الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السببية فيصير اللفظ فصيحا، فإن الألفاظ تتفاوت باختلافات المقامات، كما سيجيء في الخاتمة، ولفظ ضِيزى ودُسُرٍ كذلك، هذا وفيه أنه يلزم حينئذ أن لا يكون التعريف للفصاحة جامعا لخروج فصيح غير خالص عن أسباب الإخلال مع وجوب ما يمنعها عن السببية، إلا أن يبالغ في التكلف، ويقال المراد بالخلوص أعم من الخلوص حقيقة، أو حكما، فإن المشتمل على مسبب الخلل مع مانع السببية في حكم الخالص.
[وفي الكلام خلوصه]
واعلم أن الوجوه المذكورة للنظر كلها راجعة إلى منع وجوب اشتراط الخلوص عن الكراهة في السمع بأسانيد مختلفة، فالمناقشة فيها مناقشة في السند الأخص عند التحقيق (و) الفصاحة (في الكلام خلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات) أي الكلمتين فصاعدا، وإلا لكان الكلام المشتمل على تنافر الكلمتين الخالص عن جميع ما ذكر مع فصاحة كلماته فصيحا لصدق تعريف الفصاحة على خلوصه، وليس إضافة الكلمات إلى الكلام معتبرة إذ المقصود تقييد التنافر بما يميزه عن تنافر الحروف والمعاني، وذا لا يستدعي إضافة الكلمات إلى الكلام، فافهم وحينئذ في إرجاع ضمير فصاحتها إليه إشكال؛ لأنه يصير المعنى مع فصاحة الكلمتين فصاعدا، فلا يستفاد اشتراط فصاحة جميع كلمات الكلام، وتقيد التنافر بالكلمات للاحتراز عن تنافر المعاني، فإنه لا يخل بالفصاحة، وعن تنافر الحروف لقصد درج الخلوص عنه في قوله: مع فصاحتها.
(والتعقيد مع فصاحتها) ظرف لغو للخلوص أي كون الكلام خالصا زمان فصاحتها، وجعله الشارح حالا من الضمير، وبالجملة احترز به عن خلوص زيد أجلل، وشعره مستشزر، وأنفه مسرج، فإنه ليس بفصاحة، ولهذا ليست فصيحات، فإن قيل لزيد أجلل خلوص مع فصاحة الكلمات لأنه حال قولك زيد أجل، له خلوص عن الأمور المذكورة، فله خلوص حال فصاحة كلماته، فلو كان الفصاحة الخلوص حال فصاحة الكلمات لكان زيد أجلل فصيحا! ! قلت:
ليس لزيد أجلل خلوص حال فصاحة الكلمات؛ لأنه ليس ذلك الخلوص مقارنا بتلك الفصاحة، فلو قيل زيد أجلل خالص حال فصاحة الكلمات لم يصدق، نعم إنه بحيث يخلص حال فصاحتها، وهذا كقولك: الكريم من يسخو حال
مكنته، فإنه لا يصدق على الفقير لو أردت به من له السخاء حال المكنة، ويصدق عليه لو أردت به من هو بحيث يسخو حال مكنته، ومن لم يفرق بينهما أجاب بأن زيد أجل ليس من أحوال زيد أجلل؛ لأنهما تركيبان مختلفان، وليسا واحدا له حالان، وإنما لم يذكر بحيث ذي الحال أو المتعلق بأن يقال: خلوصه مع فصاحتها من ضعف التأليف
…
إلخ، لئلا يلزم الإضمار قبل الذكر، ولا بعد قوله وتنافر الكلمات، ليكون أقرب بذي الحال أو عامله لئلا يتوهم كونه قيدا للتنافر، لأنه ظاهر الفساد، ومع ذلك قد وقع بعض الشارحين فيه وطول الشارح الكلام فيه في الشرح، وفيما كتب على حواشيه، وزاد بعض الأفاضل بما ليس الاشتغال به إلا تضييع الوقت في تحصيل ما ليس على الطائل، فتركناه لئلا يلزم على الناقل ما على القائل.
