المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[وقد ينزل العالم بهما منزلة الجاهل] - الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم - جـ ١

[العصام الأسفراييني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المحقق

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌متن كتاب التّلخيص في علوم البلاغة وهو تلخيص كتاب «مفتاح العلوم» للسّكاكيّ

- ‌كلمة الافتتاح

- ‌مقدّمة فى بيان معنى الفصاحة، والبلاغة

- ‌الفنّ الأوّل علم المعاني

- ‌تنبيه (1/ 213) صدق الخبر: مطابقته للواقع، وكذبه: عدمها

- ‌أحوال الإسناد الخبريّ

- ‌إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر

- ‌أحوال المسند إليه

- ‌أولا: حذف المسند إليه، وذكره

- ‌ثانيا: تعريف المسند إليه، وتنكيره

- ‌[أتعريفه]

- ‌تعريف المسند إليه بالعلمية:

- ‌تعريف المسند إليه بالموصليّة:

- ‌تعريف المسند إليه بالإشارة:

- ‌تعريف المسند إليه باللام:

- ‌تعريف المسند إليه بالإضافة:

- ‌ب- تنكير المسند إليه

- ‌ثالثا: إتباع المسند إليه، وعدمه

- ‌وصف المسند إليه:

- ‌توكيد المسند إليه:

- ‌بيان المسند إليه:

- ‌الإبدال من المسند اليه:

- ‌العطف على المسند إليه:

- ‌رابعا:‌‌ تقديم المسند إليه، وتأخيره:

- ‌ تقديم المسند إليه

- ‌رأى عبد القاهر:

- ‌رأى السكاكى:

- ‌تأخير المسند إليه:

- ‌إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر:

- ‌أحوال المسند

- ‌ترك المسند اليه:

- ‌ذكر المسند إليه:

- ‌وأما تنكيره:

- ‌وأما تخصيصه بالإضافة أو الوصف:

- ‌وأما تركه:

- ‌وأما تعريفه:

- ‌وأما كونه جملة:

- ‌وأما تأخيره:

- ‌وأما تقديمه:

- ‌تنبيه

- ‌أحوال متعلّقات الفعل

- ‌القصر

- ‌[طرق القصر]

- ‌منها: العطف

- ‌ومنها: النفى والاستثناء

- ‌ومنها: إنّما

- ‌ومنها: التقديم

- ‌الإنشاء

- ‌منها التمنّي

- ‌ومنها: الاستفهام

- ‌ومنها: الأمر

- ‌ومنها: النهي

- ‌[ومنها: العرض]

- ‌ومنها: النداء

- ‌الفضل والوصل

- ‌الإيجاز والإطناب والمساواة

- ‌(المساواة)

- ‌(الإيجاز)

- ‌(الإطناب)

- ‌الفنّ الثاني علم البيان

- ‌ التشبيه

- ‌ طرفاه

- ‌ ووجهه

- ‌أركان التشبيه

- ‌(الغرض من التشبيه)

- ‌خاتمة

- ‌الحقيقة والمجاز

- ‌ الاستعارة

- ‌المجاز المرسل

- ‌المجاز المركّب

- ‌فصل (2/ 305) عرّف السكاكى الحقيقة اللغوية بالكلمة المستعملة فيما وضعت له، من غير تأويل فى الوضع

- ‌فصل (2/ 332) حسن كل من التحقيقيّة والتمثيل

- ‌فصل (2/ 336) وقد يطلق المجاز على كلمة تغيّر حكم إعرابها

- ‌(الكناية)

- ‌فصل (2/ 360) أطبق البلغاء على أنّ المجاز والكناية أبلغ من الحقيقة والتصريح

- ‌الفنّ الثالث علم البديع

- ‌ المطابقة

- ‌المحسّنات المعنويّة

- ‌المقابلة

- ‌مراعاة النظير

- ‌الإرصاد

- ‌المشاكلة

- ‌المزاوجة

- ‌العكس

- ‌الرجوع

- ‌التورية

- ‌الاستخدام

- ‌اللف والنشر

- ‌الجمع

- ‌التفريق

- ‌التقسيم

- ‌الجمع مع التفريق

- ‌الجمع مع التقسيم

- ‌الجمع مع التفريق والتقسيم

- ‌التجريد

- ‌المبالغة

- ‌المذهب الكلامي

- ‌حسن التعليل

- ‌التفريع

- ‌تأكيد المدح بما يشبه الذم

- ‌تأكيد الذم بما يشبه المدح

- ‌الاستتباع

- ‌الإدماج

- ‌التوجيه

- ‌الهزل يراد به الجد

- ‌تجاهل العارف

- ‌القول بالموجب

- ‌الاطراد

- ‌المحسنات اللفظية

- ‌رد العجز على الصدر

- ‌السجع

- ‌الموازنة

- ‌القلب

- ‌التشريع

- ‌لزوم ما لا يلزم

- ‌خاتمة: فى السّرقات الشّعريّة، وما يتّصل بها، وغير ذلك

- ‌ الاقتباس

- ‌التضمين

- ‌العقد

- ‌الحلّ

- ‌التلميح

- ‌فصل (2/ 523) ينبغى للمتكلّم أن يتأنّق فى ثلاثة مواضع من كلامه

- ‌[الخطبة]

- ‌[تسمية الكتاب]

- ‌[مقدمة]

- ‌[(الفصاحة)]

- ‌[والبلاغة]

- ‌[فالتنافر]

- ‌[والغرابة]

- ‌[والمخالفة]

- ‌[قيل ومن الكراهة في السمع]

- ‌[وفي الكلام خلوصه]

- ‌[أما في النظم]

- ‌[وأما في الانتقال]

- ‌[قيل ومن كثرة التكرار]

- ‌[وفي المتكلم ملكة يقتدر بها]

- ‌[والبلاغة في الكلام]

- ‌[فمقتضى الحال]

- ‌[ولها طرفان: ]

- ‌[وأن البلاغة مرجعها إلى الاحتراز]

- ‌(الفن الأول: علم المعاني)

- ‌[صدق الخبر]

- ‌(أحوال الإسناد الخبري)

- ‌[وقد ينزل العالم بهما منزلة الجاهل]

- ‌[ثم الإسناد منه حقيقة عقلية]

- ‌[ومنه مجاز عقلي]

- ‌[وأقسامه أربعة]

- ‌(أحوال المسند إليه)

- ‌[أما حذفه فللاحتراز عن العبث]

- ‌[وأما ذكره فلكونه إلخ]

- ‌[وأما تعريفه]

- ‌[فبالإضمار 291

- ‌[وأصل الخطاب]

- ‌[وبالعلمية]

- ‌[وبالموصولية]

- ‌[وبالإشارة]

- ‌[وباللام]

- ‌[وقد يفيد الاستغراق]

- ‌[وبالإضافة]

- ‌[وأما تنكيره]

- ‌[وأما وصفه]

- ‌[وأما توكيده]

- ‌[وأما بيانه]

- ‌[وأما الإبدال منه]

- ‌[وأما العطف]

- ‌[وأما الفصل]

- ‌[وأما تقديمه]

- ‌[وإن بنى الفعل على منكر]

- ‌[ومما نرى تقديمه كاللازم]

- ‌[مبحث كلمة كل]

- ‌[وأما تأخيره فلاقتضاء المقام]

- ‌[ويسمى هذا النقل عند علماء المعاني التفاتا]

- ‌[أحوال المسند أما تركه فلما مر]

- ‌[وأما ذكره فلما مر]

- ‌[وأما إفراده فلكونه غير سبب]

- ‌[وأما كونه فعلا فللتقييد بأحد الأزمنة الثلاثة]

- ‌[وأما كونه اسما فلإفادة عدمهما]

- ‌[وأما تقييد الفعل بمفعول ونحوه وأما تركه فللمانع منهما]

- ‌[وأما تقييده بالشرط]

- ‌[وأما تنكيره فلإرادة عدم الحاصر والعهد]

- ‌[وأما تخصيصه بالإضافة أو الوصف فلكون الفائدة أتم]

- ‌[وأما تعريفه فلإفادة السامع حكما]

- ‌(أحوال متعلقات الفعل)

- ‌[الحذف وأغراضه]

- ‌[أنواع القصر]

- ‌[شروط قصر الموصوف على الصفة]

- ‌(الإنشاء)

- ‌[أنواعه]

- ‌[من أنواع الطلب]

الفصل: ‌[وقد ينزل العالم بهما منزلة الجاهل]

في تعيين المصطلح، فرأينا أن المعرض عنها قد أفلح، فطويناها على غرها لنعصمك عن ضرها.

[وقد ينزل العالم بهما منزلة الجاهل]

(وقد ينزل العالم بهما منزلة الجاهل) أي ينزل العالم بالفائدة منزلة الجاهل بها (لعدم جريه على موجب العلم) بالفائدة، والعالم باللازم منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم باللازم مثال المخاطب العالم بالفائدة. قولك للعالم بوجوب الصلاة التارك لها: الصلاة واجبة، ومثال المخاطب العالم باللازم نحو: ضربت زيدا، لمن يعلم أنك تعرف أنه ضرب زيدا، لكن يناجي غيره عندك بضربه، كأنه يخفى منك، فالمراد بالجاهل الجاهل بهما، لا الجاهل بالفائدة، لأن العالم بلازم الفائدة إذا لم يجر على موجب العلم به ينزل منزلة الجاهل به، ولا محل لتنزيله منزلة الجاهل بالفائدة. وقد ذكر السيد السند أن تنزيل المفتاح العالم بالفائدة ولازمها منزلة الخالي عنهما للمبالغة وإلا فتنزيله منزلة الجاهل بالفائدة يكفي في إلقاء الكلام عليه، وبما حققناه لك ظهر أثر إهمال النظر فيما ذكر.

