الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبما عرفت اندفع أيضا أن الأولى ذكرهما في البيان لاحتياج بعض مباحثهما إلى معرفة المجاز اللغوي، والاستعارة بالكناية، ولما بحث عنهما هاهنا كان المناسب أن يستوفي البحث حتى لا يحتاج إلى إعادة بحثهما في البيان؛ فبحث عن مطلق الإسناد باعتبارهما لأنهما لا يخصان الإسناد الخبري.
[ثم الإسناد منه حقيقة عقلية]
قال الشارح: فلذا قال (ثم الإسناد) وذكره بالاسم الظاهر دون الضمير لئلا يتوهم عوده إلى الإسناد الخبري هذا، وهذا هو الذي ذكره البيضاوي (1) - قدس سره- في تفسير قوله تعالى من سورة البقرة فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (2) حيث قال: وكرر لفظ الهدى ولم يضمر لأنه أراد بالثاني أعم من الأول، وأورد عليه أن المتبادر من معرفة سبق ذكرها العهد، وكونها عين ما سبق، وإن جاز حملها على غير ما سبق، فهي كالضمير بعينه في أن الظاهر أن مرجعه عين ما سبق، مع جواز رجوعه إلى ما في ضمنه.
ولا يذهب عليك أن العطف «بثم» حينئذ للتراخي الرتبي، لكون بحثه أشمل مما سبق، ونحن نقول: لم يضمر لبعد المرجع جدّا، أو لدفع توهم رجوعه إلى الكلام المذكور في قوله: وكثيرا ما يخرج الكلام على خلافه، والمقام لاستيلاء الوهم؛ كيف والمشهور الثابت في أصل يعني المفتاح التلخيص كون الحقيقة والمجاز العقليين كلاما؟ على أنه قد تقرر في موضعه أنه إذا دار الضمير بين الأبعد والأقرب فهو عائد إلى الأقرب، نفى أنهما لا يخصان بالإسناد، بل يجريان في التعلق نحو: أجريت النهر، والإضافة نحو قوله تعالى: شِقاقَ بَيْنِهِما (3) على ما قيل، وفي النسبة الوصفية نحو: الربيع المنبت، فقصد استيفاء البحث عنهما كما ذكرت يستدعي ذكر ما هو أعم من الإسناد، ولا يذهب عليك انتقاض تعريفهما بها، وسيأتي لهذا الكلام تتمة.
وإنما قال (منه حقيقة عقلية) ومنه مجاز عقلي توطئة لتعريفهما، ولم يقل:
(1) البيضاوي: هو عبد الله بن عمر بن محمد بن علي الشيرازي ناصر الدين البيضاوي قاض. مفسر علامة، ولد بفارس وتوفي سنة 685 هـ.
(2)
البقرة: 38.
(3)
النساء: 35.
إما حقيقة عقلية وإما مجاز عقلي، لأن تقسيم الإسناد إليهما لا يتم، إذ كل منهما أعم من الإسناد من وجه، كما عرفت، فلم يصلح قسما له.
وقال الشارح المحقق: لأن من الإسناد ما ليس بحقيقة ولا مجاز عنده، كما إذا لم يكن المسند فعلا أو معناه، كقولنا: الحيوان جسم، فكأنه قال: بعضه حقيقة عقلية، وبعضه مجاز عقلي، وبعضه ليس كذلك.
هذا وفي كون منه ومنه مفيد الوجود قسم آخر- خفاء، والظاهر أنه لدفع قصد توهم الانحصار، لا لإفادة عدمه ويمكن توضيح ما ذكره بأن إفادة منه، ومنه كون كل من الأمرين بعضا من الإسناد بالنظر إلى بعض آخر لم يذكر، وإلا فكون كل منهما بعضا بالنظر إلى الآخر بين يلغو بيانه بإيراد كلمة التبعيض، ويكفي فيه أن يقال: الإسناد حقيقة عقلية ومجاز عقلي.
