أو مبتدأ على أن المشار إليه متعدد، واختار هذا مع أن الشائع في التعبير عن المتعدد المذكور ذلك رعاية؛ لكون مقتضى الظاهر قريبا، بخلاف مقتضى الظاهر، ويريد أن كلا من الإضمار والنظائر إلى هنا (مقتضى) الحال (الظاهر) ولقد أعجب حيث صدر بحث خلاف مقتضى الظاهر، بما هو خلاف مقتضى الظاهر من وجوه: حيث وضع اسم الإشارة موضع الضمير، والمفرد موضع الجمع تنبيها على أنه جعلها بحسن البيان، ولطف المدح واحدا، وبنهاية الإيضاح كالمحسوس، ولك أن تجعل هذا فصل الخطاب، أي: خذ هذا وما بعده كلاما لمبتدأ، ولقد نبهناك على ما خلط بالمباحث من خلاف مقتضى
الظاهر، ففي صدق هذه الدعوى نظر، إلا أن يقال: أشار بهذا إلى ما هو المقاصد من المباحث المتقدمة.
(وقد يخرج الكلام على خلافه) أي: مقتضى الظاهر، أو الظاهر في هذا الباب وغيره- أيضا- كما علمت أنه يخرج كذلك في باب الإسناد غير مرة، لأسرار خفية مع أولى بصائر ذكية، وهذا النوع، وإن كان ذا مزية، وفي درجة علية بحق أن لا يكون مكثورا لما يقابله، لكن قل بالنسبة إليه لما قل مستعده، ومقابله، وقائله، فلذلك أتي بكلمة:«قد» مع المضارع، إشارة إلى أن مقابله هو الكثير الشائع، وبدأ فيه بوضع الضمير موضع الظاهر على خلاف ما في المفتاح حيث ابتدأ بوضع اسم الإشارة موضع الضمير؛ لأنه يفوق ما وراء كيف، وهي في ضمائر أكثر من تلك المواقع لا يعدون خلاف مقتضى الظاهر فقال:(ويوضع الضمير موضع المظهر)، وذلك إذا لم يتقدم المرجع بلفظ دال عليه، أو بقرينة، وهكذا ورثنا من الأكبر، فالأكبر، ويقول العبد الأصغر لا يبعد أن يجعل الإخراج على خلاف مقتضى الظاهر تقديم المفسر، وتأخير المفسر، فيكون الإخراج مما هو مقتضى ظاهر الحال من التقديم إلى خلافه من التأخير، وبالعكس الأول في التفسير؛ لأنه في باب الضمير حقه التقديم، وثانيهما: في الضمير؛ لأن حقه التأخير ولا يخفى لطف التعبير عن وضع المضمر موضع الظاهر بإخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر (كقولهم: نعم رجلا مكان:
نعم الرجل)، ونعم رجلين مكان: نعم الرجلان، ونعم رجالا مكان: نعم الرجال، فقد أشار إلى أن الضمير عبارة عن متعقل مبهم يفسره التمييز، وهو مع تمييزه بمنزلة الرجل، واختلف في الرجل هل هو بمعنى كل رجل؟ فجعل الممدوح بمنزلة جميع أفراد الرجل مبالغة، أو بمعنى هذا الجنس بجعله بمنزلة نفس الجنس مبالغة، أو بمعنى مبهم بحسب الوجوه، فإن الإبهام يناسب الكمال، والتعظيم، وقيد التمثيل، بقوله:(في أحد القولين) كما قيده المفتاح مرادا به القول بأن: نعم الرجل جملة مستقلة، والمخصوص بالمدح خبر مبتدأ محذوف؛ احترازا به عن القول بكون نعم الرجل خبره، ففي توجيه الاحتراز، مع أنه لا خلاف في أن ذلك الضمير مبهم على كل تقدير، فوجهه الشارح المحقق أن التقييد
بأن كون الضمير مبهما مقطوع به في هذا القول، وفي القول الآخر يحتمل الرجوع إلى المخصوص، فأشكل عليه أمور أحدها: أن الضمير حينئذ متعين لا إبهام فيه، ففات الإبهام، ثم التفسير، ولم يبق لإيراد التمييز معنى، ووجب إبراز الضمير في التثنية والجمع.