(فالضعف) فسر بأن يكون تأليف أجزاء الكلام على خلاف القانون النحوي المشهور فيما بين الجمهور، والمراد بشهرته ظهوره على الجمهور، فلا يرد أن قانون جواز الإضمار قبل الذكر أيضا مشهور؛ إذ كل من سمع قانون عدم الجواز سمع قانون الجواز، ويرد عليه أن العرب لم تعرف القانون النحوي فكيف يكون الخلوص عن مخالفة القانون النحوي معتبرا في مفهوم الفصاحة في لغتهم، فالصواب أن يقال: وعلامة الضعف أن يكون تأليف أجزاء الكلام
…
إلخ.
(نحو) ضعف (ضرب غلامه زيدا) يريد به مخالفة أنه لا يجوز إرجاع الضمير المتصل بالفاعل إلى المفعول به المتأخر، فإنه القانون المشهور عند الجمهور، وإن جوزه الأخفش، وتبعه ابن جنى، لا لأنهما جوزا الإضمار قبل الذكر لفظا ورتبة كما هو المشهور، بل لأنهما أنكرا الإضمار قبل الذكر، هنا يرشدك إلى ذلك تعليلهما الجواز بشدة اقتضاء الفعل المفعول به، كالفاعل، فالمفعول به إذا انفصل عن الفعل لفظا متصل به رتبة فلا إضمار قبل الذكر رتبة، ولهما شواهد رد بعضها بالتأويل، وبعضها بالشذوذ، فإن قلت: ما رد بقوله: شاذا إن قيل فيه بضعف التأليف فالأولى أن يرد فيه بعدم فصاحته، وإلا فينتقض به بيان ضعف التأليف! ! قلت: ما شذ مستثنى من القاعدة فلا يكون مخالفا لها.
(والتنافر) أن تكون الكلمات ثقيلة على اللسان كذا في الشرح، والأنسب بما
ذكره في تنافر الحروف أن يقال وصف في المركب يوجب ثقله على اللسان إما في نهاية الثقل كقوله: ([وليس قرب قبر حرب قبر])(1) صدره [وقبر حرب بمكان قفر] بالرفع أي هو قفر؛ يعني خال يكشف عن خلائه ما يعقبه، وقال الشارح:
أي خال عن الماء والكلأ واللفظ خبر، والمقصود تحسر في عجائب المخلوقات نوع من الجن يقال لها الهاتف، صاح واحد منهم على حرب بن أمية فمات، فقال ذلك الجني هذا البيت، وأما دون ذلك (وهو) مثل (قوله) أي أبي تمام في قصيدة يمدح بها موسى بن إبراهيم الرافعي، ويدفع عن نفسه تهمة أنه هجاه بعد أن عاتبه عليه، ووجه الدفع أنه كيف أذم من يمدحه جميع الناس وأشار بقوله:
[وإذا ما لمته](2)
…
إلخ أنه يستحق الملامة في تصديق أنه هجاه، لكن لا يمكن ملامته لعدم موافقة واحد من الناس، ولهذا ذكر الملامة دون الذم فلا يرد ما عابه به الصاحب من أن مقابل المدح الذم دون اللوم، فينبغي ذكر الذم في مقابله دون اللوم:([كريم متى أمدحه أمدحه والورى معي])(2).
جملة حالية والتنافر في أمدحه أمدحه لما أن في أمدحه من ثقل ما لما بين الحاء والهاء من القرب، لكن لا إلى حد يخرج به الكلمة عن الفصاحة، فإذا تكرر تحمل الثقل أي بلغ حدّا لا يتحمله الفصيح، وذلك لأنه كرر اجتماع الحاء والهاء، وأدى إلى اجتماع ثلاثة من حروف الحلق، فافهم، وهذا مراد المصنف حيث قال لإثبات أن في البيت تنافرا دون تنافر قوله:[وليس قرب قبر حرب قبر]: إن في أمدحه شيئا من الثقل لما بين الحاء والهاء من القرب، لا أن مجرد أمدحه لذلك غير فصيح، وكيف لا (وسبحه) مع اشتماله على توالي الحاء والهاء مع زيادة وهي مجاورة الكسرة لحروف الحلق فصيح واقع في القرآن! ؟ وهذا هو
(1) البيت لمجهول، ويدعي بعض الناسبين أنه لجني رثى به حرب بن أمية جد معاوية بعد أن هتف به فمات، وقد أورده القزويني في الإيضاح (6)، وفخر الدين الرازي في نهاية الإيجاز (123)، بلا عزو، القفر: الخالي من الماء والكلأ.
