المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[ويسمى هذا النقل عند علماء المعاني التفاتا] - الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم - جـ ١

[العصام الأسفراييني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المحقق

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌متن كتاب التّلخيص في علوم البلاغة وهو تلخيص كتاب «مفتاح العلوم» للسّكاكيّ

- ‌كلمة الافتتاح

- ‌مقدّمة فى بيان معنى الفصاحة، والبلاغة

- ‌الفنّ الأوّل علم المعاني

- ‌تنبيه (1/ 213) صدق الخبر: مطابقته للواقع، وكذبه: عدمها

- ‌أحوال الإسناد الخبريّ

- ‌إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر

- ‌أحوال المسند إليه

- ‌أولا: حذف المسند إليه، وذكره

- ‌ثانيا: تعريف المسند إليه، وتنكيره

- ‌[أتعريفه]

- ‌تعريف المسند إليه بالعلمية:

- ‌تعريف المسند إليه بالموصليّة:

- ‌تعريف المسند إليه بالإشارة:

- ‌تعريف المسند إليه باللام:

- ‌تعريف المسند إليه بالإضافة:

- ‌ب- تنكير المسند إليه

- ‌ثالثا: إتباع المسند إليه، وعدمه

- ‌وصف المسند إليه:

- ‌توكيد المسند إليه:

- ‌بيان المسند إليه:

- ‌الإبدال من المسند اليه:

- ‌العطف على المسند إليه:

- ‌رابعا:‌‌ تقديم المسند إليه، وتأخيره:

- ‌ تقديم المسند إليه

- ‌رأى عبد القاهر:

- ‌رأى السكاكى:

- ‌تأخير المسند إليه:

- ‌إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر:

- ‌أحوال المسند

- ‌ترك المسند اليه:

- ‌ذكر المسند إليه:

- ‌وأما تنكيره:

- ‌وأما تخصيصه بالإضافة أو الوصف:

- ‌وأما تركه:

- ‌وأما تعريفه:

- ‌وأما كونه جملة:

- ‌وأما تأخيره:

- ‌وأما تقديمه:

- ‌تنبيه

- ‌أحوال متعلّقات الفعل

- ‌القصر

- ‌[طرق القصر]

- ‌منها: العطف

- ‌ومنها: النفى والاستثناء

- ‌ومنها: إنّما

- ‌ومنها: التقديم

- ‌الإنشاء

- ‌منها التمنّي

- ‌ومنها: الاستفهام

- ‌ومنها: الأمر

- ‌ومنها: النهي

- ‌[ومنها: العرض]

- ‌ومنها: النداء

- ‌الفضل والوصل

- ‌الإيجاز والإطناب والمساواة

- ‌(المساواة)

- ‌(الإيجاز)

- ‌(الإطناب)

- ‌الفنّ الثاني علم البيان

- ‌ التشبيه

- ‌ طرفاه

- ‌ ووجهه

- ‌أركان التشبيه

- ‌(الغرض من التشبيه)

- ‌خاتمة

- ‌الحقيقة والمجاز

- ‌ الاستعارة

- ‌المجاز المرسل

- ‌المجاز المركّب

- ‌فصل (2/ 305) عرّف السكاكى الحقيقة اللغوية بالكلمة المستعملة فيما وضعت له، من غير تأويل فى الوضع

- ‌فصل (2/ 332) حسن كل من التحقيقيّة والتمثيل

- ‌فصل (2/ 336) وقد يطلق المجاز على كلمة تغيّر حكم إعرابها

- ‌(الكناية)

- ‌فصل (2/ 360) أطبق البلغاء على أنّ المجاز والكناية أبلغ من الحقيقة والتصريح

- ‌الفنّ الثالث علم البديع

- ‌ المطابقة

- ‌المحسّنات المعنويّة

- ‌المقابلة

- ‌مراعاة النظير

- ‌الإرصاد

- ‌المشاكلة

- ‌المزاوجة

- ‌العكس

- ‌الرجوع

- ‌التورية

- ‌الاستخدام

- ‌اللف والنشر

- ‌الجمع

- ‌التفريق

- ‌التقسيم

- ‌الجمع مع التفريق

- ‌الجمع مع التقسيم

- ‌الجمع مع التفريق والتقسيم

- ‌التجريد

- ‌المبالغة

- ‌المذهب الكلامي

- ‌حسن التعليل

- ‌التفريع

- ‌تأكيد المدح بما يشبه الذم

- ‌تأكيد الذم بما يشبه المدح

- ‌الاستتباع

- ‌الإدماج

- ‌التوجيه

- ‌الهزل يراد به الجد

- ‌تجاهل العارف

- ‌القول بالموجب

- ‌الاطراد

- ‌المحسنات اللفظية

- ‌رد العجز على الصدر

- ‌السجع

- ‌الموازنة

- ‌القلب

- ‌التشريع

- ‌لزوم ما لا يلزم

- ‌خاتمة: فى السّرقات الشّعريّة، وما يتّصل بها، وغير ذلك

- ‌ الاقتباس

- ‌التضمين

- ‌العقد

- ‌الحلّ

- ‌التلميح

- ‌فصل (2/ 523) ينبغى للمتكلّم أن يتأنّق فى ثلاثة مواضع من كلامه

- ‌[الخطبة]

- ‌[تسمية الكتاب]

- ‌[مقدمة]

- ‌[(الفصاحة)]

- ‌[والبلاغة]

- ‌[فالتنافر]

- ‌[والغرابة]

- ‌[والمخالفة]

- ‌[قيل ومن الكراهة في السمع]

- ‌[وفي الكلام خلوصه]

- ‌[أما في النظم]

- ‌[وأما في الانتقال]

- ‌[قيل ومن كثرة التكرار]

- ‌[وفي المتكلم ملكة يقتدر بها]

- ‌[والبلاغة في الكلام]

- ‌[فمقتضى الحال]

- ‌[ولها طرفان: ]

- ‌[وأن البلاغة مرجعها إلى الاحتراز]

- ‌(الفن الأول: علم المعاني)

- ‌[صدق الخبر]

- ‌(أحوال الإسناد الخبري)

- ‌[وقد ينزل العالم بهما منزلة الجاهل]

- ‌[ثم الإسناد منه حقيقة عقلية]

- ‌[ومنه مجاز عقلي]

- ‌[وأقسامه أربعة]

- ‌(أحوال المسند إليه)

- ‌[أما حذفه فللاحتراز عن العبث]

- ‌[وأما ذكره فلكونه إلخ]

- ‌[وأما تعريفه]

- ‌[فبالإضمار 291

- ‌[وأصل الخطاب]

- ‌[وبالعلمية]

- ‌[وبالموصولية]

- ‌[وبالإشارة]