وكما يكون التنزيل لعدم الجري على موجب العلم يكون للجري على موجب الجهل، وبينهما فرق؛ فلا تخلط. ويتجه عليه أن هذا من باب إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، فينبغي أن يذكر بعد قوله: وكثيرا ما يخرج الكلام على خلافه، ويجمع مع خلاف مقتضى الظاهر كما في المفتاح، ويمكن أن يجاب عنه بأنه قدم على قوله: وكثيرا ما لدفع ما يتجه على الحصر من أنه قد يكون قصد المخبر غيرهما، فإنه قد يلقيه على العالم بهما، فحينئذ ينبغي أن يجعل الجاهل متناولا للخالي والسائل والمنكر، ليتم الدفع، ولا يخص بالخالي عن النسبة مطلقا، كما فعله السيد السند بناء على أن تنزيل العالم منزلة المنكر داخل تحت قوله: وغير المنكر كالمنكر، وأن يؤيده أنه مثل لتنزيل غير المنكر منزلة المنكر، بما هو تنزيل العالم منزلة المنكر، على أن دخوله فيما سيأتي لبيان وقت تنزيله منزلة المنكر، فلا يوجب التكرار، وإن في هذا التعميم إغناء عما احتاج إليه من حوالة تنزيل العالم منزلة السائل بالمقايسة.

واعلم أن لتنزيل العالم بهما منزلة الجاهل نتائج منها: إلقاء الخبر إلى العالم، ومنها سلب العلم عن العالم بالخبر، كما في قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ

ص: 232

ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (1) فإنه أثبت لهم العلم بفائدة من اشتراه ما له في الآخرة من نصيب، ونفى عنهم العلم بها بقوله (لو كانوا يعلمون) أي لو كانوا يعلمون أنه ما لهم في الآخرة من خلاق لما شروه به، فنفى عنهم العلم بعد إثباته لتنزيله منزلة الجهل، فبطل ما ذكره المصنف من أن في كلام المفتاح إيهام أن الآية من أمثلة تنزيل العالم بفائدة الخبر ولازمها منزلة الجاهل بهما، وليست منها، بل هي من أمثلة تنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم، والفرق بينهما ظاهر؛ لأنه من أمثلة تنزيل العالم بفائدة الخبر منزلة الجاهل، لا للإلقاء إليه، بل لسلب العلم عنه صريحا، لا لما ذكره الشارح في شرح المفتاح من أنه لا إيهام مع قول المفتاح كيف يجد صدره يصف أهل الكتاب بالعلم على سبيل التوكيد القسمي، وآخره بنفيه عنهم، حيث لم يعملوا بعلمهم، ولو سلم فلا ضير في الإيهام بعد وضوح المرام، لأنك عرفت أنها لإثبات العلم بفائدة الخبر في صدرها، ونفيه في آخرها، فلا ينفي قول المفتاح هذا الإيهام، ولا يدفع ضره وضوح المرام، على أن للمصنف أن يقول: المقصود من هذا الكلام تنبيه القاصر، وحفظه عن التثبت على هذا الإيهام، وظهر ضعف ما ذكره الشارح ومن تبعه في دفعه من أن مراد المفتاح بالحوالة على كلام رب العزة توضيح تنزيل العالم بالشيء أعم من الفائدة وغيرها منزلة الجاهل.

وللآية الكريمة احتمال آخر يخلو فيه صدرها عن وصف أهل الكتاب بالعلم، وهو أن يكون (لقد علموا) دالا على الجزاء، ويكون اللام لام الابتداء، ويكون (لو كانوا يعلمون) لنفي كونهم من أهل العلم، فالحاصل: لو كانوا يعلمون لعلموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق، فليس في الآية إلا نفي العلم.

وفيه أيضا تنزيل العالم بالفائدة منزلة الجاهل؛ لأن أهل الكتاب عالمون بأن اختيار السحر والشعوذة على كتاب الله بهذه المثابة، لكن دخول لام الابتداء على الجملة الفعلية مختلف فيه.

والجمهور على أن الداخلة على الفعلية في غير باب إن محمولة على تقدير

(1) البقرة: 102.

ص: 233

القسم، وكما لا بد في تصحيح حصر قصد المخبر في الفائدة ولازمها من التنبيه على أنه قد ينزل العالم بالفائدة منزلة الجاهل لئلا يشكل الحصر بالخبر الملقى إلى العالم، لا بد من التنبيه على تنزيل وجود الشيء منزلة عدمه؛ لئلا يشكل بمثل (ما رميت إذ رميت) لأنه لولا تنزيل الرمي منزلة العدم لم يكن في هذا القول صحة قصد الفائدة، ولا لازمها.

واعلم أن قوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ (1) إنما يكون من قبيل تنزيل وجود الشيء منزلة عدمه، لو كان المقصود نفي الرمي مطلقا، فتفسير السيد السند حيث قال: أي ما رميت حقيقة، إذ رميت صورة؛ لأن أثر ذلك الرمي كان خارجا عن طوق البشر، يخرجه عما نحن فيه.

كذا ما نقله من أنه ما رميت تأثيرا إذ رميت كسبا، وزيفه بأنه ليس بشيء لجريانه في جميع الأفعال عند من يقول بالكسب وعدم صحته، على قول من ينكره، وكذا ما يمكن أن يقال من أنه: ما رميت في أعين الكفرة إذ رميت من كفك، أو ما رميت على قدر قوتك إذ رميت، وفيه ما ينبغي لك معرفته.

(فينبغي أن يقتصر) المخبر على صيغة المجهول، أو المعروف (من التركيب) أي من المركبات أو تركيب الألفاظ بعضها مع بعض في ظاهره وتقديره (على قدر) هو كالضرب والعدد بمعنى المقدار (الحاجة) أي على مقدار حاجته في إفادة الحكم ولازمه، أو حاجة المخاطب في استفادتهما، فوجه تفرعه على السابق ظاهر، ومن لم يتنبه وقع في تطويل ليس فيه كثير تحصيل، ولا يخفى أنه بظاهره لا ينفي وجوب الاجتناب عن إيراد أقل من الحاجة، والأولى أن يقال:

فينبغي أن يذكر التركيب على قدر الحاجة.

واعلم أن الإيراد على قدر الحاجة كما يراعى في كل باب من أبواب البلاغة لا يخص إفادة الإسناد الخبري، وعلل وجوب ذلك في المفتاح بالحذر عن اللاغية، واتجه عليه أنه لا يفيد وجوب الاجتناب عن الإيراد أقل من قدر الحاجة، إذ ليس فيه الحذر عن اللغو، بل عن فوت المقصود، وأجاب عنه الشارح المحقق بأنه ترك وجوب الاجتناب عن إيراد الأقل لظهوره، والسيد السند: بأن الأقل

(1) الأنفال: 17.

ص: 234

مما لا بد منه في حكم اللاغية، ومندرج تحت المراد باللاغية، ونحن نقول في إيراد الأقل بكون قصد بعض ما قصد إفادته لاغيه، ثم فصل ذلك المجمل بقوله:

(فإن كان المخاطب خالي الذهن) بعض تفصيل له مزيد اختصاص بأحوال الإسناد، وإلا فحذف المسند إليه وذكره إلى غير ذلك تحت هذا المجمل.

(من الحكم) أي النسبة التي بين بين، أو الوقوع أو اللاوقوع، وعلى تقديرين الخلو عبارة عن عدم الإدراك لا عن عدم الاتصاف، كما في الخلو عن التردد، ويتنجه (1) أنه يلغو.

قوله: (والتردد فيه) بلا ريبة، لأن عدم إدراكهما يستلزم عدم التردد فيهما، لأن التردد بدون التصور محال، وتقييد خلو الذهن بما يخصه بالخلو عن التصديق لا بدفع الغناء عن التردد؛ لأن التقييد غير ضروري، أو التصديق والخلو عن التصديق كالخلو عن التردد، ولا يلغو ذكر التردد بعده، لكن لا يصح جعل ضمير والتردد فيه إلى الحكم؛ إذ تردد المخبر لا يكون في التصديق، بل في النسبة المتصورة، فهو راجع إلى الوقوع واللاوقوع المذكور ضمنا؛ لأن الحكم حينئذ بمعنى إدراك الوقوع أو اللاوقوع فهو من قبيل: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى (2) فقول من قال بالاستخدام عار عن الاستحكام وكذا الحال في قوله (وإن كان مترددا فيه طالبا له) ولم يرد بالحكم الوقوع أو اللاوقوع، حتى يستغنى عن قوله، والتردد فيه؛ لئلا يتوهم أن المراد الحكم بمعنى الإيقاع، فيفوت اشتراط الخلو عن التردد، فهذا من قبيل ترك المبالغة في اختصار اللفظ تقريبا للتعاطي، وقيد الخلو بالحكم وسكت عن لازمه لعدم ظهور جريان الأقسام الثلاثة فيه؛ لأنه إنما يحسن:

حفظت التورية لمن يخلو ذهنه عن: أنك عالم؛ أما المنكر أو المتردد في علمك فلا يحسن أن يقال له: إنك حفظت التورية؛ لأنه ظاهر في تأكيد الحفظ لا العلم به، والظاهر أني عالم بحفظك التورية، بل قولنا حفظت التورية لإفادة العلم من غير اعتبار خلو ذهنه عن العلم بالحفظ؛ إذ لو اعتبر خلو ذهنه صار ثبوت علمك به مقصودا أصليا، وصار ثبوت الحفظ من متعلقات العلم، فينبغي أن يعبر عنه

(1) هكذا وردت بالأصل.