(2)
البيت لأبي تمام، حبيب بن أوس الطائي، ولد بقرية يقال لها: جاسم بناحية منبج، تميز بالشعر المطبوع والمعاني الدقيقة، كانت ولادته آخر خلافة الرشيد 190 هـ، ومات عام 232 هـ، له كتاب الحماسة، انظر ترجمته في خزانة الأدب (1/ 322)، والبيت في الإيضاح (6)، وعروس الأفراح وعجزه: وإذا ما لمته لمته وحدي.
الموافق لما صرح به ابن العميد (1) حيث قال: فيه شيء من الهجنة هو هذا التكرير في أمدحه أمدحه، مع الجمع بين الحاء والهاء، وهما من حروف الحلق، خارج عن حد الاعتدال، نافر كل التنافر، أي نافر تنافرا بالغا حد الكمال، وهو ما يخرج به الكلمة عن الفصاحة، فلا ينافي الحكم بأنه دون قوله [ليس قرب قبر حرب قبر] في الثقل، وإنما جعل واو الورى حالية لا عاطفة ليوافق ما يقابله وهو [وإذا ما لمته لمته وحدي] هذا إذا فسر معية الورى بالمشاركة في المدح، ووحدته بعدم مشاركتهم له في الملامة، كما في الشرح. أما لو فسر المعية بحضور الناس، والوحدة بعدم حضورهم يعني أمدحه دائما بحضور الناس لابتهاج الناس به، ولا يمكن ملامته بحضور أحد، بل لو ليم ليم في غيبة الناس- لتعين جعل الواو للحال، والتفسير المشهور أبلغ في استحقاقه المدح، وهذا التفسير أبلغ في تنزيهه عن الملامة، من لطائف تنزيهه عن الملامة أنه لم يقدر على ذكر ملامته إلا في صورة النفي، فزاد ما بعد إذا إبرازا لملامته في صورة النفي، ومما يرجح الحال على العطف أن في عطف المفرد كلفة إسناد فعل المتكلم إلى الاسم الظاهر، وفي عطف الجملة فوت التناسب، ولغيرنا وجوه أخر تركناها لأهلها، ومن فوائد الشرح أن في استعمال إذا والفعل الماضي هاهنا اعتبارا لطيفا هو إيهام ثبوت الدعوى، كأنه تحقق منه اللوم فلم يشاركه أحد.
(والتعقيد أن لا يكون ظاهر الدلالة على المراد) كون التعقيد متعديا، ولذا فسره الشارح بكون الكلام معقدا على لفظ المفعول يوجب أن يكون في تفسيره بما ذكر تسامح، لأنه معنى يقتضي اللزوم فالأولى جعل الكلام غير ظاهرة الدلالة
…
إلخ. وقد اعترض عليه بأن التعقيد لو كان مخلا بالفصاحة لم يكن اللغز والمعما (2) مقبولا، مع أنه مما يورد في علم البديع، والجواب أن قبولهما ليس من حيث الفصاحة بل لاشتمالهما على دقة يختبر بهما أهل الفطن، ولعدم فصاحتهما لم يوردهما صاحب المفتاح والمصنف، في كتابيهما، ولا يخفى أن الكون غير ظاهر الدلالة صادق على عدم الظهور لاشتماله على لفظ غريب، أو مخالف
(1) ابن العميد: هو أبو الفضل محمد بن الحسين العميد بن محمد، من أئمة الكتاب كان متوسعا في علوم الفلسفة والنجوم، ولقب بالجاحظ الثاني توفي سنة 360 هـ.
(2)
اللغز والمعما نوعان من البديع عند المتأخرين.