- ‌[وباللام]

- ‌[وقد يفيد الاستغراق]

- ‌[وبالإضافة]

- ‌[وأما تنكيره]

- ‌[وأما وصفه]

- ‌[وأما توكيده]

- ‌[وأما بيانه]

- ‌[وأما الإبدال منه]

- ‌[وأما العطف]

- ‌[وأما الفصل]

- ‌[وأما تقديمه]

- ‌[وإن بنى الفعل على منكر]

- ‌[ومما نرى تقديمه كاللازم]

- ‌[مبحث كلمة كل]

- ‌[وأما تأخيره فلاقتضاء المقام]

- ‌[ويسمى هذا النقل عند علماء المعاني التفاتا]

- ‌[أحوال المسند أما تركه فلما مر]

- ‌[وأما ذكره فلما مر]

- ‌[وأما إفراده فلكونه غير سبب]

- ‌[وأما كونه فعلا فللتقييد بأحد الأزمنة الثلاثة]

- ‌[وأما كونه اسما فلإفادة عدمهما]

- ‌[وأما تقييد الفعل بمفعول ونحوه وأما تركه فللمانع منهما]

- ‌[وأما تقييده بالشرط]

- ‌[وأما تنكيره فلإرادة عدم الحاصر والعهد]

- ‌[وأما تخصيصه بالإضافة أو الوصف فلكون الفائدة أتم]

- ‌[وأما تعريفه فلإفادة السامع حكما]

- ‌(أحوال متعلقات الفعل)

- ‌[الحذف وأغراضه]

- ‌[أنواع القصر]

- ‌[شروط قصر الموصوف على الصفة]

- ‌(الإنشاء)

- ‌[أنواعه]

- ‌[من أنواع الطلب]

الفصل: ‌[ويسمى هذا النقل عند علماء المعاني التفاتا]

أنا العاصي وأشكل عليه موقع العاصي، فجعله بدل الكل على مذهب الأخفش، مع أن الجمهور على منعه إلا عن ضمير الغائب، وتبعه السيد السند، وسعى في ترجيح مذهب الأخفش، ونحن نقول: وضع عبدك موضع أنا الغير المقرون بالوصف؛ ولذا صحّ أن يكون من نكات ذلك الوضع التمكن من الوصف بالعاصي، والأجمع ضمير المتكلم- أيضا- بتحقق ذلك التمكن بإيراد الوصف بدلا؛ لأن النافع في مقام التضرع ذكر وصف العبودية، لا جعله صفة نحوية قال (السكاكي (1): هذا) (2) إشارة إلى ما يستفاد من أقرب مثال، وهو وضع المظهر مكان ضمير المتكلم (غير مختص بالمسند إليه) لا يخفى أنه لغو، لا فائدة فيه، لا في كلام المصنف ولا في كلام السكاكي؛ لأنه قد سبق منهما- آنفا- وعليه فإذا عزمت فتوكل على الله (ولا بهذا القدر) أي: النقل من التكلم إلى الغيبة لا يخص بهذا القدر الذي كلامنا فيه من وضع الاسم الظاهر موضعه، بل قد يكون لوضع ضمير غائب موضعه، ثم أضرب عن هذا المقصد إلى الأهم الأعم، فقال:(بل كل من التكلم والخطاب والغيبة مطلقا) أي: واحدا كان، أو مثنى، أو مجموعا مذكرا أو مؤنثا (ينقل إلى الآخر)، ولذا عبر عن المتكلم والمخاطب والغائب بالمصدر؛ ليصح إطلاقه على الجميع، وزاد المصنف قوله:

مطلقا تصريحا بما قصده، وللتنبيه على غير ما يضامن الإطلاق، عن أن يكون مقتضى المقام من غير أن يعبر عنه بعبارة أخرى، كما في الأمثلة السابقة حتى

[ويسمى هذا النقل عند علماء المعاني التفاتا]

يصح قوله: (ويسمى هذا النقل عند علماء المعاني التفاتا)، وليس المراد الإطلاق عن أن يكون معبرا بعبارة أخرى، كما يستفاد من سوق كلام الشارح المحقق؛ لأن هذا التقييد لا يستفاد من سابق الكلام؛ بل ما ذكرنا من التقييد

(1) المفتاح ص 106.

(2)

إشارة إلى الالتفات، وعرفه الطيبي تعريفا دقيقا في كتابه التبيان فقال:«هو الانتقال من إحدى الصيغ الثلاث، أعني الحكاية، والخطاب، والغيبة، إلى الأخرى لمفهوم واحد رعاية لنكتة» التبيان (2/ 347)، وقد أفاد الطيبي من تنبيه ابن الأثير في المثل السائر (2/ 169) على أن الالتفات لا يكون إلا لفائدة اقتضته، فالتفت الطيبي إلى ذلك ونص في تعريفه للالتفات على أنه ربما يكون رعاية لنكتة، ويتفرد الطيبي بنص على ذلك دون عامة البلاغيين المعاصرين له أو السابقين، وانظر في تعريف الالتفات:

الكشاف (1/ 10)، المصباح (30)، نهاية الإيجاز (287)، الطراز (2/ 132)، وانظر تعليقنا في الإيضاح ص 77.

ص: 413

ومن الإطلاق عن أن يكون في المسند إليه، وما ذكره الشارح المحقق، وتبعه السيد السند من أن في قوله: ولا بهذا القدر أدنى تسامح؛ إذ المراد: ولا يخص مطلق النقل بهذا القدر من النقل من التكلم إلى الغيبة غير ملتفت؛ لأن العبارة بعيدة عنه جدّا، والحمل عليه تعسف، ولا يعود إليه قائل، وإنما قال عند علماء المعاني مع بيان التسمية في علم المعاني يغنى عنه، لئلا يتوهم أن التسمية اصطلاح منه، حيث اشتهر خلافه بين الجمهور؛ ولرد ما توهمه عبارة الكشاف، حيث قال: يسمى التفاتا في علم البيان، وتوجيهه: أنه جرى في استعمال علم البيان على مذهب من يسمى العلوم الثلاثة بيانا، لا أنه من علمي المعاني والبيان بحيثيتين، بل من الثلاثة ولذا ذكره السكاكي في علم البديع أيضا، لأنه من حيث اشتماله على إيراد طرق مختلفة لا يخرج عن أقسام المجاز، وليس له حال مخصوص بياني يستدعي ذكره بخصوصه في علم البيان حتى يكون سببا لتسميته، ومن قال:

إنه من العلوم الثلاثة فلا بد له من إثبات حسن عرضي به كحسن ذاتي، وفيه بحث.