(2)

المائدة: 8.

ص: 235

بما يفيده قصدا وصريحا يكون فائدة الخبر.

(استغنى) المخاطب في استفادته أو المتكلم في إفادته، أو الكلام أو الحكم، قال الشارح: على لفظ المبني للمفعول، وهو مجهول (عن مؤكدات الحكم) الأولى عن مؤكد الحكم، ولما خص الشرط بالحكم قال: على طبقه عن مؤكدات الحكم، أو نبه على أن وضع المؤكد للحكم، وإن استعمل للازمه أيضا، والمؤكدات أن ولام الابتداء وصيرورة الجملة اسمية. قال الشارح: اسمية الجملة فيما بينهم بهذا المعنى، وتكرر الإسناد، ونونا التأكيد، وأما الشرطية بالفتح، والكسر وحرفا التنبيه، وحروف الصلة، أعني الزوائد.

(وإن كان المخاطب مترددا فيه طالبا له حسن تقويته بمؤكد) قد سبق بعض ما يتعلق بشرح هذه العبارة فتذكر، ومما لا بد من التنبيه عليه أن المراد بالتردد في خصوص الحكم ولا يعتبر التردد إجمالا بأن يكون سؤاله مجملا، لو فصل وقع الجواب من تفاصيله، كما في قولك: كيف زيد؟ فإنه مجمل تفصيله: أهو أسود، أو أبيض، أو صحيح، أو سقيم؟ لكن لم يوجد تردده في خصوص الصحة مثلا، فلا يقال في الجواب: إنه صحيح بل صحيح بلا تأكيد، والمراد بحسن تقويته: أنه لو تركه المتكلم لا يكون إلا في ترك الأولى، ولا يخطأ أو ربما يقال: يراد أن التأكيد للمنكر أوجب، وتركه مع السائل أيضا خطأ.

وبما ذكرنا اندفع توهم أنه يلزم من هذا الكلام أن لا يحسن في جواب كيف زيد؟ صحيح، وإن لا يتم قولهم: إن الجواب سؤال السبب الخاص يقتضي التأكيد دون السؤال عن السبب المطلق؛ لكنه ينافي ما قال الشيخ في دلائل الإعجاز حيث قال:

«أكثر مواقع أن يحكم الاستقراء هو الجواب، لكن يشترط فيه أن يكون للسائل ظن على خلاف ما أنت تجيبه، فأما أن يجعل مجرد الجواب أصلا فيها، فلا؛ لأنه يؤدي إلى أن لا يستقيم لنا أن نقول: صالح، في جواب: كيف زيد؟ وفي الدار في جواب: أين زيد؟ حتى نقول: إنه صالح، وهذا مما لا قائل به، فإنه يفيد أن لا يكون التأكيد للسائل مطلقا، بل مقيدا بالظن المذكور، وأن يكون التأكيد واجبا في جواب السائل كما يقتضيه قوله لا يستقيم،

ص: 236

وربما يجاب بأن هذا حكم أن لكونه علما في باب التوكيد، ولا ينجاب؛ لأنه أيضا مناف لإطلاق المؤكد».

ولك أن تجيب بأن هذا حكم بيان الوجوب من الشيخ، وتقييد الوجوب لا ينافي إطلاق الحسن، نعم إثبات الوجوب في البعض ينافي إطلاق الحسن، إلا أنه جعل المصنف هذا البعض داخلا في المنكر؛ لأن التصديق بنقيض الشيء يوجب إنكاره، وإن كان ظنّا، نعم جعل التأكيد بأن للظان بخلاف ما أنت مجيبه أكثر مواقعه في معرض الإنكار؛ لأن «أن» التي هي علم في باب التوكيد أحق بالمنكر الجازم بالنقيض، إلا أن يكون الظانّ أكثر من الجازم بحكم الاستقراء، وكون الاستقراء مفيدا له لا يخلو عن بعد.

ولا يتجه على الشيخ ما أورده السيد السند من أن كلام الشيخ يفيد أنه يجوز أنه صالح في جواب كيف زيد؟ مع أنه ينافي ما ذكره القوم من أن كيف لطلب التصور، وأن السؤال عن السبب المطلق لا يؤكد؛ لأنه إنما يفيد لو كان معنى كلامه، وهذا مما لا قائل به، إنه لا قائل بوجوب إنه صالح، بل المعتبر جوازه وهو غير متعين، لجواز أن يكون معناه، ولا قائل بأنه صالح في جواب كيف زيد؟ ولك أن تبصر ما فهم المعرض من كلام الشيخ بأن السؤال بأمثال كيف التصديق الخاص عند التحقيق، إلا أنه لما كان تحصيل ذلك التصديق بإلقاء قيد. قالوا: إنها لطلب التصور، والاستعمال الموثوق به يفيد صحة التأكيد في الجواب.

قال تعالى في جواب ما هي؟ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ (1) والحمل على أن التأكيد هنا لإظهار الرغبة لا لكونه كلاما مع السائل خلاف الظاهر، واعترض السيد السند بأن ما ذكره وجها لتقييد الأصل بأن يكون للسائل ظن على خلاف ما أنت مجيبه لا يتجه؛ لأنه يمكن أن يجعل الأصل وهو الأولى أنه إن كان التردد في أصل التصديق الذي في الجملة الخبرية كما في قولك: هل زيد قائم؟ فهناك يؤكد الجملة، وإن كان عن تفاصيل الأطراف والقيود التي فيها فلا حاجة إلى التأكيد؛ إذ المطلوب بحسب الظاهر هو التصور، وأجيب بأنه لم يبن التقييد على

(1) البقرة: جزء من الآية 69.

ص: 237

عدم استقامة إطلاق الأصل، بل على الاستقراء، وليس بشيء لأنه لو كان كذلك لقال؛ لأنه يؤدي أن يستقيم في جواب غير الظان التأكيد، وهذا مما لا قائل به.

نعم يرد أنه يؤدي ما ذكره من الأصل أن لا يؤكد جواب من يقول أزيدا ضربت؟ وهو خلاف ظاهر كلام القوم. فالضابط ما ظهر من شرح كلام المتن، ويمكن أن يقال: مراد الشيخ باشتراط أن يكون للسائل ظن على خلاف الجواب الكون بالقوة القريبة من الفعل، وذلك بأن يكون مترددا في خصوص الحكم الذي يجاب به، فإنه إذا تردد بين الطرفين وصارا ملحوظين له فكلا منهما في معرض الرجحان؛ وقريب من حصول التصديق، فكل ما يجيب به سؤاله فهو على خلاف ما هو مظنونه بالقوة القريبة، وحينئذ يوافق ما ذكره كلام المصنف.

(وإن كان) المخاطب (منكرا) للحكم حاكما بخلافه فالمنكر اسم فاعل، وجعله اسم مفعول منكر، وإن كان له وجه صحة (وجب توكيده) أي الحكم (بحسب الإنكار) أي بقدر الإنكار. أي: زائدا على قدر ما للسائل بالغا ما بلغ، على حذو الإنكار؛ فله فائدتان:

إحداهما: اشتراط أن يكون زائدا على قدر تأكيد المتردد.

وثانيهما: أنه متفاوت بحسب المقامات، وإن اقتصر الشرح على بيان الفائدة الثانية.

يرشدك إلى ما ذكرنا جواب أبي العباس المبرد (1) لأبي إسحاق المتفلسف الكندي حين سأله قائلا: إني أجد في كلام العرب حشوا؛ يقولون: عبد الله قائم، ثم يقولون: إن عبد الله قائم، ثم يقولون: إن عبد الله لقائم، والمعنى واحد! ! وذلك أن قال: بل المعاني مختلفة. فقولهم: عبد الله قائم إخبار عن قيامه، وقولهم: إن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل، وقولهم: إن عبد الله لقائم جواب عن إنكار منكر قيامه.

***

(1) المبرد: هو أبو العباس محمد بن يزيد الأزدي البصري النحوي اللغوي ولد في ذي الحجة سنة 210 هـ وتوفي في شوال سنة 285 هـ.

ص: 238

هذا وما ذكره المصنف في قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (1) من أنه أكد إثبات البعث تأكيدا واحدا، وإن كان مما ينكر؛ لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بأن لا ينكر، بل غايته أن يتردد فيه، فنزل المخاطبون منزلة المترددين فيه تنبيها على ظهور أدلته، وسيزيد رشدك بالتأمل في أجوبة رسل عيسى عليه السلام.

وبهذا عرفت أن في بيان مقامات الإخبار ذبّا عن كلام العرب طعن الطاعن، بل اجتراء القاصر المجترئ على الكلام المعجز، وإن في قوله: وقد يخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر دفعا لما يكاد يعود. ونقول: نجد في مقام الإخبار من غير الجواب، ورد الإنكار أن: إن عبد الله قائم، وفي مقام رد الإنكار: عبد الله قائم (ك): إن عبد الله لقائم، وفي جواب السائل: عبد الله قائم.