واختلف في الحقيقة والمجاز العقليين. قال المصنف: المسمى بالحقيقة العقلية والمجاز العقلي على ما ذكره صاحب المفتاح هو الكلام، وهو الموافق لظاهر كلام الشيخ عبد القاهر، في مواضع من دلائل الإعجاز؛ وقول جار الله وغيره إنه الإسناد، وهو ظاهر من نقله الشيخ ابن الحاجب (1) عن الشيخ عبد القاهر، ونسبة الإسناد إلى الفعل لذاته، ونسبة الكلام إليه بواسطته فهو أحق بالتسمية بالعقلي، فلذا اخترناه.
ووجه نسبة الإسناد إلى العقلي بما تنقيحه أن كون الإسناد في أنبت الله البقل إلى ما هو له، وفي أنبت الربيع البقل إلى غير ما هو له، مما يدرك بالعقل من دون مدخلية اللغة، لأن هذا الإسناد مما يتحقق في نفس المتكلم قبل التعبير، وهو إسناد إلى ما هو له، أو إلى ما غير ما هو له، قبل التعبير، ولا يجعله التعبير شيئا منهما. فالإسناد ثابت في محله، أو متجاوز إياه بعمل العقل، بخلاف المجاز اللغوي مثلا، فإن تجاوزه محله؛ لأن الواضع جعل محله غيره هذا المعنى، ولهذا يصير: أنبت الربيع البقل من الموحد مجازا، ومن الدهري حقيقة، لتفاوت عمل عقلهما، لا لتفاوت الوضع عندهما، وبهذا اندفع أن:
(1) ابن الحاجب: هو أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس ابن الحاجب من كبار العلماء بالعربية، ولد بمصر سنة 570 هـ ومات بالإسكندرية سنة 646 هـ.
أنبت الربيع البقل إنما يكون مجازا عقليّا، لو لم يكن وضع العقل للنسبة إلى فاعل مخصوص صدر عنه؛ بل يكون للنسبة إلى مخصوص قصد المتكلم نسبته إليه، والظاهر للنسبة هو الأول.
نعم، هذا البحث إنما يتوجه إلى من جعل طرفي إسناد أنبت الربيع البقل حقيقين كما سيجيء.
(وهي)(1) أي الحقيقة العقلية، ولذا أنثها، وتذكيره لكون خبره المذكر راجح صرح به الشيخ ابن الحاجب في الإيضاح.
(إسناد الفعل) أي نسبته سواء كانت تامة أو لا يكشف عنه قوله (أو معناه) يعني اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، واسم التفضيل، والظرف، واسم الفعل، إذ إسناد معنى الفعل لا يلزم أن يكون تامّا، وفيه:
والأولى أن يقول: أو ما في معناه؛ لأن معنى الفعل في الاصطلاح يقابل شبه الفعل، وهو ما يفيد معنى الفعل، ولا يشاركه في التركيب، ولا يبعد أن يجعل: أتميمي أبوه داخلا في معنى الفعل، واحترز به عما ليس لحقيقة ولا مجاز، نحو: الحيوان جسم.
(إلى ما) أي شيء (هو) أي الفعل أو معناه، ويجوز إفراد الراجع إلى المتعدد المعطوف بعضه على بعض بعاطف هو لأحد الأمرين كما يجوز مطابقته (له) أي لذلك الشيء سواء كان عنه كما في: ضرب زيد عمرا، أو لا كما في:
انقطع لحبل وسلك الحبل، فلذا لم يقل ما هو عنه.
ومعنى كونه له أن حقه أن يسند إليه في مقام الإسناد، سواء كانت النسبة للنفي أو للإثبات لا أن يكون قائما به، كما في الشرح حتى لا يشكل بقولنا: ما قام زيد؛ لأن القيام حقه أن يسند إلى زيد في مقام نفيه عنه؛ بخلاف: ما صام نهاري، فإن الصوم حقه أن يسند إلى المتكلم في مقام نفيه عنه، لا إلى نهاره.
نعم حقه أن يسند إلى النهار في مقام قصد النفي عنه، وحينئذ ذلك الإسناد حقيقة، فاحفظه فإنه من الدقائق.
والشارح المحقق تقصى عنه تارة بأن دخوله في التعريف بتأويل التعريف بإسناد
(1) راجع الإيضاح ص 26.