قال الشارح: مأخوذ من التفات الإنسان من يمينه إلى شماله، ومن شماله إلى يمينه، قلت: لأنه فيه ربما ينتقل من التكلم إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى التكلم باسم (كقول امرئ القيس) في المرثية كذا ذكره العلامة في شرح المفتاح [تطاول ليلك] بتذكير الخطاب، وإن كان الشائع في خطاب النفس التأنيث بدليل:[ولم ترقد] بتذكير الخطاب [بالأثمد](1) قال الشارح والسيد السند في شرح المفتاح: الأثمد- بفتح الهمزة وضم الميم- اسم موضع ويروى بكسرهما، وفي القاموس الأثمد كأحمد وبضم ميمه، أراد المصنف مزيد التصريح بأن التعبير بإحدى الطرق في مقام يقتضي الطريق الآخر التفات عنده، فاكتفى في التمثيل

(1) البيت في ديوانه (334)، الإيضاح (79)، المصباح (35)، والمفتاح (107)، الطراز (2/ 140)، خزانة الأدب (60)، نهاية الأرب (7/ 117)، التبيان للطيبي (2/ 349).

الإثمد: موضع، والخلي: الخالي من الهموم وتتمته

تطاول ليلك بالأثمد

ونام الخلي ولم ترقد

وبعده:

وبات وباتت له ليلة

كليلة ذي العائر الأرمد

وذلك من نبأ جاءني

وخبّرته عن أبي الأسود

ص: 414

بأول مصراع امرئ القيس، مع أن السكاكي أورد أبياته الثلاثة، إذ هذا الالتفات في المصراع الأول فقط أتي من بين شواهد السكاكي بهذا؛ لأنه بالغ السكاكي في مدح امرئ القيس في هذا المقام بحيث يترائى أي: إن أوثق ما ذكره هذا الشعر، وما ذكره الشارح المحقق من أنه خصص هذا المثال من بين أمثلة السكاكي لما فيه من الدلالة على أن مذهبه: أن كلا من التكلم والخطاب والغيبة إذا كان مقتضى الظاهر إيراده، فعدل عنه إلى الآخر، فهو التفات؛ لأنه قد صرح بأن في قوله:[ليلك] التفاتا؛ لأنه خطاب لنفسه ومقتضى الظاهر [ليلى]، ففيه أن من بين أمثلته كثيرا يحصل منه هذه الدلالة، إلا أن يقال: أراد أنه خصص هذا المثال من بين الأمثلة المشتملة عليه هذا البيت، وحينئذ يمكن أن يراد في النكتة، ويقال الأنسب في مقام الاقتصار على مثال واحد: أن يذكر مثال الأول ما ذكر في القاعدة، وهو نقل الكلام من التكلم ولا يذهب عليك أنه ينبغي للشارح أن يقول: لما فيه من الدلالة على أن مذهب علماء المعاني عنده كذا، لا أن مذهبه كذا، لأنه ادعى أن ما ذكره مذهب علماء المعاني، لا أنه مذهبه.

(والمشهور أن الالتفات هو التعبير عن معنى بطريق من الثلاثة بعد التعبير عنه بآخر منها)، وكأنه حمل السكاكي قولهم: بعد التعبير عنه بآخر منها على أعم من التعبير حقيقة أو حكما، واقتضاء المقام تعبيرا في حكم التعبير، ولا يخفى أن التعبير عن معنى يقتضي المقام التعبير عنه بلفظ مذكر بلفظ مؤنث، وبالعكس، وكذا التعبير بمذكر بعد التعبير بمؤنث يشارك الأمثلة المذكورة في النكت، فينبغي أن يجعل تحت الالتفات، وله نظائر أرجو أن تتفطن لها، ولا تقتصر على ما ألقيته إليك، ولو لم يثبت أنها جعلت التفاتا، فتجعلها ملحقات به، وصرح العلامة في شرح المفتاح غير مرة بتقيد تعريف الالتفات بأن: يكون التعبير الثاني على خلاف مقتضى الظاهر وادعى الشارح المحقق: أن التنبيه لوجوب زيادة هذا القيد من عنده، وتمسك بأنه لو لم يقيد التعريف لدخل فيه ما ليس من الالتفات، نحو: أنا زيد وأنت عمرو، ونحو: إياك نستعين، فإنه بعد التعبير بالغيبة، مع أنه لا التفات إلا في إياك نعبد، لأنه بعد إياك نعبد يقتضى

ص: 415

الظاهر: إياك نستعين ويمكن إخراجه عن التعريف بأن يراد بقوله: بعد التعبير عنه بطريق آخر بعدية بلا واسطة كما هو المتبادر، ومنهم من توهم أن في [يا أيها الذين آمنوا] التفاتا ومقتضى الظاهر: آمنتم، ويرده ما ذكره المازني في قول علي- رضي الله عنه[أنا الذي سمّتني أمّي حيدره](1) أنه لولا اشتهار مورده وكثرته لرددته، إذ القياس: سمته أمه، وعلى هذا في قوله التفات (وهذا) أي:

التفسير المشهور (أخص) من تفسير السكاكي. قال في الإيضاح: وهذا أخص من تفسير صاحب المفتاح، فقول الشارح أي: الالتفات بتفسير الجمهور أخص منه بتفسير السكاكي تفسير لعبارته بغير ما يرضاه، وكلام الكشاف ظاهر في موافقة السكاكي حيث قال: التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات في ثلاثة أبيات يعني بها

تطاول ليلك بالأثمد

بات الخلىّ ولم يرقد

وبات وباتت له ليله

كليلة ذي العائر الأرمد

وذلك من نبأ جاءني

وحبّرته عن أبي الأسود

وتجويز أن يكون قوله مبنيّا على الانتقال من الخطاب إلى الغيبة، وإلى التكلم التفاتان، ومن الغيبة إلى التكلم التفات آخر باطل؛ إذ لا انتقال من الخطاب إلا إلى الغيبة؛ لأنه إذا انتقل إلى الغيبة لم يبق في الخطاب حتى ينتقل عنه إلى التكلم، وكذا تجويز أن يكون أحد الالتفاتات، الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في ذلك، لأن كون خطاب ذلك إلى نفسه غير ظاهر فلا ينافي ذلك التجويز كون كلام الكشاف ظاهرا فيما قاله السكاكي (مثال الالتفات عن التكلم إلى الخطاب وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (2) مكان: أرجع، فإن ما عبر عنه بضمير المتكلم في: أعبد ما أبرز بصورة الخطاب في ترجعون؛ لأنه داخل في ترجعون، والمعنى: أرجع وترجعون.

قال الشارح المحقق: فإن قلت: ترجعون ليس خطابا لنفسه حتى يكون المعبر عنه واحدا قلت: نعم، ولكن المراد بقوله: ما لي لا أعبد: المخاطبون،

(1) البيت في ديوانه.