فأجاب بأن الاستتار من خواص هذا الباب، ولهذا الباب خواص وبأن الإبهام والتفسير يكفي له تأخير المرجع، والتمييز للتأكيد كما في: نعم الرجل رجلا وقوله تعالى: ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً (1) هذا وتبعه السيد السند في شرح المفتاح، ولا يخفى ما فيه من التكلفات، بل التعسفات على أن الإبهام العارض من تأخير المرجع لا يكفي في التمييز؛ لأنه لرفع الإبهام المستقر، ولعدم تعقل كلام السلف على ما لا ينبغي وجب توجيه أمثال هذه الآفات، ونحن نقول:
احتراز عن القول الآخر؛ لأنه على ذلك القول ليس من قبيل وضع المضمر موضع المظهر؛ لأن المقام ليس مقام المظهر، بل هو من قبيل وضع مضمر مبهم مقام مضمر معين، فإن قلت: قد تقرر في النحو أن ضمير الغائب وضع لما تقدم ذكره لفظا أو معنى، أو حكما، وأن الضمير المبهم سواء كان ضمير الشأن، أو غيره مما وضع لغائب تقدم حكما، فكيف صح جعله خلاف مقتضى الظاهر وهو مستعمل فيما وضع له؟ قلت: شاع استعماله في غير المتقدم حكما، فمقتضى الظاهر في مقام يلتبس المراد منه، ولا يتضح أن يؤتى بما يتضح منه المراد، وإن كان الإتيان به بمقتضى الوضع، فالإتيان به، وإن كان دون الظاهر عدول عن مقتضى الظاهر.
(وقولهم: هو أو هي زيد عالم) اختاره على: زيد قائم؛ لأن الجملة المفسرة لضمير الشأن يجب أن يكون أمرا عظيما يعتني به، ويستحق أن يختال لتمكينه في نفس السامع، وذكر الجملة الاسمية؛ لأن الفعلية لا تقع مفسرة له ما لم يدخل عليه شيء من النواسخ، ولم يقل: هو زيد عالم، وهي هند عالمة، مع أنه لا يجوز تأنيثه ما لم يكن في مفسره عمدة مؤنث، فحينئذ، يختار تأنيثه تنبيها على أن مقتضى القياس: أن يستوي المذكر والمؤنث في كل جملة؛ لأن كل جملة شأن
(1) الحاقة: 32.
وقصة من غير فرق، وتخصيص المؤنث بما عمدته مؤنث بحكم الاستعمال على خلاف القياس (مكان الشأن أو القصة) يعني: وضع هو مكان الشأن، وهي لفظ مكان القصة، فهو راجع إلى الشأن المعقول، وهي إلى القصة المعقولة يفسرهما الجملة بعده (ليتمكن) متعلق بوضع المضمر موضع المظهر، وتعليل له (ما يعقبه) أي: ذلك الضمير (في ذهن السامع؛ لأنه إذا لم يفهم منه) أي:
من الضمير (معنى)، إما لعدم تنبهه للضمير لاستتاره كما في: نعم رجلا، وكان زيد قائم، وإما لخفاء المراد منه بعد سماعه، (انتظره) أي: انتظر ما يعقبه.