الفعل، أو معناه إلى ما هو له، لو كان الكلام مثبتا والقيام في ما قام زيد يكون قائما بزيد، لو كان الكلام مثبتا، وتارة بأن النفي إسناد إلى ما هو له، باعتبار لازمه، ففي ما صام زيد لازمه أفطر زيد، وفي ما ربح زيد لازمه خسر زيد.
والمراد بالإسناد إلى ما هو له أعم من الإسناد إلى ما هو له باعتبار نفسه، أو لازمه، وسمي الثاني جوابا تحقيقيا، والأول ظاهريا، ولا يخفى أن كليهما بمعزل عن التحقيق، وخارج عن صناعة التعريف، ويمكن أن يجعل ضمير هو إلى ما، وضمير له إلى الفعل، أو معناه، وكون الشيء للفعل أو معناه بمعنى أن حق الشيء أن يسند الفعل، أو معناه إليه، لكن جعل الفعل، وما في معناه للذات أعذب من العكس، والمتبادر منه ما هو له في الواقع، وحينئذ يخرج عن التعريف قول الجاهل: أنبت الربيع البقل فقيده بقوله: (عند المتكلم) وصرفه عما يتبادر منه إلى ما يشمل ما هو له في الواقع، والاعتقاد، وما هو له في اعتقاد المتكلم فقط، لكن بعد يتبادر منه ما هو له في اعتقاد المتكلم في الواقع فيخرج منه قول المعتزلي: خلق الله الأفعال كلها، مخفيا مذهبه، فقيده ثانيا بقوله:(في الظاهر) أي فيما يفهم من ظاهر كلامه، ليصرفه عما يتبادر منه إلى ما يشمل ما هو له في اعتقاده في الواقع وفي الظاهر وما هو له في اعتقاده فقط، فما هو له ليس أعم مما هو له في اعتقاده إذا أطلق وعند التقييد بتغير معناه إلى أعم مما هو له في الواقع، وفي اعتقاده، ويتقيد بقوله في اعتقاد المتكلم فيخرج عنه ما هو له في الواقع فقط، فقوله عند المتكلم مغير لمعنى ما هو له، ومقيد فيصح أن يقال إنه لإدخال ما هو له في الاعتقاد فقط، ويصح أن يقال إنه لإخراج ما هو له في الواقع فقط.
فما ذكره السيد السند أن أمثاله مغير للمعنى لا تقييد، فمحل نظر؛ وكذا قوله في الظاهر، ولا يخفى أنه لو اقتصر على قوله إسناد الفعل أو معناه إلى ما هو له في الظاهر لتم التعريف، وقل المؤنة، والتكليف للمتعلم القاصر الضعيف، إلا أنه أراد التنبيه على أنه لا يصح الاكتفاء بما عند المتكلم كما في المفتاح، ولا بد من زيادة قيد في الظاهر، هذا وقد أشار بذكر الأمثلة إلى أنه جمع التعريف بزيادة هذه القيود على ما هو له أقساما أربعة: ما يطابق الواقع والاعتقاد (كقول
المؤمن: أنبت الله البقل)، وما يطابق الاعتقاد و (نحو قول الجاهل: أنبت الربيع البقل)، وما لا يطابق شيئا منهما ويعلم منه جمعه ما لا يطابق الاعتقاد فقط كقول المعتزلي بطريق الأولى، فاكتفى في الإشارة إليه بقوله (نحو قولك:
جاء زيد وأنت تعلم أنه لم يجئ) ولم يكتف به في الإشارة إلى دخول ما يطابق الواقع فقط تفننا، وقوله أنت تعلم حال عن جاء زيد؛ لأنه مقول القول، ومفعوله، وتقديم المسند إليه فيه للتخصيص أي أنت تعلم دون المخاطب كما أشار إليه في الإيضاح.
قال الشارح المحقق: فيه احتراز عما إذا كان المخاطب أيضا عالما بأنه لم يجئ، فحينئذ لم يتعين كونه حقيقة، بل ينقسم قسمين:
أحدهما: أن يكون المخاطب مع علمه بأنه لم يجئ عالما بأن المتكلم يعلم أنه لم يجيء.