(2)

يس: 22.

ص: 416

والمعنى: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم كما سيجيء، فالمعبر عنه في الجميع المخاطبون وفيه نظر؛ لأنه لم يعبر عن المخاطبين بضمير المتكلم؛ بل إنهم المعرض بهم بهذا الكلام من غير الدخول وفي العبارة ونظم التركيب، ثم قال: فإن قلت: حينئذ قوله يكون «ترجعون» واردا على مقتضى الظاهر، والالتفات يجب أن يكون على خلاف مقتضى الظاهر، قلت: لائم أن قوله: ترجعون على مقتضى الظاهر؛ لأن الظاهر يقتضي أن لا يغير أسلوب الكلام، ويجري اللاحق على سنن السابق، وهذا الخطاب مثل التكلم في قوله: بناء جاءني، وقد قطع المصنف بأنه وارد على مقتضى الظاهر، وزعم أن الالتفات عند السكاكي لا ينحصر في خلاف مقتضى الظاهر، وهذا مشعر بانحصاره فيه عند غير السكاكي وفيه نظر؛ لأن مثل: ترجعون وجاءني في الآية والبيت التفات عند السكاكي وغيره، فلو كان واردا على مقتضى الظاهر لما انحصر الالتفات خلاف مقتضى الظاهر عند غير السكاكي أيضا فلا يتحقق اختلاف التفات بينه وبين غيره، ثم الحق أنه منحصر في خلاف مقتضى الظاهر، وأن مثل ترجعون وجاءني من خلاف المقتضى على ما حققناه. هذا كلامه.

ولو نظر في كلام المصنف حق النظر لا يتجه عليه شيء مما ذكر؛ لأنه قال في الإيضاح: وأما قول امرئ القيس: تطاول ليلك

إلخ، فقال الزمخشري: فيه ثلاث التفاتات وهذا ظاهر على تفسير السكاكي؛ لأن في كل بيت التفاتا على تفسيره، لا يقال: الالتفات عنده من خلاف مقتضى الظاهر، فلا يكون في البيت الثالث التفات؛ لوروده على مقتضى الظاهر؛ لأنا نمنع انحصار الالتفات عنده في خلاف المقتضى لما تقدم- هذا كلامه- ولا يخفى على الناظر أنه مانع، ولا زعم للمانع، وتقييد عدم الانحصار بكونه عند السكاكي إنما يشعر بثبوته عند غيره على القول بمفهوم المخالفة، وهو إنما يثبت عند قائله إذا لم يكن للتقييد فائدة أخرى، وله في كلام المصنف فائدة أخرى ظاهرة، وهو أن المقصود منه دفع الاعتراض على المقدمة القائلة بأن في كل بيت التفاتا عند السكاكي، ثم الحق أن نظائر يرجعون على مقتضى الظاهر نظرا إلى الوضع، وعلى خلافه نظرا إلى الأسلوب، كلام المصنف في نفي الالتفات بناء على أنه على مقتضى الظاهر مبني

ص: 417

على حمل خلاف مقتضى الظاهر على خلاف مقتضى ظاهر الوضع، ومنع الانحصار في ذلك، وهو لا ينافي اشتراط كونه على خلاف مقتضى الظاهر بوجه ما (وإلى الغيبة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ)(1) مكان لنا وقد كثر في الواحد من المتكلم لفظ الجمع تعظيما له لعدهم المعظم كالجماعة، ولم يجئ ذلك في الغائب والمخاطب في الكلام القديم، وإنما هو استعمال الوالدين كقوله: بأي نواحي الأرض أبغى وصالكم وأنتم ملوك لمقصدكم، نحو: تعظيما للمخاطب، كذا قالوا.

ولا يخفى أنه جاء إطلاق الجمع الغائب على الواحد كما في: نعم الماهدون، فإن الاسم الظاهر غائب، ويخالفه ما في الكشاف في سورة هود أنه يجوز أن يكون المخاطب في قوله تعالى: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ (2) النبي وحده، ويكون جمع الضمير تعظيما له كما في قوله:

[فإن شئت حرمت النساء سواكم](3)

وما فيه في «سورة المؤمنون» في قوله تعالى: ارْجِعُونِ أنه جمع الضمير تعظيما كما في قوله: [فإن شئت حرمت النساء سواكم] وقوله: ألا فارحموني يا إله محمد، ولا يبعد أن يجعل للواحد لفظ الجمع؛ لكونه بمنزلة جمع لا في العظمة، بل لغيرها، نحو: ضربنا للمبالغة في كثرة ضربه، حتى أنه كالضاربين، وكمرضنا للتنبيه على شدة مرضه كأنه متعدد من المرضى.

(ومن الخطاب إلى التكلم) قول علقمة بن عبدة: [طحا بك] مذكرا ومؤنثا؛ لأنه خطاب لنفسه أي: ذهب بك [قلب في الحسان] أي: في طلب الحسان فهو متعلق بطحا، وقال الشارح المحقق: متعلق بقوله [طروب] وحينئذ يناسب أن يكون التقديم للحصر قال المرزوقي: طروب في الحسان له طرب في طلب الحسان ونشاط في مراودتها (بعيد الشّباب) أي: زمانا بعد الشباب قريبا

(1) الكوثر: 1، 2.

(2)

هود: 14.

(3)

البيت في عروس الأفراح، وتمامه:

وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

ص: 418

منه، والتصغير للقريب، فينافي قوله:(عصر حان) أي قرب (مشيب)؛ لأن المشيب خلاف الشباب، ولهذا قيل المراد: بعيد أكثر زمان الشباب أي: حين كاد ينصرم الشباب، وقرب المشيب أوصل المراد بالمشيب (ألجومة)(1)، وقوته (يكلّفني) التكليف: الأمر بما يشق عليك، كذا في القاموس فتعديته بالمفعول الثاني بتقدير الباء أي: يكلفني بوصال (ليلى) وروى بالتاء الفوقانية بجعل ليلى فاعلا، قال الشارح: والمفعول محذوف إن: شدائد فراقها، وأقول الأنسب حينئذ أن يكون بين يكلفني وسط تنازع في قوله وليها، ويكون المعنى: يكلفني ليلى وحبها المفرط وليها (وقد شطّ) أي: بعد (وليّها) أي: قربها، وجوز الشارح أن يكون خطابا للقلب ويكون فيه التفات آخر من الغيبة إلى الخطاب ويجوز أن يكون خطابا على طبق «طحا بك» ، فيكون الالتفات بتمامه في يكلفني،

[وعادت عواد بيننا وخطوب](2)

قال المرزوقي: عادت إما من المعاداة، كأن الصوارف والخطوب صارت تعاديه، ويجوز أن يجعل من عاد يعود، أي: عادت عواد، وعوائق كانت تحول بيننا إلى ما كانت عليه قبل هذا، والعوادي جمع العادية، وهي ما يصرفك عن الشيء، ويشغلك على ما في القاموس، ولك أن تجعل عاد من الأفعال الناقصة، أي: صارت عواد حائلة بيننا، وإن المعاداة بين العوادي في أخذ التكلم وشغلها، ولا يخفى لطف هذه النكتة على أهلها (وإلى الغيبة حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ)(3) مكان بكم (ومن الغيبة إلى التكلم وَاللَّهُ

(1) كذا بالأصل، ولا أدري معناها ولعلها محرفة من النسّاخ.