قال الشارح المحقق: لما جبل الله عليه النفوس من التشوق إلى معرفة ما قصد إبهامه، ونقول: لأن الإنسان حريص على ما منع؛ ولأنه لا يرضى أن يضيع ما قاساه من المشقة في حصوله، ولأنه بعد أن تأكد طمعه في حصول فائدة من التكلم، لا يندفع طمعه حتى يحصل، وبما ذكرنا اندفع ما أورده الشارح المحقق من أن ما ذكره لا يتم إلا في ضمير الشأن دون الضمير في باب نعم، إذ السامع ما لم يعلم المفسر لم يعلم أن فيه ضمير افتعلل وضع المضمر موضع المظهر في باب نعم بما ذكره ليس بسديد، وعلمت أن تمامه في ضمير الشأن على إطلاقه وهم، واستغنيت عن أن تخصيص التعليل بضمير الشأن كما ذهب إليه الشارح المحقق في شرحه على المفتاح، وتمسك فيه بتمحيلة في عبارة المفتاح ليست في عبارة المتن، وموجودة في الإيضاح، نعم يرد أن اللائق بنظر البليغ أن يكون المقصود: تمكين ما هو العمدة، والمقصود، وهو فاعل نعم دون التمييز، الذي هو فضلة في الكلام، ففي ضمير الشأن يتم أن المقصود تمكين ما يعقبه من الجملة وأما في باب نعم فاللائق أن المقصود: تمكين فاعله في النفس، فالأوجه أن يقال: المراد بما يعقب الضمير فائدته، وما يطلب حصوله عقيب تصوره، وفي نعم إذا تصور المستتر فيه يحصل معناه بالتوسل تمييزه، والعود منه إلى التمييز، ثم من التمييز إليه، فيحصل بعد انتظار، فيتمكن في الذهن؛ لأن الإنسان مجبول بحفظ ما حصل بتعب ومشقة، وإن قل مقداره، وبعدم المبالاة لفوت ما حصل بسهولة، وإن كان عظيما؛ ولأن سماع الضمير المبهم كسماع حرف التنبيه يزيل الغفلة فيدرك ما يعقبه بريئا عن الغفلة، ولأنه يتصور بسماع الضمير مبهما ثم يأتي بالتفسير معينا،
فيتمكن بالتكرار، ومن وضع المضمر موضع المظهر ما في باب تنازع العاملين، وما له رجلا، وما لها قصة، وربه رجلا، وقوله: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ (1) وأشار المصنف إلى ما أشاروا، واكتفى به ثقة بفهمك الوافي أن توفى حق الكل، وله غير نظير، فاعتذار الشارح عن غير تنازع العاملين، بأنه ليس من باب المسند إليه ليس بذلك؛ لأن ما يلوح من قول المصنف، وقد يخرج الكلام على خلافه أي: خلاف مقتضى الظاهر دون أن يقول: وقد يخرج أي: المسند إليه على خلافه يلوح بأن قصده إلى أعم، ويتأيد ذلك بتعرضه بغير المسند إليه- أيضا- مرة بعد مرة، على أنه لا ينفع ما ذكره في ضمير باب التنازع، ولا في ضمير فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ؛ لأن منه فقضيت سبع سموات، لأن الإضمار، والتفسير بالبدل شائع في الفاعل والمبتدأ- أيضا- وقد جعل الشارح المحقق من نكات وضع المضمر موضع المظهر اشتهار المرجع ووضوح أمره، كقوله تعالى:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ (2) أي: القرآن؛ أو لأنه بلغ من عظم شأنه إلى أن صار متعقل الأذهان، نحو: هو الحي الباقي، وفي كونهما مقام الظاهر نظر؛ لأن هذا المقام مقام أضمر؛ لظهور المرجع من غير سبق ذكر، ومقام وضع المضمر موضع الظاهر مقام لم يسبق مرجع الضمير، ولم تدل عليه قرينة حال، كما صرح به المفتاح، نعم منه ما أضمر لادعاء أن الذهن لا يلتفت إلى غيره، كقوله:
زارت عليها للظلام رواق
…
ومن النّجوم قلائد ونطاق (3)
أي: زارت الحبيبة حال كونها مستورة برواق من الظلام، وحال كونها عليها قلائد، ونطاق من النجوم، فإن قلت: هل يجوز أن يكون ادعاء التقرر في الأذهان نكتة لإيراد ضمير الشأن؟ قلت: لا؛ لأنه مناف لتفسير الضمير (وقد يعكس) أي: يوضع المظهر موضع المضمر.