فإن قلت: كيف صح اشتراط كون التأكيد على قدر الإنكار وكيف يزول به الإنكار لو لم يكن زائدا على قدره؟ قلت: إذا تعارض التأكيد والإنكار تساقطا فبقي أصل الخبر مقيدا (كما قال الله تعالى) استشهاد على وجوب التأكيد على حذو الإنكار أزيد من التردد، وعلى تفاوت مقامات الإنكار في طلب التأكيد (حكاية عن رسل عيسى) هو بولش بفتح الباء الموحدة وسكون الواو وفتح اللام والمعجمة، ويحيى، وشمعون، وهو الثالث الذي عززا به بعد تكذيبهما.

وما في الشرح أنهم: شمعون ويحيى والثالث الذي هو بولس، أو حبيب النجار غير موثوق به، كما اعترف به الشارح ونبه عليه في حاشية الكتاب: إذ كذبوا- لا يصح تعلقه بالحكاية، ولا بقال بل بمفعول بالحكاية، والتقدير حكاية عن رسل عيسى قولهم: إذ كذبوا، والمراد: إذ كذب بعضهم، كما يقال:

قتل فلانا بنو فلان، والقاتل واحد منهم، إذ المكذب في المرة الأولى اثنان، بدليل قوله تعالى إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (2) ولحل الكلام وجه آخر للشارح المحقق، وهو أن تكذيب الاثنين تكذيب للثلاثة لاتحاد المرسل والمرسل به، يعني: أن منشأ التكذيب أنهما لا

(1) المؤمنون: 16.

(2)

يس: 14.

ص: 239

يصلحان أن يكونا مرسلين من هذا العظيم، في هذا العظيم، وهو بعينه جار في الثالث.

وللفاضل المحشي للشرح وجه آخر، وهو أن في المرة الأولى والثانية متعلقان إما بقال أو بالحكاية لا بكذبوا، فلا يلزم تكذيب الرسل في المرة الأولى، ولا ينافي كون المكذب اثنين لا غير، ولا يتجه عليه ما توهمه أنه حينئذ لا يكون المحكي عنه رسل عيسى بل رسولين؛ لأن القول المرسل بعد تكذيب الاثنين فهم المحكي عنهم.

نعم، يتجه أن المحكي عنهم ليس قولهم وقت تكذيب الثلاثة بعد تكذيب الاثنين، ويحتاج إلى اعتبار وقت تكذيب الثلاثة، ممتدا من وقت تكذيب الاثنين إلى وقت تكذيب الثلاثة، كما يحتاج في توجيهها إلى اعتبار وقت تكذيب الاثنين ممتدا إلى وقت قول الثلاثة وتوجيه الشارح وإن استغنى عنه لكن احتاج إلى جعل تكذيب الاثنين تكذيبا للثلاثة قبل إخبارهم، فلكل وجهة هو موليها، والفاضل المحشي أجاب عن إشكاله بما لا يكشف إلا عن إهماله، فليكتف بحكاية سؤاله، وكشف حاله.

(في المرة الأولى) متعلق بما عرفت في المرة الأولى أو الثانية إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (1) مقول قال، أو قولهم على اختلاف القولين أكد للمنكر في أول مرتبة الإنكار (بأن) وخلو الجملة عن الدلالة على الزمان، مع أن الظاهر فيها:

إنا إليكم أرسلنا؛ إذ خلو الجملة عنها والعدول عنها يشعر بدعوى الاستمرار الدال على المبالغة في تحقق مضمون الجملة؛ لأن تأكيد المنكر فوق تأكيد المتردد، كما أرشدت، وهذا مزيد إرشاد: وعدت فلا تغفل.

ولعل هذا مراد الشارح بقوله: مؤكدا باسمية الجملة، وإلا فاسمية الجملة من ضرورات إيراد كلمة إن فيخفى دلالتها على التأكيد.

(وفي) المرة (الثانية إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ)(2) يعني لما ظهر زيادة إنكارهم أكد على قدر ما ظهر من مراتب إنكارهم، لأنهم لم يقتصروا في المرة الثانية على

(1) يس 16.

(2)

يس: 15.

ص: 240

أصل الإنكار؛ بل بالغوا فيه حيث قالوا: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا (1) فنفوا نبوتهم بإثبات البشرية لهم؛ حيث اعتقدوا أن الرسول لا يكون بشرا، فأظهروا به إنكارهم، ثم زادوا في النفي بقولهم وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ (2) ثم بقولهم إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (3) فلا جرم أكد الحكم معهم ثلاث تأكيدات، وفيه بحث؛ لأنه لما تقرر أن الإنكار يستدعي زيادة تأكيد على التردد فلا بد له من تأكيدين، وللزيادة مرتين، لا بد من تأكيدين آخرين، حتى يكون التأكيد بحسب الإنكار، وقد وقع في الآية أربع تأكيدات، إلا أن الكلام مع صاحب المفتاح والمصنف في أنهما كيف تركا في الاستشهاد بكون التأكيد على قدر الإنكار في الآية على وجوب التأكيد بحسب الإنكار التأكيد بالقسم، وهو: رَبُّنا يَعْلَمُ (4) فإنه جعله الزمخشري جاريا مجرى القسم في تأكيد الحكم، ولا ينفع في دفع ما ذكرنا ما كتب الشارح في حاشية شرحه بيانا لنكتة عدم عد القسم من جملة المؤكدات، من أن الكلام في المؤكدات المتصلة بالحكم، والقسم جملة برأسه.

هذا وقد استصعب نفي رسالتهم بإثبات بشريتهم؛ إذ البشرية تنافي الرسالة من الله، لا الرسالة من عند عيسى، والرسل كانوا يدعون الرسالة من عنده لا من عند الله.

ومعنى قولهم (إنا إليكم مرسلون) من عند عيسى- عليه السلام، وأجاب الشارح المحقق عنه بما استفاده من عبارة الكشاف حيث قال: فدعاهما- أي رسولي عيسى- الملك أي ملك أنطاكية فقال: من أرسلكما؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك، فقال صفاه وأوجزا، قالا: يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، من أنه كان الرسل دعوهم على وجه ظنوهم أصحاب وحي ورسلا من الله، بناء على أن الرسالة من رسول الله رسالة من الله.

هذا يعني في وجوب انقياد ما يبلغ، والتصديق له، وأشار بقوله: ولأن

(1) يس: 15.

(2)

يس: 15.

(3)

يس: 16.

(4)

يس: 16.

ص: 241

الجد إلى رجحان هذا التوجيه، وإلى أن له توجيها آخر إلا أن السيد السند زيف هذا التوجيه واستبعده جدّا؛ لأن الرسل إنما أرسلوا إلى أصحاب القرية ليدعوهم إلى عيسى- عليه السلام والتصديق بنبوته، والانقياد لدينه، فإيهامهم إياهم أنهم أصحاب وحي من الله بلا واسطة رسول مستبعد جدّا، فلا يليق أن يوجه به فضلا عن أن يكون توجيها راجحا؛ بل الظاهر أن مرادهم: إنا إليكم مرسلون من عيسى بأمر الله، وأن تكذيبهم إنما هو في كون مرسلهم رسولا من الله، لا في كونهم مرسلين من ذلك الرسول، وأن الخطاب في قوله (إن أنتم) يتناول الرسل والمرسل معا على طريق تغليب المخاطبين على الغائب، فيكون نفي الرسالة عنهم تغليبا له عليهم، كأنهم أحضروا عيسى- عليه السلام خاطبوه بنفي رسالته من الله، مبالغة في إنكارها.

ونظير ذلك في الاشتمال على التغليبين أن يبلغ جماعة من خدم السلطان حكمه إلى أهل بلد فيقولوا في ردهم: إن حكمكم لا يجري علينا؛ إذ فينا من هو أعلى يدا منكم، هذا ونحن نقول أولا: إن استبعاده لتوجيه الشارح ليس بذاك لجواز أن يقولوا: حكم الله في حقكم أن تصدقوا عيسى في جميع ما جاء به، فإن فيه دعوتهم لهم إلى عيسى على وجه يوهم أنهم أصحاب وحي.

وثانيا: إنه يحتمل أن يكون المقصود بالنفي في إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا مع دخول عيسى- عليه السلام في الخطاب نفي إمكان رسالتهم عن الله، فيدخل عيسى في نفي الإمكان، ويثبت نفي رسالته على آكد وجه، فلا يكون في الكلام إلا تغليب واحد، والأظهر أن المراد بقوله (إنا إليكم مرسلون) إنا إليكم مرسل أحكامنا، ويؤيده جدّا قولهم:(وما أنزل الرحمن من شيء) فإنه ظاهر في نفي كون الأحكام مرسلة.

(ويسمى الضرب) النوع (الأول) أي الكلام الملقى مع الخالي سواء نزل منزلة المتردد أو المنكر أو لا (ابتدائيّا) فقوله تعالى: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (1) ابتدائي، وإنما سمي به لأنه ابتداء كلام من غير سبق طلب، أو إنكار، كذا نقل عن المصنف، وتبعه السيد السند في شرح المفتاح، والأظهر: لأنه إحداث صورة

(1) هود: 37.

ص: 242

نسبة في المخاطب من غير سبق خطورها في نفسه.