(2)

البيتان في ديوانه (33)، والإيضاح (78)، والمصباح (32)، المفتاح (107)، شرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 118)، معاهد التنصيص (1/ 173)، وطبقات الشعراء (1/ 139)، والشعر والشعراء (221)، والعمدة (1/ 57).

وعلقمة بن عبدة: هو علقمة بن عبدة بن ناشرة بن قيس من بني تميم، شاعر جاهلي من الطبقة الأولى، كان معاصرا لامرئ القيس، وتوفي نحو 20 قبل الهجرة.

انظر ترجمته في: الأعلام (4/ 247).

وقد انتقل من الخطاب في قوله: (بك) إلى التكلم في قوله: (يكلفني).

(3)

يونس: 22.

ص: 419

الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ) (1) مكان ساقه، ولا يتوهم أنه قد مر مثاله في قول علقمة، حيث عبر عن ليلى بعد التعبير عنه باسمها العلم بضمير المتكلم حيث قال بيننا؛ لأن التعبير عن الغائب بضمير المتكلم مع الغير ليس خلاف مقتضى الظاهر، فتأمل.

(وإلى الخطاب: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ)(2) مكان إياه نعبد، ومنهم من اشتراط في الالتفات اتحاد المخاطب في التعبيرين المختلفين، وكأنه دعاه إليه أنه لا يوجد بدون النكتة التي صرحوا بعمومها لكل التفات، ومنع ذلك بأنه يكفي فيها اتحاد السامع، ويمكن دفعه بأن المراد بالمخاطب ما يعم السامع، فإنه في حكم المخاطب، وحينئذ يتجه على ما ذكره الشارح المحقق، أنه أخص من الالتفات المعتبر عند الجمهور أنه باطل؛ لأنه لا بد من اتحاد السامع عند الكل بقرينة الاتفاق على عموم تلك النكتة المتوقفة على ذلك الاتحاد، على أنه ما لم يثبت أن ما هو التفات مخصوص بالسكاكي ليس التفاتا عنده، لا يظهر كونه أخص مما هو الالتفات عند الجمهور، ولم يثبت ذلك نعم، ما ذكره في ضرام السقط أن قول أبي العلاء:

هل يزجرنّكم رسالة مرسل

أم ليس ينفع في أولاك الوكّ

أي: في أولئك رسالة، وإن كان يرى فيه التفات ليس منه؛ لأن المخاطب بهل يزجرنكم بنو كنانة، وبقوله: أولاك أنت تشعر بأنه أريد اتحاد المخاطب حقيقة، أو لا مانع من اتحاد السامع فيه، لكن الكلام في أنه هل هو تحقيق من صاحب اتضرام أو وهم لعدم التنبيه لعموم المخاطب السامع، وقد يطلق الالتفات على تعقيب الكلام بجملة مستقلة متلاقية له في المعنى على طريق المثل، أو الدعاء، أو نحوهما من المدح والذم، كقوله تعالى: وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (3) وقوله ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ (4) قد يطلق على كلام ذكر في أثناء المقصود لدفع ما اختلج في قلب السامع مما ذكرته قبل إتمام المقصود، كقول

(1) فاطر: 9.

(2)

الفاتحة: 4.

(3)

الإسراء: (81).

(4)

التوبة: 127.

ص: 420

ابن ميادة:

فلا حرمة تبدو وفي اليأس راحة

ولا وصله يصفو لنا فنكارمه (1)

فكأنه لما قال: فلا حرمة تبدو، وقيل له: ما تصنع، فأجاب بقوله: وفي اليأس راحة (ووجهه) أي: وجه الالتفات الداعي إليه أيا كان فهذا الوجه يعم كل الالتفات، بل يعم وضع الظاهر موضع المضمر وعكسه، والتعبير بالماضي عن المستقبل، وعكسه إلى غير ذلك (أن الكلام إذا نقل من أسلوب) يتوقعه السامع (إلى أسلوب) لا يتوقعه سواء وجد المتوقع قبل غير المتوقع كما في الالتفات المشهور أو لم يوجد، كما فيما يخص السكاكي من الالتفات (كان أحسن نظرية) قيل: المسموع في المفتاح المهموز، لكن جعله السيد السند في شرح المفتاح محتملا؛ لأن يكون من طرء عليه إذا أورد عليه أي: حسن إيراد أو أن يكون ناقصا من: طريت الثوب، إذا عملت به ما جعله كأنه جديد، واللام في قوله:(لنشاط السامع) إما للتقوية، فيكون النشاط مفعول التطرية بمعنى التجديد، وإما للتعليل، فيكون غرضا من التطرية، وهو الموافق لقوله:(وأكثر إيقاظا للأصفاد إليه وقد يختص) تحقيقا (مواقعه بلطائف) أي: قد يختص بعض مواقعه ببعض اللطائف، لا أنه يختص كل التفات سوى هذا الوجه العام بلطيفة كما فسره به الشارح، وإلا لأوجب ذلك أن لا يكتفي في الالتفات بالنكتة العامة، وقد أشار بجمع الكثرة إلى كثرتها (كما في الفاتحة) أي: في سورة الفاتحة، ولك أن تريد فاتحة سورة الفاتحة (فإن العبد إذا ذكر) الأولى حمد، لأن الحمد أقوى في التحريك من مجرد الذكر (الحقيقي بالحمد عن قلب حاضر) بأنه العبد الذليل، وهو سيد جليل (يجد من نفسه محركا للإقبال عليه، وكلما أجرى عليه صفة من تلك الصفات العظام قوى ذلك المحرك إلى أن يؤول الأمر إلى خاتمتها المفيدة أنه مالك للأمر كله في يوم الجزاء).

(1) البيت في ديوانه ص 225، نقد الشعر ص 151، الصناعتين ص 409، الإيضاح ص 198، والبيت بلفظ:

فلا هجره يبدو- وفي اليأس راحة-

ولا وصله يبدو لنا فنكارمه

وانظر المصباح ص 219، 220 بلفظ: «فلا صرمه يبدو

» وجاء في نهاية الأرب: كأنه توهم أن فلانا يقول: ما تصنع بصرمه؟ فقال: لأن اليأس راحة. (نهاية الأرب).