(فإن كان اسم إشارة فلكمال العناية بتمييزه) أي: المسند إليه أو المظهر (لاختصاصه بحكم بديع) أورد في الكلام له، والأولى لكونه محكوما عليه بأمر
(1) فصلت: 12.
(2)
القدر: 1.
(3)
البيت لأبي العلاء في المفتاح ص 336 والتبيان (1/ 194) بتحقيقنا.
بديع هذا إذا أريد بقوله: لاختصاصه بحكم بديع كونه مختصّا بحكم بديع كما هو المشهور، أما لو أريد تخصيصه بالحكم البديع فيعني التعبير باسم الإشارة، ليجعل مخصوصا بحكم بديع؛ لأنه لو لم يتميز والتبس بالغير لا يخص الحكم به، بل كان ترددا بينه وبين ما يلتبس به، فعبارته سديدة (كقوله: ) أي: كقول ابن الراوندي (كم عاقل عاقل) أي: كامل العقل كذا قالوا: ويحتمل أن يكون من قبيل كل فرد فرد (أعيت) أي: أعجزته، أو أعيت عليه، أي: صعبت، وحذف العائد المفعول أهون من حذف العائد المجرور، والأبلغ أن يجعل حذف المفعول للتعميم، أي: أعيت كل واحد، أو صعبت على كل أحد طرق معاشه، فتشكل عليه المعيشة، ولغيره إعانته (مذاهبه) أي: طرق معاشه (وجاهل جاهل) عطف على عاقل عاقل (تلقاه مرزوقا) عطف على أعيت مذاهبه، ولا بأس إذ المجرور مقدم، ويحتمل أن يكون مرزوقا حالا من المفعول، وأن يكون حالا من الفاعل، أي: تلقاه مرزوقا أنت بسبب ملاقاته، وفيه مزيد مبالغة في ثروته سيما إذا جعل المضارع للاستمرار (هذا الذي ترك) أي: صير فإن ترك إذا عدى باثنين يكون بمعنى صير على ما في التسهيل (الأوهام حائرة وصيّر العالم النّحرير) المتقن (زنديقا)(1) أي: نافيا للصانع منكرا للآخرة، وتفسيره بمجرد النافي للصانع كما في بيان الشارح المحقق، والسيد السند في شرح المفتاح لا يوافق ما في القاموس هو من لا يؤمن بالآخرة، والربوبية، وفي القاموس أو هو معرب زندين، أي: دين المرأة، فإن قلت: إذا كان هذا مصير الأوهام ذوات حيرة، فغاية أمر العالم أن يتحير، فمن أين التصيير جازما بنفي الصانع؟ قلت: جعله الغضب المستولى عليه من حرمانه، مع استحقاقه منكرا للصانع معاندا.
فقوله: هذا إشارة إلى حكم معقول غير محسوس، وهو كون العاقل محروما، والجاهل مرزوقا، فكان المقام مقام الإضمار؛ لكنه لما اختص بحكم بديع، وجعل الأوهام حائرة، والعالم المتقن زنديقا كملت عناية المتكلم بتمييزه، فأبرزه في معرض المحسوس، فكأنه يرى السامعين أن هذا الشيء المتعين المتميز هو الذي له
(1) البيت لابن الراوندي في المفتاح ص 179 والمصباح ص 29 والإيضاح ص 155.
تلك الصفة العجيبة، والحالة البديعة، فإن قلت: بذكر اسم الإشارة لا يزيد فيه تمييز إذ لا تصحبه الإشارة المفيدة لكمال التميز، فكيف يوجب كمال العناية بتميزه ذكر اسم الإشارة الغير المفيد له؟ قلت: إذا أبرزه في معرض المحسوس جعل بصيرة السامع متوجهة إليه توجه الباصرة إلى المحسوس، فحصل عنده مزيد تمييز، والأظهر أنه للتنبيه على كمال ظهوره إلى أن بلغ منزلة المحسوس.