ولا يصح أن يقال: لأنه أصل الكلام، والطلبي أو الإنكاري يحصل بزيادة لأنه يشكل بقوله: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فإنه ابتدائي، وبقوله لا رَيْبَ فِيهِ (1) فإنه طلبي ويمكن توجيهه فتأمل. وقيل: لأنه مبني على ما أصل المخاطب أن يكون عليه، ولذا يعتبر خاليا ما لم يشهد شاهد على خلافه.

(والثاني طلبيّا، والثالث إنكاريّا) ولو قال: والخلو والطلب والإنكار ظاهر الحال، والوجوه التي تتبعها مقتضى الظاهر لكان قوله:(وإخراج الكلام عليها) أي على مقتضاها (إخراجا على مقتضى الظاهر) أي مقتضى ظاهر الحال في غاية الظهور.

وفي المفتاح: وإخراج الكلام في هذه الأحوال، يريد الخلو، والطلب، والإنكار على الوجوه المذكورة، يريد الخلو عن التأكيد، والتأكيد وزيادته إخراج مقتضى الظاهر هذا ومقتضى الظاهر ومقتضى خلافه كلاهما مقتضى الحال، كما أن ظاهر الحال وباطنه كلاهما حال، فمقتضى الظاهر أخص من مقتضى الحال، لأن التسمية هنا ذكر بالتركيب الإضافي، فمنع الأخصية منع لما حكم به صريح العقل، فلا يقبل، وإن جعله الشارح المحقق مستندا بأنك إذا جعلت المنكر كغير المنكر وأكدت الكلام عملا بمقتضى الظاهر تحقق مقتضى الظاهر بدون مقتضى الحال؛ لأن الحال يقتضي ترك التأكيد، مع أن السند مندفع بأن الحال هو الأمر الداعي إلى التكلم على وجه مخصوص.

فالإنكار مع تنزيله منزلة لا ليس حالا، فليس التأكيد مقتضى الظاهر، ولا مقتضى الحال. ولو نازعت زاعما أن الحال ما يدعو إلى ذلك في الجملة غير مقيد بحال الدعوة، وجارينا معك فنقول: ليس التأكيد بعد مقتضى الحال؛ لأن التنزيل مانع عن اقتضائه، وكيف لا ولو كان التأكيد حينئذ مقتضى الحال لكان الكلام مطابقا لمقتضاها فكان بليغا، مع أنه بمراحل عن البلاغة، لا بما ذكر الشارح من أنا لا نسلم، ليس على وفق مقتضى الحال؛ لأن المقتضي لترك التأكيد هو الحال بحسب غير الظاهر لا مطلق الحال، ولا يلزم من كونه على خلاف

(1) البقرة: 2.

ص: 243

مقتضى الحال بحسب غير الظاهر كونه على خلافه مطلقا، لأن انتفاء الخاص لا يوجب انتفاء العام على أنه لا معنى لجعل الإنكار كلا إنكار، ثم تأكيد الكلام؛ إذ لا يعرف اعتبار الإنكار وعدمه إلا بالتأكيد وتركه؛ لأن منع السند غير مسموع. على أنك سمعت ما يدل على أنه ليس مقتضى الحال، وكون التأكيد في الصورة المذكورة، مقتضى الحال لا يتوقف على الإتيان به، حتى يضر سلب المعنى عن الإتيان به أحسن التأمل، فإن هذا من مراقي التعقل.

(وكثيرا ما) أي إخراجا أو زمانا كثيرا غاية في الكثرة أو (يخرج) الكلام (على خلافه) حال كونه كثيرا كذلك، ولقد أعجب حيث وسم قسم المخرج على خلافه بالقلة، حيث قال: وقد ينزل العالم بهما منزلة الجاهل، والمخرج على خلافه بخلافها.

قال الشارح المحقق: يعني أن وقوعه في الكلام كثير في نفسه لا بالإضافة إلى مقابله، حتى يكون الإخراج على مقتضى الظاهر قليلا، وكأنه استبعد كون مواقع مقتضى الظاهر أقل من خلافه، فعدل في شرح العبارة عن مقتضى الظاهر.

ونحن نقول: مقتضى الظاهر أقسام ثلاثة: الكلام مع الخالي والمتردد والمنكر، وأقسامه خلاف مقتضى الظاهر تسعة: الكلام مع العالم ثلاثة لتنزيله منزلة الحال، أو المتردد، أو المنكر، والكلام مع الخالي المنزل منزلة المتردد أو المنكر؛ لأن الخطاب ينافي التنزيل منزلة العالم، والكلام مع المنكر المنزل منزلة آخرين، والكلام مع السائل المنزل منزلتهما، وكثرة أقسام الشيء تقتضي بكثرته.

على أن الظاهر أن المراد أنه في مقام وجد وجه التنزيل يجوز الوجهان، أو التنزيل أكثر من الجري على مقتضى الظاهر؛ لأن البليغ أميل به لدقته لكن ذلك يستدعي وصف التنزيل منزلة العالم بالكثرة. (فيجعل غير السائل) تفصيل لإخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، أو هو متناول يجعل العالم والخالي والمنكر (كالسائل) إلا أنه ينزل العالم منزلة السائل بعد تجهيله، فتنزيله منزلة الجاهل ودخوله في قوله: وقد ينزل العالم بهما منزلة الجاهل لا يغني عن إدخاله في هذا البحث لأنه بعد تنزيله منزلة الجاهل لتنزيله منزلة الخالي مقام، ولتنزيله منزلة

ص: 244

السائل مقام، ولتنزيله منزلة المنكر مقام.

وقوله: (إذا قدم إليه ما يلوح له بالخبر) أي ما يدعو المخاطب إلى الخبر ويجعله متوجها إليه متأملا فيه في مقدمة جار الله: لوح للكلب بالرغيف، خواندسك رابسوي نان، وفسره الشارح المحقق بالإشارة، أي ما يشير للمخاطب إلى الخبر، وما ذكرنا أظهر، مشترك بين الثلاثة؛ لأن تقديم الملوح يستدعي جعل العالم المنزل منزلة الجاهل منزلا منزلة السائل، وتقديم الملوح ربما يؤثر في المنكر فيجعله مترددا.

فقول السيد السند: إن المراد بغير السائل الخالي لأن تقديم الملوح إنما يعتبر بالقياس إلى الخالي، وأما تنزيل العالم منزلة السائل فراجع إلى تجهيله بوجه ما، وداخل فيه، وتنزبل المنكر منزلة السائل داخل في قوله: والمنكر كغير المنكر، ففيه أبحاث لا يخفى على مثلك.

ولما كان تقديم الملوح محتملا لأن يكون موجبا لإزالة التردد، وأن يكون موجبا للتردد احتاج إلى تقييده بقوله (فيستشرف له استشراف الطالب المتردد) أي بالقوة القريبة من الفعل، لا أن يصير مترددا بالفعل، وإلا لكان الكلام معه مؤكدا على مقتضى الظاهر، والاستشراف أن تنظر إلى الشيء كالمستظل من الشمس ببسط كفك فوق حاجبك، وهو متعد بنفسه، يقال: استشرف الشيء فحق العبارة فيستشرفه إلا أنه بقي في كلامه لام تقوية العمل التي في عبارة المفتاح بعد اختصاره؛ لأن عبارته هكذا، فيتركه مستشرفا له، فلما وضع «مستشرف» مكان «فتركه مستشرفا» غفل عن أن لام التقوية لا يدخل معمول الفعل متأخرا، كما يدخل معمول شبه الفعل، فبقي في كلامه، وصار مختلا، ولولا أن الاختلال بحسب العبارة أهون منه بحسب المعنى لجعلت ضمير له للملوح لا للخبر، أي: فيستشرف لأجل الملوح الخبر.

وينبغي أن يعلم أن التنزيل منزلة السائل لا يستدعي سبق الملوح بل يستدعي أن يكون معه ما يجعله في عرضة المتردد، ككون الخبر مستبعدا، أو كون المخبر متهما بالسهو أو الكذب، وكأنه خص تقديم الملوح بالذكر لكثرة وقوعه.

***

ص: 245

نحو وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) (1) قالوا: أي: لا تدعني يا نوح في شأن قومك، واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك.

هذا وكأن هذا النهي لما علم منه تعالى بعلمه القديم أنه سيدعو ربه لنجاة ابنه، ويحتمل- والله أعلم- النهي عن المخاطبة في طلب العذاب لهم، كما قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (2) يعني: لا تدعني بعد لعذابهم فإنهم قد حكم عليهم بالإغراق، وبالجملة هذا الكلام يشير إلى توجه العذاب إليهم، فتكاد النفس تلتفت إليه، ويتردد، وبعد الجزم به أيضا، يحتمل أن يتردد في أنه الإغراق، لأنه واحد من جنس العذاب، سيما وقد سبق وَاصْنَعِ الْفُلْكَ (3) فلذلك قال إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ مؤكدا، واكتفى المصنف في تعيين الملوح بقوله: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ولم يذكر وَاصْنَعِ الْفُلْكَ مع أنه الذي يدور عليه الانتقال إلى الإغراق إشارة إلى أن قوله وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا يكفي في التنزيل منزلة السائل؛ لأنه يكفي الإشارة إلى جنس الخبر، ولا تجب الإشارة إلى خصوصية الخبر.