ص: 421

وجه ذلك بأنه أضيف مالك إلى يوم الدين على طريق الاتساع، والمعنى على الظرفية، أي: مالك في يوم الدين، والمفعول محذوف دلالة على التعميم، وأورد عليه أن المحذوف المقدر كالملفوظ، فكأنه قيل: مالك يوم الدين جميع الأمور، فيلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، أقول: يا سارق الليلة أهل الدار مشتمل على هذا المجاز، مع ذكر المفعول الحقيقي، وتوجيهه جعل المفعول بدلا، والجمع بين الحقيقة والمجاز غير عزيز في البدل، كما في: قطع زيد يده، وسلب زيد ثوبه، فقول هذا القائل: والمفعول محذوف يريد به ما كان مفعولا قبل الاتساع وصار بدلا بعده (فحينئذ يوجب) ذلك المحرك (الإقبال عليه) أي:

على ذلك الحقيق بالحمد (والخطاب بتخصيصه بغاية الخضوع) الذي هو العبادة إذ العبادة نهاية التذلل (والاستعانة في المهمات) إشارة إلى اختيار تفسير إياك نستعين بالاستعانة في جميع المهمات على تفسيره بالاستعانة في العبادة، والمرجح عكسه على ما بين في محله، فاللطيفة الداعية إلى هذا الالتفات قوة المحرك الحاصلة من تفصيل الصفات، لا التنبيه على أن القارئ ينبغي أن يأخذ في القراءة، كذلك؛ لأن القرآن نزل على لسان العباد، والعبد في قراءته لا يقصد أن القارئ ينبغي أن يكون كذلك، فيعم البيان بيان المتن حيث أسقط ما في المفتاح من: أن اللطيفة المختصة هي ذلك التنبيه، ولم يتنبه له الشارح المحقق فظنه مقصرا في تقرير كلام المفتاح، وقال تتميما لبيانه: واللطيفة المختصة بها موقع هذا الالتفات هو أن فيه تنبيها على أن العبد إذا أخذ في القراءة يجب أن يكون قراءته على وجه يجد من نفسه ذلك المحرك المذكور.

هذا وقد ظهر لك أن: إياك نستعين ليس من الالتفات في شيء؛ لأنه مقتضى الظاهر بعد العدول إلى الخطاب في إياك نعبد، فلا يلتفت إلى ما يوهمه سوق بيان النكتة من أن فيه التفاتا دعت إليه قوة محرك الإقبال، وجزالة نكتة المفتاح وبراعته، على ما ذكره الزمخشري، لا يحتاج إلى الإيضاح، وهو أن الخطاب يشعر بأن المخصص بالعبادة والاستعانة هو الموصوف بالصفات، وهي العلة في التخصيص؛ لأن الخطاب لكونه بالغا في التعين مقام المشاهد، وذلك التعين إنما جاء من قبل الصفات، وذكر الشارح أن النكتة فيه التنبيه على أن

ص: 422

العابد ينبغي أن يكون متوجها إليه بالكلية، بحيث كأنه يراه، ولا يلتفت إلى ما سواه. هذا وينبغي أن يضم إليه، وعلى أن المستعين ينبغي أن يكون كذلك؛ ليجاب.

فإن قلت: كونه كذلك في مقام تخصيص العبادة لا يقتضي التنبيه على وجوب كونه ذلك في مقام العبادة، قلت: يمكن أن يتكلف للشارح بأنه لما جعله في مقام الحمد، وهو عبادة كذلك نبه عليه، أو بأنه لما جعله في سورة لا يكون الصلاة بدونها، كذلك نبه على ذلك، وهذا مراده، لا أنه لما جعله كذلك في مقام عرض العبادة نبه على ذلك وهاهنا سوانح غيبية لمن له أهلية منها:

أن المراد بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ، فعرف كما في: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (1) أي: ليعرفون فحصر المعرفة فيه بعد حصر الحمد، وأشار إلى الشركة العامة في ذلك تنبيها على أن حصر المعرفة في مقام مشاهدة الكثرة، وذلك كمال التوحيد، ولا يخفى أن المنبه على تلك المشاهدة صيغة الخطاب، ومنها أنه تعالى نبه أولا على أنه غائب عن كل مثلى بعالم الحس، وطريق الوصول إليه التوجه إلى تفصيل صفاته بقلب حاضر، فإن نهاية التفصيل حضوره عنده بحيث يسعه أن يخاطبه وبحضوره يرى العبد: أن القدرة كلها له وهو ذليل عاجز، فيخاطبه بإظهار ذل من سواه وعجزه في كل ما عناه، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله.

قال الشارح المحقق: ولما أنجز كلامه إلى ذكر خلاف المقتضى الظاهر أورد عدة أقسام منه، وإن لم يكن من مباحث المسند إليه، أقول: قد مهد البحث في أول الشروع في بحث خلاف مقتضى الظاهر على وجه لا يخص المسند إليه ونبه على أن بحثه غير مختص حيث قال: وقد يخرج الكلام على خلافه، ولم يقل، وقد يخرج المسند إليه على خلافه، فقوله:(ومن خلاف المقتضى) بمعنى: خلاف المقتضى الذي كلامنا فيه، وهو مطلق خلاف المقتضى، ونبه بقوله:(ومن) على أنه لا ينحصر فيما ذكر كيف وجميع المجازات خلاف مقتضى الظاهر في القاموس، لقيه، كتلقاه، والتقاه هذا، فقوله:(تلقى المخاطب بغير ما يترقب) مما عدي

(1) الذاريات: 56.

ص: 423

إلى المفعول الثاني بالباء، أي: جعل المخاطب متلقيا غير ما يترقب (بحمل) أي: بسبب حمل (كلامه على خلاف مراده تنبيها على أنه) أي: ذلك المخالف (أولى بالقصد) وأقول: أو هو الواجب أن يقصد على حسب تفاوت المقامات، وكونه أولى إما بالنظر إلى المتكلم أو المخاطب أو غيرهما، ولا يخفى أن التلقي لا يتوقف على حمل كلامه على خلاف مراده، بل يصح أن يكون للتنبيه على أن غيره أولى بالإفادة والتخاطب به، فالحمل على خلاف المراد مؤنة لا حاجة إليه (كقول القبعثري (1) للحجاج (2) وقد قال) الحجاج متوعدا له. أشار بقوله:

وقد قال وجعله حالا أنه قال ذلك بديهة، وأكد فطانته بقوله: متوعدا له، حيث لم يحل بينه وبينها وعيد الحجاج (لأحملنك على الأدهم مثل الأمير حمل الأدهم والأشهب)(3) نبه الحجاج أنه الأولى بالقصد نظرا إلى حال الأمير، كما أشار إليه المصنف، ولو كان قصده إلى أنه الأولى بالقصد نظرا إلى المخاطب يقال: مثلي حمل على الأدهم والأشهب، أي: الفرس الذي غلب سواده حتى ذهب البياض، والفرس الذي غلب بياضه حتى ذهب ما فيه من السواد وضم الأشهب للقرينة على المراد بالأدهم، أو لإفادة أنه لا ينبغي أن يكتفي بالأدهم (أي: من كان مثل الأمير في السلطان) الغلبة (وبسطة اليد) أي: الكرم والنعمة والمال (فجدير بأن يصفد).