قال السيد السند، وقد رد على ابن الراوندي من قال: كم من أريب فهم قلبه مستكمل العقل مقل عديم، ومن جهول مكثر ماله، ذلك تقدير العزيز العليم، ومن قال: نكد الأريب وطيب عيش الجاهل قد أرشدك إلى حكيم كامل (أو التهكم بالسامع) جعله المفتاح عديل الاختصاص بحكم بديع، ووجه كمال العناية تمييزه، وكذا نظائره التي بعدها، واعترض عليه بأن التهكم بالسامع ونظائره يوجب إيراد اسم الإشارة، ولا يوجب كمال العناية بتمييزه، وأجاب عنه السيد السند في شرح المفتاح: بأن التهكم بطلب اسم الإشارة الموجبة لكمال التميز، فالتهكم يصير سببا لكمال العناية بتميزه الموجب لإيراد اسم الإشارة، ولا يخفى أنه تكلف، فلذلك قال الشارح المحقق: هو عطف على كمال العناية.
بقي الكلام في أنه يكون مقصود المصنف، لأنه لم يتعرض في الإيضاح لقصور المفتاح، فهو يشهد بأنه رضى بما فيه، واختصره من غير عدول عنه (كما إذا كان فاقد البصر) الأخصر كما إذا كان أعمى، أو لا يكون؛ ثم مشار إليه (أو النداء على كمال بلادته) قدمه على فطانة؛ لأنه أنسب بالتهكم (أو فطانة) حيث تنزل غير المحسوس عنده منزلة المحسوس، أو التنبيه على كمال حدة بصره، فاحفظها، فإنها من المبدعات (أو ادعاء كمال ظهوره) لم يقل: أو التنبيه على كمال ظهوره؛ لأن وضع اسم الإشارة موضع الضمير لا يخلو عن الادعاء؛ لأن جعله محسوسا ادعاء.
(وعليه) أي: على وضع اسم الإشارة (من غير هذا الباب)، أي: باب المسند إليه قول ابن دمينه: (تعاللت) أي: أظهرت العلة (كي أشجي) على صيغة المعروف، كما هو المعروف من باب علم لازما أي: أخرت، ويحتمل صيغة المجهول من باب: نصر متعديا أي: أحزن (وما بك علّة) حال مؤكدة؛
لأنه يفهم من التعالل عدم العلة أو جملة دعائية معترضة (تريدين قتلي) الظاهر أردت؛ إلا أنه أراد حكاية الحال الماضية (قد ظفرت بذلك)(1) القتل المحسوس، ويحتمل أن يكون ذلك للإشارة إلى بعد القتل؛ لأنه لكمال شجاعته يبعد عن قلة كل أحد، وهي قد ظفرت بمجرد تعالل (وإن كان) المظهر الموضوع موضع المضمر (غيره) أي: غير اسم الإشارة (فلزيادة التمكين)، وذلك إما لأن ذلك الاسم الظاهر تعليل الاحتمال، وإما لأن الظاهر لما وقع غيره موقعه كان كحدوث غير متوقع فأثر في النفس تأثيرا بليغا، ويمكن فيه زيادة تمكن وفي اختصاصه بغير اسم الإشارة نظر (نحو: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ) (2) وعندي: أن ترك الإضمار؛ لأنه يتبادر الذهن منه إلى الشأن الذي ذكر آنفا، ولا يبعد أن يكون من نكات وضع غير اسم الإشارة موضع الضمير التنبيه على بلادة السامع، حيث لا يفهم الضمير، وادعاء الخفاء بحيث لا يتضح إلا بتكرار البيان الواضح (ونظيره)، ولا خفاء في أنه لا حاجة إلى قوله (من غيره).
قوله تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ (3) أي: ما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة المقتضية لإنزاله، وما نزل إلا بالحكمة، ولا يخفى أن الظاهر: فبالحق نزل؛ لأنه لازم الإنزال بالحق، إلا أن يقال: المراد بالإنزال تقدير النزول.