فإيهام كلام الشارح حيث قال: فهذا الكلام يلوح بالخبر ما سبق من قوله:

وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا إنه قصر، حيث اقتصر على قوله وَلا تُخاطِبْنِي لأن قوله وَاصْنَعِ الْفُلْكَ من تتمته مما لا يلتفت إليه، وجعل صاحب المفتاح قوله تعالى: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ (4) منه، وأشار إلى الفرق بينهما، وكان وجه الإشارة أن فيه تأكيدين:

أحدهما: لتنزيله منزلة الحكم المطلوب لتقديم الملوح.

وثانيهما: لأن الحكم مما يقبل الوهم على إنكاره لكمال نزاهة يوسف وطهوره، فقد اجتمع فيه التنزيلان؛ ولأن أمر النفس مما يتردد فيه السامع، وكذا كونها غاية فيه على ما تفيده صيغة المبالغة، وكون الحكم مما لا يقبله الوهم على تقدير كون النفس «نفس يوسف فقط» ، أو عاما، وكون الاستثناء منقطعا. بمعنى:

(1) هود: 37.

(2)

نوح: 26.

(3)

هود: جزء من الآية 37.

(4)

يوسف: 53.

ص: 246

لكن رحمة ربي تصرف عن الإساءة، أو ظرفا ظاهرا، وأما على تقدير كون المستثنى متصلا غير ظرف بمعنى إلا البعض الذي رحم ربي ففيه خفاء لا يدفعه ما ذكره السيد السند في حواشي شرحه على المفتاح من أنه: لا يقبله الوهم قبل الاستثناء، فتأكيد الحكم لدفع هذا الإنكار، بل هو معجب؛ لأن الحكم قبل الاستثناء مما يجب أن ينكر، فكيف يؤكد لدفع الإنكار على أنه لا حكم قبل الاستثناء فضلا عن أن يؤكد؟

وغاية ما يمكن أن يقال في توجيهه: إن إقبال الوهم لإنكار الحكم قبل الاستثناء بجعل المخاطب منكرا لما يقوله المخاطب، ومعرضا عن قوله، فالتأكيد لكلامه لا ما قبل الاستثناء لدفع إنكار تعلق به إجمالا. ومما يجب التنبيه عليه أنه قال صاحب المفتاح: إنه نزل من لا يكون سائلا منزلة السائل، فتخرج الجملة مصدرة بأن.

وقال السيد السند: تأكيد هذا النوع في الاستعمال بأن دون غيرها وكأن السر فيه كون هذه الكلمة علما للتأكيد.

وقال الشيخ عبد القاهر: إن في هذه المقامات يعني بعد الأوامر والنواهي والأحكام لتصحيح الكلام السابق والاحتجاج له وبيان وجه الفائدة، وتغنى غناء الفاء.

وقال السيد السند في شرح المفتاح: وزيف بأن هذا لجعل «إن» بمنزلة «أن» للغفلة عن أن (إن) لا تفيد السببية بنفسها، بل بحذف اللام معها، ولم يقل:

ويجعل السائل كغير السائل على طبق قوله، ويجعل المنكر كغير المنكر، لأن حكم السائل متعين بخلاف حكم غير السائل، فإنه مجمل فيه تفصيل.

وكذلك قوله: (ويجعل غير المنكر كالمنكر) أوضح من قوله: ويجعل المنكر كغير المنكر، فلذا قدمه، ولكن بقي من تفصيله جعل السائل كالخالي إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع عن التردد، فكأنه اعتمد على سهولة معرفته بالمقايسة، ونحن سنجعله داخلا تحت قوله: وهكذا اعتبارات النفي مترقب، فإنه من فوائدنا الشريفة، وغير المنكر أعم من السائل والعالم والخالي، فكلهم يجعل كالمنكر.

ص: 247

(إذا لاح) أي بدا (عليه شيء من أمارات الإنكار) وما يوقع في ظنه، وكذا إذا كان الحكم بعيدا عن القبول، فالتقييد تقييد بما هو أكثر (كقوله) أي قول حجل بن فضلة وهو بالفتح من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم، وأما حجل الشاعر بالتحريك فهو عبد لمازن [جاء شقيق] هو اسم رجل فإن كان هو المخاطب كما يستدعيه آخر البيت ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة على طريقة السكاكي، ففي قوله: إن بني عمك التفات متفق، وإن كان المخاطب غيره فلا التفات، بل المعتبر تقدير القول أي قلت له: إن بني عمك فيهم رماح [عارضا] أي واضعا على عرضه [رمحه] من عرض السيف على الفخذ، وهذا من طرق إظهار الشجاعة وعدم المبالاة بالخصوم، فهو لا ينكر أن في بني عمه رماحا، لكن يعمل عمل المنكرين المعتقدين أنهم ليسوا أرباب سلاح، ولا يخفى أن قوله:[إنّ بني عمّك فيهم رماح](1) بمعنى أن فيهم رماحا يعمل كرمحك أو فوقه، وأنهم أشجع منك.

وحينئذ لا يظهر أن يكون من جعل المنكر كغير المنكر، بل لا يبعد أن ينكر وجود مثله فيهم، ويحتمل أن يكون تهكما معه أي هو ممن لو علم أن فيهم رماحا لا يحمل الرمح من خوفهم.

(والمنكر كغير المنكر إذا كان معه) المنكر (ما إن تأمله) أي تأمل فيه؛ لأن التأمل النظر في الأمر (ارتدع) عن إنكاره بأن ينتقل إلى مرتبة التردد أو خالي الذهن، ومعنى كونه معه: أن يكون معلوما له ولو بالقوة القريبة من الفعل، إذ يكفي في التنزيل ذلك، ولا يجب كونه معلوما بالفعل، وهاهنا بحث شريف نرجو أن يكون من خزائن الغيوب لا من دفائن الغيوب؛ وهو: أن الكلام حينئذ هل هو من قبيل تنزيل المنكر منزلة غيره؟ أو من قبيل جعل جامعه من قبيل المؤكد في إزالة الإنكار؟ فلا يكون على خلاف مقتضى الظاهر؟

لأن الكلام مع المنكر لا بد له من مزيل إنكار تأكيدا كان أو غيره.

واعلم أن الظاهر وقد يجعل المنكر كغيره، ولا يظهر وجه لجعل الظاهر موضع

(1) البيت لحجل بن نضلة الباهلي، وهو شاعر جاهلي والبيت في الإيضاح (24)، ودلائل الإعجاز (304)، والمصباح (6) والبيت الذي بعده:

هل أحدث الدهر لنا ذلّة

أم هل رنت أم شقيق سلاح

والشاهد في قوله: «إن بني عمك فيهم رماح» وهو تنزيل العالم منزلة المنكر.

ص: 248

المضمر.

نحو لا رَيْبَ فِيهِ (1) ظاهره: أن المثال لما نحن فيه حتى يكون خبرا مع المنكر ترك فيه التأكيد لجعله كغير المنكر، وفيه أن الإنكار حق، لوجود كثير من المرتابين، فكيف يكون حقه التأكيد لرد الإنكار؟ وإن (لا) لنفي الجنس في النفي بمنزلة (إن) في الإثبات، صرح به أئمة النحو، فيكون فيه التأكيد، فالحق أن يعدل عن الظاهر، ويقال: إنه مثال لمجرد جعل المنكر كغير المنكر، لا لجعل المنكر للخبر الملقى كغيره، فإنه تعالى أراد إنكار المنكرين المبالغين في الإنكار أنه من عند الله، فقال: لا رَيْبَ فِيهِ تنبيها على إنكارهم كلا إنكار، وإنما غاية الأمر فيه الريب، فأتى بنفي الريب في مقام نفي الإنكار.

وقد نبه في الإيضاح (2) على أنه لم يقصد بالتمثيل لخصوص ما فيه حيث قال: وعليه قوله تعالى في حق القرآن: لا رَيْبَ فِيهِ وإنما مثل به تنبيها على أن جعل وجود الإنكار كعدمه من المقاصد التي ربما يقصد بحاق اللفظ فيصح صحة قصده من كيفيات التراكيب، وجعله من المستتبعات كمال اتضاح، ولك أن تجعل قوله: وهكذا اعتبارات النفي حينئذ على أنه هكذا باقي اعتبارات النفي، في جعله مقصودا بالعبارة، وهذا تقرير بديع لا يخفى حقه على من له قدر رفيع، وإن غفل عنه الناظرون.

وللشارح المحقق هنا مسلك آخر سلكه السالكون، فلا علينا أن نذكره، وما أدى إليه النظر فيه، وهو أنه استشكل كونه مثالا، لما نحن فيه لوجهين:

أحدهما: أنه لا يصح نفي الريب فضلا عن أن يجب تأكيده، كما سمعت.

وثانيهما: أنه لا ريب فيه تأكيد لذلك الكتاب كما سيجيء في بحث الفصل، فهو لتأكيد الحكم ورد الإنكار، فلا يقتضي التأكيد حتى يكون ترك التأكيد خلاف مقتضى الظاهر، وأوجب لذلك العدول عن جعله مثالا إلى جعله نظيرا لما نحن فيه، في أنه جعل فيه وجود الشيء وهو الريب منزلة عدمه. وأجاب عن الأول بأن مبنى التمثيل ليس جعل وجود الإنكار كعدمه، بل توجيه الكشاف، وهو

(1) البقرة: 2.

(2)

انظر الإيضاح ص 24.