قال الشارح: بأن يعطي من الأصفاد (لا أن يصفد) من حد ضرب أي

(1) القبعثري: من زعماء الخوارج وفصحائهم، ويقال: إنه كان يوما مع صحابة له في بستان، وذكر الحجاج، فدعا عليه قائلا: اللهم سوّد وجهه، واقطع عنقه، واسقني دمه، فلما ظفر الحجاج به، سأله عن ذلك، فقال: أردت العنب، فقال الحجاج: لأحملنّك ....

(2)

هو الحجاج بن يوسف الثقفي، أبو محمد: قائد، داهية، سفّاك، خطيب، ولد ونشأ في الطائف وانتقل إلى الشام فلحق بروح بن زنباع نائب عبد الملك بن مروان، فكان في عديد شرطته ثم ما يزال يظهر حتى قلده عبد الملك أمر عسكره، وأمره بقتال عبد الله بن الزبير، فزحف إلى الحجاز بجيش كبير وقتل عبد الله وفرّق جموعه، فولاه عبد الملك مكة والمدينة والطائف، ثم أضاف إليها العراق والثورة قائمة فيها، فقمع الثورة وثبتت له الإمارة عشرين سنة، وبنى مدينة واسط، قال عنه عمرو بن العلاء: ما رأيت أحدا أفصح من الحسن البصري والحجاج، مات بواسط سنة 95 هـ- انظر ترجمته في الأعلام 2/ 168، معجم البلدان (8/ 382)، وفيات الأعيان (1/ 123).

(3)

الأدهم في كلام الحجاج بمعنى القيد من الحديد، وفي كلام القبعثري بمعنى الفرس الأسود، أما الأشهب فهو الفرس الأبيض بياضا يتخلله سواد.

ص: 424

يقيد ويوثق، وفي القاموس جعل كلا من الأصفاد والصفد مشتركا بين المعنيين فلك أن تجعلهما على لفظ واحد، وكلا منهما بمعنى، وأن تجعل كل لفظ مخالفا للآخر، إما كما فعله الشارح، أو على عكسه. روي أنه قد أغضب الحجاج قوله: وقال الأدهم حديد، فقال: بلا توقف: لأن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا، أي: خير بالنسبة إلى الأمير أو بالنسبة إلي (أو السائل بغير ما يتطلب) في الصحاح التطلب هو الطلب مرة بعد أخرى، فالأولى لغير ما تطلب؛ لأن ذلك التلقي لا يخص بمن يبالغ في الطلب، وكأنه أوقعه فيه حسن المناسبة بين يترقب ويتطلب، فرجح رعاية جانب اللفظ على المعنى (بتنزيل سؤاله منزلة غيره) الكلام فيه كالكلام في حمل الكلام على خلاف المراد، هل هو ضروري أم لا؟ (تنبيها على أنه الأولى بحاله) أي: بحال السائل، أو على أنه الأولى بحال المجيب، فالأولى الاكتفاء بقوله:(على أنه الأولى أو المهم) من غير ذكر.

والفرق بين الأولى والمهم هو: الفرق بين الأهم والمهم، فالمهم هو الواجب، ولا يخفى أن تلقي السائل بغير ما يتطلب مندرج تحت تلقي المخاطب بغير ما يترقب، ولا تفاوت بينهما إلا بحسب العبارة (كقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (1)، كما أن السؤال عن حكمة تفاوت الأهلة أولى بحالهم، الجواب: بيان الحكمة أولى بحال الرسول- عليه السلام لأنه المبعوث لبيان أمثاله، في الشرح سألوا عن السبب في اختلاف القمر في زيادة النور ونقصانه حيث قالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط، ثم يتزايد قليلا قليلا، حتى يمتلي ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، فأجيبوا ببيان الغرض من هذا الاختلاف، وهو أن الأهلة بحسب ذلك الاختلاف معالم يوقت به الناس أمورهم من المزارع، والمتاجر، ومحال الديون، والصوم، وغير ذلك، ومعالم الحج يعرف بها وقته، وذلك للتنبيه على أن الأولى والأليق بحالهم أن يسألوا عن الغرض، لا عن السبب؛ لأنهم ليسوا ممن يطلعون بسهولة على ما هو من دقائق علم الهيئة، ولا يتعلق لهم به غرض. هذا كلامه.

وفي الوجه الأول: أنه يلزم أن يكون في الآية بيان أن السؤال عن الغرض

(1) البقرة: 189.

ص: 425

يكون أولى بالنسبة إلى من لا يطلع بسهولة على السبب، وظاهر الخطاب خلافه وأن معرفتهم من بيانه صلى الله عليه وسلم، مع أنهم غير مستعدين بها يكون معجزة أخرى.

وفي الوجه الثاني: أن في معرفة سبب ذلك ظهور وكمال قدرة الله وظهور معجزة شاهدة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم بحيث صاروا ببيانه عالمين بالسبب، مع بعدهم عن فهمه، فالأولى أن يقال: الأولى بحال من لا يعرف أحكام الشريعة تقديم معرفة الأحكام، أو الأولى حين السؤال عن أفعاله تعالى هو السؤال عن حكمه لا عن أسبابه؛ لأنه الفاعل المختار المستغني عن السبب (وكقوله تعالى:

يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (1) سألوا عن بيان ما ينفقون، فأجيبوا ببيان المصارف تنبيها على أن المهم هو السؤال عنها؛ لأن النفقة لا يعتد بها، إلا وأن تقع موقعها، وكل ما هو خير فهو صالح للإنفاق، فذكر هذا على سبيل التضمين دون القصد كذا في الشرح، ويحتمل أن يكون وجه كون بيان المصارف مهمّا لهم دون نفس النفقة. إن نفقاتهم كانت على وجه لا قصور فيها، لكن كانوا أهل التفاخر والمباهاة فيصرفونها إلى الأباعد وأرباب الجاه والثروة، فأجيبوا ببيان المصارف (2) تنبيها على أن المهم لكم في الإنفاق ذلك؛ لأن خطأكم فيه في المصرف لا فيما تصرفون (ومنه التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيها على تحقق وقوعه)، وكأنه اعتمد على أنه يتنبه من له فطنة أن التعبير عن الماضي بلفظ المضارع- أيضا- من خلاف مقتضى الظاهر، لا لنكتة تبين في محلها، ولم يتعرض له لذلك، لا لاختصاص بخلاف مقتضى الظاهر بما ذكره، بل كل مجاز كذلك (نحو: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) (3) سها، فوضع، فصعق مكان، ففزع، ويبعد أن يقال: لم يمثل بالقرآن، بل تركيب مصنوع له وافق أكثره لفظ النظم (ومثله) في كونه خلاف مقتضى الظاهر أو في النكتة وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (4) أي: التعبير عن المستقبل

(1) البقرة: 189.