قال السيد في شرح المفتاح: لو فسر الحق بالأوامر والنواهي لم يكن مما نحن فيه، قلت: وحينئذ يكون الواو في موقعه (أو إدخال الروع في ضمير السامع) المهاب (وتربية المهابة) والإخفاء. وإن إدخال الروع في الضمير المهاب وتربية المهابة واحد فلذا عطف بالواو، ولو أريد إدخال الروع ابتداء لكان مخالف تربية المهابة؛ لأنها إدخال الروع بعد وجوده، وقيل مع ذلك: هما متقاربان، والمقصود منهما بيان نكتة واحدة، وهي إدخال الروع، فلذا لم يعطف بأو، وقلت: ولم يقل مثالها، بل مثالهما إشارة إلى أن القصد من الإدخال، ولتربية إلى نكتة واحدة:(أو تقوية داعي المأمور) إلى ما أمر به، وهو عظمة الأمر
(1) اللبيت لابن الدمينة شعره ص 16 والإيضاح (1/ 155) ونهاية الإيجاز ص 110 والمفتاح ص 294.
(2)
الإخلاص: 1، 2.
(3)
الإسراء: 105.
(مثالهما)، أي: مثال إدخال الروع مطلقا وتقوية داعي المأمور (قول الخلفاء:
أمير المؤمنين يأمرك بكذا وكذا) مكان: أنا آمرك ويمكن أن يكون النكتة فيه إظهار النصفية بأني لا أطلب منك مطاوعتي، بل مطاوعة أمير المؤمنين أيا كان (وعليه) أي: على وضع المظهر موضع المضمر للنكتتين قوله تعالى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ (1) وحيث لم يقل عليّ؛ لأن في سماع لفظ الله الجامع لجميع صفات اللطف والقهر إدخال روع في قلب السامع ما ليس في سماع ضمير المتكلم، وتقوية الداعي إلى التوكل ما لا يخفى، ولا وجه لتخصيصه بالتقوية، كما فعله الشارح المحقق، والسيد السند في شرح المفتاح (أو الاستعطاف) أي:
طلب العطف والرحمة؛ لأن في المظهر دلالة على ما يوجب إظهاره رحمة المخاطب بخلاف الضمير (كقوله:
إلهي عبدك العاصي أتاكا
…
مقرّا بالذّنوب وقد دعاكا
فإن تغفر فأنت لذاك أهل
…
وإن تطرد فمن يرحم سواكا (2)
ولا يخفى أنه لو قال: وإن ترحم فمن يرحم لكان في غاية اللطافة، وكأنه احترز عن لفظ الرحم؛ لشيوعه في وصف الشيطان.
قال الشارح المحقق: حيث لم يقل: أنا العاصي أتيتك على أن يكون العاصي بدلا؛ لأن في ذكر عبدك من استحقاق الرحمة وترقب الشفقة ما ليس في لفظ:
أنا، وفيه- أيضا- يمكن في وصفه بالعاصي كما في قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً إلى قوله: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ (3) حيث لم يقل: فآمنوا بالله وبي؛ ليتمكن من إجراء الصفات المذكورة عليه، ويشعر بأن الذي وجب الإيمان به بعد الإيمان بالله هو الرسول الموصوف بتلك الصفات كائنا من كان أنا أو غيري إظهارا للنصفة وبعدا من التعصب لنفسه. هذا فقد جعل المظهر الذي هو عبدك مقام أنا في:
(1) آل عمران: 159.
(2)
البيتان لإبراهيم بن أدهم، وهو في الإيضاح (77)، والمفتاح بتحقيقي (295)، ومعاهد التنصيص (1/ 170)، وشرح عقود الجمان (1/ 105)، والإشارات والتنبيهات، وقيل نسبا إلى رابعة العدوية.
(3)
الأعراف: 158.