ص: 249

أن نفي الريب بالكلية عبارة عن نفي كونه محلا للريب، وإنما وقع الريب لعدم التأمل، والنظر فيه، كما هو حقه، وهذا حكم صحيح ينكره كثير من الأشقياء، حقه التأكيد لإزالة إنكارهم، إلا أنه جعل إنكارهم لهذا الحكم كلا إنكار، فلذا ترك التأكيد.

وعن الثاني بأن ما سيجيء أنه بمنزلة التأكيد المعنوي، والتأكيد المعنوي لا يدفع إلا التجوز، ويدفع التجوز لا يتأكد الحكم بحيث يزول به إنكار المنكر، وإنما هو شأن التأكيد اللفظي- أعني تكرير اللفظ الأول وما هو بمنزلته- فلا يتجه على المصنف، نعم يتجه لو كان الأمر كما ذكره الشيخ أنه بمنزلة أن يقول ذلِكَ الْكِتابُ ذلك فيعيده مرة ثانية.

هذا ولا يخفى أنه لا يندفع بما ذكره ما أثبتناه من تأكيد (لا) للنفي مع زيادة أنه إذا كان نفي الجنس كناية عن نفي كونه محلا للريب كان في النفي مزيد تأكيد ومبالغة يفيده سلوك طريق الكناية، وأنه مع كون المقصود تنزيل وجود الريب منزلة عدمه لا يجب أن يكون نظيرا لا مثالا لما نحن فيه.

فإن كون وجود الريب بمنزلة العدم ينكر كثير من الأشقياء فيجب التوكيد، وتركه لتنزيل المنكر منزلة غيره، وأن التأكيد اللفظي أيضا يكون لدفع التجوز، فيجوز أن يكون مراد الشيخ أن قوله: لا رَيْبَ فِيهِ بمنزلة التكرير في دفع توهم التجوز لا في تكرير الحكم، وتقويته، فيوافقه كلام المصنف.

(وهكذا اعتبارات النفي) لما لم يكن في البيان السابق ما يوجب تخصيصه بالإثبات؛ بل كان مستوى النسبة بالإثبات والنفي اتجه أن قوله هذا تطويل، فللإشارة إلى دفعه قال الشارح المحقق: ولما كانت الأمثلة المذكورة للاعتبارات السابقة من قبيل الإثبات سوى قوله: لا رَيْبَ فِيهِ إشارة إلى التعميم دفعا لتوهم التخصيص.

وقال السيد السند: إن هذا القول يقتضي أن يكون لا رَيْبَ فِيهِ تنظيرا حتى يكون لتوهم التخصيص مسلك واضح، هذا والأظهر أن هكذا إشارة إلى أمثلة الإثبات يعني كأمثلة الإثبات أمثلة النفي، فمن أحاط بها سهل عليه استخراج أمثلة النفي، وهذا أوفق بعبارة الإيضاح حيث قال: هذا كله

ص: 250

اعتبارات الإثبات، وقس عليها اعتبارات النفي، كقولك: ليس زيد، أو: ما زيد منطلقا، أو بمنطلق، وما ينطلق، أو ما إن ينطلق زيد، أو ما كان زيد ينطلق، أو ما كان زيد لينطلق، ولا ينطلق زيد، ولن ينطلق زيد، والله ما ينطلق، أو ما إن ينطلق زيد. هذا وكيف لا وقوله هذا كله اعتبارات الإثبات نص في كون السابق مختصّا بالإثبات، فكيف يصح جعل قوله: وهكذا اعتبارات النفي لدفع توهم التخصيص؛ ولعبارة الكتاب احتمال في نفسه جدير بأن يقطع لأجله النظر عن رعاية مطابقته لما في الإيضاح والمفتاح في هذا المقام، وهو أن باقي اعتبارات النفي مع وجود الشيء مثل ما مر؛ فإن كل ما مر نفي لما تحقق وجوده فيندرج فيه تنزيل السائل منزلة الخالي، كما أشرنا إليه.

وغير ذلك مثل: لا رَيْبَ فِيهِ على وجه، ومثل: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ (1).

واعلم أنه قال صاحب المفتاح: إن إخراج الكلام على مقتضى الظاهر يسمى في علم البيان بالتصريح، وخلافه يسمى بالكناية، ولما كانت الكناية في المشهور وعلى الوجه المذكور في البيان اللفظ المراد به لازم ما وضع له من غير قرينة مانعة عن إراداته، والتصريح اللفظ المراد به ما وضع له، ولم تكن المعاني المستتبعة للتراكيب مما وضع لها اللفظ، وكان اعتبارات الكناية والتصريح باعتبارها غير ظاهر، حتى لم يعلم أن هذا معنى آخر للكناية، والتصريح أو تجوز مبني على التشبيه، واشتبه مقصوده- أعرض عنه المصنف بالكلية، وما قال السيد السند: إن المعاني المستتبعة في عرف البلغاء هي المعاني الأصلية، يرده أنه لو كان كذلك لكان: زيد قائم بلا تأكيد مرادفا لقولنا: أنت خالي الذهن عن قيام زيد، فكما لا دقة ولا مزية لهذا الكلام لم تكن لزيد قائم، إذ السابق في دلالات عقلية وانتقالات غير وضعية يكشف عن مزيد ذكاء وفطنة، ولا منقبة في الانتقالات المبنية على الأوضاع، أو يستوي فيه الخواص والعوام.

وأيضا لا بد في الكناية من صحة إرادة المعنى الحقيقي.

وإذا ألقى الخالي عن التأكيد إلى المنكر، لا يصح أن يراد به: إنه خالي

(1) الأنفال: 17.

ص: 251

الذهن وما قال الشارح المحقق والسيد السند: إنه يصح الإرادة للانتقال إلى ملزومه الادعائي، وهي ما معه ما يزيل الإنكار لو تأمل على ما ذهب إليه السيد السند، وتنزيله منزلة الخالي على ما ذهب إليه الشارح ففيه: أنه لو اكتفى في الكناية بصحة الإرادة للانتقال، وإن امتنع المعنى الحقيقي لم يتميز المجاز عن الحقيقة، إذ لا مجاز إلا ويصح إرادة المعنى الحقيقي فيه للانتقال، فالتحقيق أن صحة إرادة المعنى الحقيقي للانتقال أنه يصدق المعنى الحقيقي، ويتحقق في المقام مثلا: جبان الكلب، يراد معناه الحقيقي لأنه كما أنه مضياف جبان الكلب، حتى لو لم يكن جبان الكلب لا يصح إرادته للانتقال إلى المضياف، بل يتعين المجاز.

وظاهر كلام الشارح أن الكناية نفس الإخراج على خلاف مقتضى الظاهر، فإنه يلزم تنزيل المخاطب منزلة غيره، فأريد باللازم ما هو الملزوم، كما هو مقتضي الكناية، ورده المحقق بأنه الكناية تقتضي إرادة الملزوم باللفظ الدال على اللازم، لا بنفس اللازم فح لا تتحقق الكناية إلا على سبيل التشبيه، وعبارة المفتاح واضحة في إرادة الكناية الاصطلاحية، ولا يخفى أنه مشترك بين كلام الشارح وكلامه على ما حققناه لك.

فالظاهر في الرد على الشارح أن يقال إذا كانت الكناية نفس الإخراج على خلاف مقتضى الظاهر كان التصريح أيضا نفس الإخراج على مقتضى الظاهر، وليس للإخراج على مقتضى الظاهر معنى يكون صريحا فيه، وأن إرادة التنزيل بإيراد الكلام على خلاف مقتضى الظاهر أشبه بالتصريح؛ لأنه أريد به من غير توسط شيء فهو بمنزلة إرادة الموضوع له من اللفظ، ولا بد في المشابهة بالكناية من أن يكون الانتقال من الإيراد إلى أمر يتوسل به إلى الانتقال إلى التنزيل، فلا يحسن إطلاق الكناية بطريق التشبيه أيضا.

ولعل مراد المفتاح: أن إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر في علم البيان يسمى بالكناية، لا بإخراج خلاف مقتضى الظاهر، وأراد بإخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر استعماله في غير ما وضع له، من ملزوم المعنى، لا هذا الإخراج بعينه، وكذلك مراده بإخراج الكلام على مقتضى الظاهر المسمى

ص: 252

بالتصريح في علم البيان، استعمال اللفظ فيما وضع له على ما هو وظيفة البيان، لا هذا الإخراج بعينه، وغرضه أن لكل من هذين الأمرين نظيرا في علم البيان، مسمى باسم آخر.

قال الشارح المحقق: وهاهنا بحث لا بد من التنبيه عليه، وهو أنه لا ينحصر فائدة أن في تأكيد الحكم نفيا لشك أورد الإنكار، ولا يجب في كل كلام مؤكد أن يكون الغرض منه رد إنكار محقق أو مقدر، وكذا المجرد عن التأكيد، هذا كلامه، وأراد بنفي وجود كونه لرد إنكار محقق أو مقدر ما يشمل رد الإنكار والتردد، وهو ظاهر.