(2)

للتنبيه على أنه المهم لهم.

(3)

النمل: 87.

(4)

الذاريات: 6.

ص: 426

بلفظ اسم الفاعل، ونبه بقوله: ومثله على تفاوت بين المثالين، وكأنه ذلك أنه لا اشتباه في كون المستقبل بلفظ الماضي خلاف مقتضى الظاهر، وأما كون اسم الفاعل في المستقبل خلاف مقتضى الظاهر في خفاء لعدم دلالته على زمان، ووجه التنبيه فيه على تحقق الوقوع أن اسم الفاعل حقيقة فيما فيه الموصوف به في الحال اتفاقا مجاز فيما يتصف به بعد التعبير اتفاقا، واختلف فيما اتصف به قبل وانقضى بالدين جزاء يوم البعث.

أما إذا أريد الجزاء كما بين في الأصول، هذا إذا أريد الجزاء مطلقا، والله تعالى يجزي العباد في الدنيا أيضا، فليس التعبير عن المستقبل باسم الفاعل، بل عما لا يختص بزمان (وبنحو ذلك) ولا يبعد أن يقال: الظاهر لمن يعلم زمان ما يخبر عنه بالتحقق وهو غائب عن المخاطب أن يبين زمانه بخلاف ما هو حاضر بين يديه، والدين كذلك، فكان مقتضى الظاهر أن يقول: إن الدين ليقع، فلما قال: إن الدين لواقع، نزل منزلة المحقق الشاهد للمخاطب يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ (1) أي: يجمع نزله منزلة الحال بعد أن أحضره، وجعله مشاهدا مشارا إليه بالإشارة الحسية، فإن تلك الإشارة تستدعي جعل الجمع فيه في الحال، فاحفظه، فإنه بديع لعله رفيع، وأقول في كون التعبير عن مستقبل بلفظ الماضي، والعكس من خلاف مقتضى الظاهر مطلقا نظر، لأنه إذا عبر عن المستقبل بلفظ الماضي على خلاف مقتضى الظاهر مرة ثم عبر ثانيا عنه بلفظ الماضي، فذلك التعبير مقتضى الظاهر، وعلى وفق الأسلوب حتى لو عبر عنه بلفظ المستقبل كان خلاف مقتضى الظاهر؛ لكونه خلاف الأسلوب، وأظن بك ألفا بهذا التحقيق بعد أن صرت في بحث الالتفات على التوثيق، فقستك (2) بما هو الحق واسأل الله التوفيق.

ومن هذا تبين لك أنه ربما يكون التعبير عن المستقبل بلفظ المستقبل، وعن الماضي بلفظه خلاف مقتضى الظاهر (ومنه) أي: من خلاف مقتضى الظاهر (القلب) قال الشارح: هو جعل أحد أجزاء الكلام مكان الآخر، والآخر

(1) هود: 103.

(2)

في الأصل: «فقسك» .

ص: 427

مكانه، ولا ينتقض بقولنا: في الدار زيد وضرب عمرا زيد؛ لأن المراد بالجعل مكان الآخر أن يجعل متصفا بصفة لا مجرد أن يوضع موضعه، فدخل في جعل أحد أجزاء الكلام مكان الآخر، ضرب زيد، حيث جعل المفعول مكان الفاعل، وخرج بقوله: والآخر مكانه، ولا بد في الحكم بالقلب من داع، إما لفظي لجعل النكرة مسندا إليه، والمعرفة مسندا، فإنه إذا وقع هكذا حكم بالقلب، وإما معنوي يدعو رعاية جانب المعنى كون الجزأين في الأصل على خلاف الترتيب الواقع، مثال أول: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ (1) ومثال الثاني: ما أشار إليه بقوله: (نحو: عرضت الناقة على الحوض)، فإن الأصل فيه: عرضت الحوض على الناقة؛ فإن عرض الشيء على الشيء معناه:

إرائته إياه على ما في القاموس، ولا رؤية للحوض.

وفي الشرح؛ لأن المعروض عليه يجب أن يكون له إدراك؛ ليميل إلى المعروض، أو يرغب عنه، ومنه: أدخلت القلنسوة في الرأس، والخاتم بالأصبع. لعل النكتة في القلب في هذه الأمور أن العادة تحرك المعروض، نحو:

المعروض عليه والمظروف نحو الظرف، وهنا انعكس الأمر (وقبله السكاكي مطلقا)(2)، وجعله نفسه اعتبارا لطيفا (ورده غيره مطلقا)، وقال: يجب أن يجتنب عنه (والحق أنه إن تضمن اعتبارا لطيفا قبل كقوله) أي: قولي:

رؤبة (3)(ومهمه) أي: مفازة (مغبّرة) متلونة بالغبرة (أرجاؤه) أطرافه ونواحيه (كأنّ لون أرضه سماؤه (4) أي: لونها) يريد: أن المضاف إلى السماء محذوف، ولك أن تجعل التقدير أي: هي لونها وتجعل ضمير لونها إلى الأرض، والمحذوف إلى السماء فيكون إشارة إلى القلب لا إلى حذف المضاف، والاعتبار اللطيف فيه ما شاع في كل تشبيه مقلوب من المبالغة في كمال المشبه إلى أن استحق جعله

(1) آل عمران: 96.

(2)

انظر المفتاح 113.

(3)

رؤبة بن عبد الله بن العجاج بن رؤبة التميمي السعدي، أبو الجحّاف، أو أبو محمد: راجز، من الفصحاء المشهورين، من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، كان أكثر مقامه في البصرة وأخذ عنه أعيان أهل اللغة، مات في البادية سنة 154 هـ وقد أسن، انظر ترجمته في الأعلام.

(4)

البيت لرؤبة في ديوانه ص 3، المصباح ص 42، الإشارات والتنبيهات ص 59، المفتاح ص 113، تأويل مشكل القرآن ص 151، شرح عقود الجمان (1/ 113)، والمهمه: الأرض القفر والمفازة.

ص: 428