والثاني: بأن لا يكون عالما، والأول لا يكون إسنادا إلى ما هو له عند المتكلم، لا في الحقيقة ولا في الظاهر، لوجود القرينة الصارفة، فلا يكون حقيقة عقلية، بل إن كان لملابسة يكون مجازا؛ وإلا فهو من قبيل ما لا يعتد به، ولا بعد في الحقيقة ولا في المجاز، بل ينسب قائله إلى ما يكره كما صرح به صاحب المفتاح، بخلاف الثاني.
فإن المخاطب لما لم يعلم أن المتكلم عالم بأنه لم يجئ يفهم من ظاهره أنه إسناد إلى ما هو له عنده، بناء على سهو أو نسيان.
هذا وفيما ذكره أبحاث نفيسة هي فيما بين المباحث، مباحث رئيسة، فبالحرى أن يتخذن، وهي أنيسة:
الأول: أن المراد بالعلم إما اليقين؛ فلا يلزم من اختصاص اليقين بالمتكلم تعين المثال، لكونه حقيقة، لجواز أن يصدق المخاطب أيضا لمضمونه، من غير تعيين، فينقسم القسمين المذكورين، وإما التصديق فلا يكون مثالا لما لا يطابق الواقع، والاعتقاد لا محالة، وإرادة التصديق المطابق بعيد عن العبارة.
وثانيهما: أنه مع اختصاص التصديق بالمتكلم أيضا ينقسم قسمين لجواز أن يكون المخاطب مع كونه غير مصدق بعدم المجيء مصدقا بأن المتكلم مصدق به،
وحينئذ لا يكون إسنادا إلى ما هو له عند المتكلم، لا في الحقيقة ولا في الظاهر، بل يكون إما مجازا أو ما يكره.
وثالثهما: أنه مع علم المخاطب بأن المتكلم عالم بأنه لم يجئ يحتمل أن لا يعلم المتكلم ذلك، ويكون في ذلك الخطاب مخفيا عنه اعتقاده، فيكون إسنادا إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر، ومما لا بد من التنبيه عليه أن المراد بالإسناد إلى ما هو له الإسناد إلى ما هو له من حيث إنه ما هو له، إذ قد يكون الشيء ما هو له باعتبار غير ما هو له، باعتبار آخر إما في النفي فقد عرفت، وإما في الإثبات كما في قول الخنساء تصف ناقتها:
فإنّما هي إقبال وإدبار (1)
فإن الشيخ قال: لو جعلت الإقبال بمعنى المقبل، حتى يكون المجاز في الكلمة أو جعلت التقدير ذات إقبال حتى يكون إيجاز الحذف- لكان مغسولا من الفصاحة، عايّا مرذولا عند أصحاب البلاغة. ومن قال ممن يعتد بشأنه: إنه بتقدير المضاف قصد أن أصل الكلام فيه ذلك بل المعنى أنها لكثرة إقبالها وإدبارها كأنها تجسمت منهما، فالمجاز في إسناد الإقبال؛ لأنه وإن كان لها من حيث القيام بها لكنه ليس لها من حيث الحمل والاتحاد، فأقبلت حقيقة وهي إقبال مجاز.
وقد عدل المصنف عن ترتيب المفتاح حيث قدم المجاز العقلي لأنه المقصود بالبيان في فن البلاغة، المشار إليه بالبنان، لأن تقديم المجاز العقلي يوجب فضلا كثيرا بين الحقيقة والمجاز؛ لكثرة ما يتعلق به، وما قصد بذكرها من مزيد إيضاح المجاز بمعرفتها إنما ينتظم كل انتظام بمقارتها، على أن بعض مباحث المجاز مما لا بد فيه من معرفة الحقيقة كما ستشاهد. وعدل عن تعريفه للحقيقة والمجاز، لأنه إخبار أنهما ما ذكرهما جار الله وغيره، وظاهر كلام ابن الحاجب أنه مذهب عبد القاهر؛ فلا يصح تعريفهما بالكلام، لأنهما صفة الإسناد، وأما اشتراطه أن يكون المسند فيهما فعلا أو ما في معناه، فلما نقله عن جار الله من أن المجاز
(1) البيت في ديوانها (39) وصدره والبيت قبله:
وما عجول على بؤ تطيف به
…
لها حنينان: إعلان وإسرار
ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت
…
...
الإقبال والإدبار: أي لا تنفك تقبل وتدبر.