وأراد بقوله: وكذا المجرد أنه لا يجب أن يكون التجريد لخلو الذهن حقيقة، أو تقديرا؛ بل يكون لغير ذلك، كأن يكون لأنه لا يروج من المتكلم على لفظ التأكيد، ولا يتقبل منه، وبنى عدم انحصار فائدة التأكيد فيما ذكر أو لا، بما نقل عن الشيخ عبد القاهر من أنه قد يدخل (أن) للدلالة على أن الظن كان من المتكلم في الذي كان، أنه لا يكون قولك للشيء وهو بمرأى ومسمع من المخاطب أنه كان من الأمر ما ترى، وأحسنت إلى فلان، ثم إنه فعل جزائي ما ترى وعليه قوله تعالى: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى (1) ورَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (2) ومن خصائصها أن لضمير الشأن معها حسنا ليس بدونها، بل لا تصلح بدونها نحو: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ (3) وإنه: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً (4) وإِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (5) ومنها تهيئة النكرة لأن يصلح مبتدأ كقوله:

إنّ شواء ونشوة

وخبب البازل الأمون

من لذّة العيش والفتى

للدّهر والدّهر ذو فنون (6)

(1) آل عمران: جزء من الآية 36.

(2)

الشعراء: 117.

(3)

يوسف: 90.

(4)

النساء: 110.

(5)

المؤمنون: 117.

(6)

الشعر لسلمى بن ربيعة التيمي، وهو في شرح الحماسة للتبريزي (3/ 83)، ودلائل الإعجاز للجرجاني (320)، ومفتاح العلوم (641)، والبازل من الإبل: الذي تناهت قوته في السنة التاسعة.

والأمون: الناقة الموثقة الحلق.

ص: 253

وإن كانت النكرة موصوفة تراها مع إن أحسن كقوله:

إنّ دهرا يلمّ شملي بسعدى

لزمان يهمّ بالإحسان (1)

ومنها: حذف الخبر نحو: إن مالا، وإن ولدا، أو إن زيدا، وإن عمرا، فإن أسقطت «إن» ، لم يحسن الحذف، أو لم يجز، انتهى كلام الشيخ فيما نقله من الشيخ.

أبحاث: الأول: أن جميع ما ذكره من تأكيد الكلام في هذه المواقع يحتمل أن يكون من فروع كونه ردّا لإنكار أو تردد، إما في صورة التأكيد فيما كان ظن المتكلم في الكائن، أو لا يكون؛ فلأنه وقع ما يستبعد فكأن الحكم في نفسه مظنة الإنكار، أو التردد، فيزول المخاطب به منزلة أحدهما توبيخا على وقوعه، أو تحزنا أو تحسرا إلى غير ذلك، وأما في إصلاحه ضمير الشأن أو تحسينه؛ فلأن إيراد ضمير الشأن لتأكيد الحكم، وتقريره في النفس بالإيهام أولا، ثم التفسير كما ستعرف فالتزم معه ما هو علم في التأكيد والتقرير تنبيها من أول الأمر على أن المقام مقام التحقيق والتقرير، وبذلك لا يخرج عن أن يكون المقصود نفي الشك، أو رد الإنكار، وأما في صورة تهيئة النكرة لكونها مبتدأ أو تحسين وقوعها مبتدأ فلأن ذلك لأن التأكيد مع المنكر أو المتردد وعدم صحته وقوع النكرة مبتدأ إنما هو في موقع لا يفيد الإخبار عن النكرة الصرفة؛ لقلة الفائدة لعدم تعينه. فإذا كان المخاطب بالحكم على النكرة منكرا له أو مترددا فيه كان الكلام غاية في الإفادة، وأما حذف الخبر مع أن وعدم حسنه أو جوازه بدونه فلأن الحكم المنكر يحذف فيه ما هو مناط الحكم من المحكوم به، لئلا يتوحش المنكر عن سماعه، ولا يتنفر عنه، فيتوجه إليه، فلعله يقبله بعد أن يجده بالتأمل.

الثاني: أن قوله تعالى (رب إني وضعتها أنثى) و (رب إن قومي كذبون) لإنشاء التحزن والتحسر، وليس خبرا، فيكون خارجا عما نحن فيه من تأكيد الخبر، ويمكن أن يدفع بأنه نقل من الأخبار بما كان ظن المخبر فيه أن لا يكون إلى إنشاء التحسر والتحزن؛ لأنه أدخل في ذلك، على أن المقصود أن فائدة التأكيد لا تنحصر في نفي شك أو رد إنكار؛ لأنه لا ينحصر في الخبر فيه، فيدل

(1) البيت أورده عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز (320).

ص: 254

عليه (رب إني وضعتها أنثى) مع كونه إنشاء أوضح دلالة.

الثالث: أن ما ذكره في ضمير الشأن يرده قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) على ما ذهب إليه المفسرون من حمله على الشأن، ودفعه الإمام في نهاية الإيجاز بأن مراده أن ضمير الشأن لا يدخل على الجملة الشرطية بدونها، ويرده تمثيل الشيخ بقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (2).

الرابع: أن (إن) ليس لتهيئة النكرة لكونه مبتدأ، لأن اسم إن ليس مبتدأ، فالصواب أن يقال: لتهيئة النكرة، لأن يصلح مسندا إليه، وبالجملة ينافي صحة دخول إن على النكرة الصرفة ما اشتهر فيما بين النحاة أن اسم إن مرفوع المحل لكونه مبتدأ قبل دخول إن؛ إذ النكرة الصرفة لا تصلح لكونها مبتدأ، مع وقوعها اسم إن، وثانيا بما نقله عن الكشاف أن ترك تأكيد المنافقين قولهم: آمَنَّا في مخاطبة المؤمنين لأنه لا يروج منهم التأكيد، أو لأنه لا تساعدهم أنفسهم على التأكيد لعدم نشاطهم في هذا الخبر، وعدم صدق رغبتهم، بخلاف قولهم إِنَّا مَعَكُمْ (3) في مخاطبة إخوانهم إذ هم فيه على صدق رغبة ووفور نشاط، وهو رابح عنهم متقبل منهم، فكان مظنة للتحقيق.

وفيه أنه يحتمل أن يكون التأكيد لصدق الرغبة لتنزيل المخاطب منزلة المنكر في أن المتكلم في مقام الإخبار له كالمخبر مع المنكر في كمال الاهتمام، بتقرير الخبر في ذهنه، وعدم التأكيد لعدم صدق الرغبة، لتنزيل المنكر منزلة الخالي في أنه ليس له مزيد اهتمام في الإخبار له، كما أنه ليس له مزيد اهتمام في الإخبار للخالي، إلا أن عدم الاهتمام هنا لعدم كون التقرير في ذهن السامع مطلوبا، وفي الخالي لعدم حاجته إلى مزيد الاهتمام بإيصال الخبر.

وثالثا: بما استخرجه من موارد الاستعمال حيث قال: وقد يؤكد الحكم بناء على أن المخاطب ينكر كون المتكلم عالما به، معتقدا له، كما تقول: إنك لعالم كامل، وعليه قوله تعالى: قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ (4) وإذا أردت أن

(1) الإخلاص: 1.

(2)

المؤمنون: 117.

(3)

البقرة: جزء من الآية 14.

(4)

المنافقون: 1.

ص: 255

تنبه المخاطب على أن هذا المتكلم كاذب في ادعاء أن هذا الخبر موافق اعتقاده يؤكد الحكم، وإن لم يكن مخاطبك منكرا ليطابق ما ادعاه.

وعليه قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ وأما قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ فإنما أكد لأنه مما يجب أن يبالغ في تحقيقه لأنه لدفع الإيهام، وإلا فالمخاطب عالم به وبلازمه.

هذا ولا يخفى عليك أن التأكيد للخبر الذي يفاد به لازمه لكون المخاطب منكرا له داخل في بيان المصنف؛ لأنه صرح بالحكم لأنه الأصل، ولظهور الأحكام فيه دون اللازم، وتأكيد إن المنافقين لكاذبون، ويحتمل أن يكون لتنزيل المخاطب منزلة المنكر، لأن من شأن المخاطب لحرصه على إيمان الأمة أن يقبل منهم مبالغتهم في اعتقادهم برسالته، وتأكيد وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ لأن المخاطب مع الموهم في عرضة الإنكار، فنزل منزلة المنكر، ولأمر ما اقتصر السكاكي والمصنف بعد تتبع كلام الشيخ والكشاف على ما ذكرا في التأكيد، وتركه والله تعالى أعلم.

ولما فرغ من بيان أحوال الإسناد، ذكر بيان الحقيقة العقلية والمجاز العقلي عقيبه ليعلم أن إسناد الشيء إلى شيء قد لا يراد به ظاهره، فيعلم أن من خاطب الموحد بقوله: أنبت الربيع البقل لا يحتاج إلى التأكيد، وليس تركه التأكيد مبنيا على التنزيل، إذ ما أريد به ليس ما ينكره الموحد، وللتعلم أن مخاطبة من سمع عنه: أنبت الربيع البقل بأنبت الله البقل لا يحوج إلى التأكيد، لأنه قوله: أنبت الربيع البقل لا يفيد إنكاره أنبت الله البقل، وإلا فبيان الحقيقة والمجاز العقليين كاللغويين مما يذكر في البيان، وإن كان له تعلق بالمعاني باعتبار أنهما قد يقتضيهما الحال.

ورعاية هذه الحيثية لا توجب تخصيص العقليين بالإيراد في المعاني، لشمولها للكناية، والمجاز اللغوي أيضا، وتصدير البحث «بثم» للتراخي الرتبي، لأنه ليس كسابقه مقصودا؛ بل متطفلا، وليس إيرادهما في المعاني من المصنف لزعم أنهما من المعاني على خلاف ما ذهب إليه المفتاح كما زعم الشارح، حتى يرد عليه بما ذكره من أنه لا فرق بينهما وبين اللغويين.

ص: 256