الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحواشي بعض فضلاء الأنام، ولزيفت ما هو مزيف، وأحكمت ما هو قابل للإحكام، ولعل المصنف علم قصد الفرزدق فبني التمثيل على قصده فلا يضره احتمال.
[وأما في الانتقال]
(وأما في الانتقال) أي في الانتقال الذي ليس لخلل النظم، وإلا فعدم ظهور الدلالة الخلل في النظم إنما هو لخلل في الانتقال، ولك أن تريد الانتقال من الموضوع له، ويتم التقابل إذا ما سبق خلل الانتقال فيه من اللفظ، وذلك الخلل إما لإرادة ما ليس لازم المعنى الأول الذي أريد الانتقال منه، وذلك بعيد الوقوع رديء جدّا، وإما لكونه لازما بعيدا يغتر الذهن دون الوصول إليه، وإما لعدم نصب القرينة، وذلك أيضا بعيد جدّا، أو لنصب ما هو خفي.
(كقول الآخر) لم يقل كقوله ليعلم أنه غير الفرزدق، أو ليعلم أنه أيضا بليغ من البلغاء، كأنه كقول البليغ الآخر، ولذا صرح باسم الفرزدق أيضا سابقا ليعلم أن البلاغة والمهارة لا يمنع عن الهفوة، فلا بد لكل ذي يد طولى أن يسعى في تحصيل ما هو الطولي، ولا يعتمد على أن بلوغه المرتبة العليا متكفل له، وقال الشارح: لئلا يتوهم أنه الفرزدق، وفيه أنه تأكد حينئذ التوهم في قوله: كقوله:
سبوح لها
…
إلخ: [سأطلب](1) سوف أطلب البعد، وإن كان مهمّا، وقال:
[بعد الدار عنكم] فأضاف البعد إلى الدار إشارة إلى أن بعد ذاتهم لا يمكن أن يخطر بالبال، وطلب بعد الدار غير مقدور في الحال غاية الأمر، وسوسة النفس، والعقل مبالغ في الإمهال، وأسند القرب إلى ذاتهم بقوله:[لتقربوا] لأن قربهم متمكن في الخيال، ولا يترنم بغيره المقال [وتسكب] بالنصب بتقدير أن لعطفه على بعد الدار، وبالرفع لعطفه على سأطلب [عيناي الدّموع لتجمدا] ومعنى البيت على ما هو المشهور عند القوم أن عادة الزمان والإخوان إلجاء الطالب إلى الحرمان، فأي أمر كان هو المرتقب بحكم الزمان والإخوان انعكس وانقلب، فإلى الآن بقيت في حزن البعد، والاحتجاب للمبالغة في طلب السرور
(1) البيت للعباس بن الأحنف بن الأسود الحنفي اليمامي، وهو شاعر غزل رقيق قال فيه البحتري: هو أغزل الناس. انظر ترجمته في الأعلام (3/ 259)، والبيت في ديوانه (106)، طبعة دار الكتب، والإيضاح (6) تحقيق د/ عبد الحميد هنداوي، ودلائل الإعجاز (268)، والإشارات والتنبيهات (12).
بالوصل، والاقتراب، فبعد اليوم أطلب البعد ليساعد في الدهر وأهله بالقرب والحضور، أطلب حزن البعد لأفوز بالقرب والسرور.
وعلى ما حققه الشيخ أنه كنى بطلب بعد الدار عن توطين النفس عليه والسين لمجرد التأكيد، كأنه قال: إلى اليوم أطيب نفسي بالبعد وأحزانه، وأشيد بناء الصبر الجميل بأركانه، لأتسبب بذلك إلى وصل بتأبد، ومسرة لا تنفد إلى الأبد، فإن الصبر الجميل مفتاح الفرج، مع الأجر الجزيل بلا حرج، والأبلغ أن يجعل تسكب عطفا على أطلب فيكون تحت التأكيد، والشارح المحقق صوب بهذا المعنى، وجعل توجيه القوم تعسفا فاسد المبنى، ولم يرض به المرتضى الشريف، وقال: كلام القوم غير مستحق للتخطئة والتزييف، فتصويب الشارح كتصويب من قال: الصواب أن الشاعر يعتذر إلى العشيقة في التشمر للسفر ليتوسل به إلى أسباب معاشرتها في الحصر؛ إذ بالأموال يقتنص ظباء الغواني، ويتمتع بالوصال، وإلى مثل هذا المعنى أشار المتنبي حيث قال:
[لعلّ الله يجعله رحيلا
…
يعين على الإقامة في ذراكا] (1)
فلكل من المعاني وجهة هو موليها، وقصد الشاعر موكول إليه، غيره لا يجليها، إذ لم يعرف أنه بصدد الظرافة أو في مقام إظهار الحكمة والكرامة، أو كان التكلم بهذا المقال في مقام السفر والارتحال، حتى يحكم بحقيقة الحال، فلا محال إلا لاستيفاء الاحتمال، ويمكن تقوية الشارح المحقق بأن ما يحتاج إلى معرفة حال الشاعر فالحق فيه متابعة السابق الماهر، وهو الشيخ عبد القاهر الذي يغلب حسن الظن به، ويقرب أن يكون حاله عليه الظاهر، ومن الاحتمالات التي هي أبدر إلى الفهم ما خطر ببالي وهو أن الشاعر قصد إلى أن تحصيل المطالب بأن يكون في الاستغناء عنها كالهارب، وترى نفسك عنه معرضا، فتراه لك متعرضا،
(1) البيت في ديوانه (2/ 335)، من قصيدة قالها عند وداعه لعضد الدولة في أول شعبان سنة أربع وخمسين وثلاث مائة، وهي آخر شعر قاله. ومطلعها:
فدى لك من يقصّر عن مداكا
…
فلا ملك إذن إلا فداكا
ولو قلنا فدى لك من يساوى
…
دعونا بالبقاء لمن قلاكا
والذرا: الكنف، لعل الله يجعل هذا الرحيل سببا للعودة فأقضي حوائجي، وأعود للإقامة في كنفك.
ومن أكب على شيء فهو عنه يهرب، ومن أعرض فهو يقرب، ومن هذا حكم بأن الحرص شؤم، والحريص محروم، وقيل لو لم تطلب الرزق يطلبك، وفي حديث «زر غبّا تزدد حبّا» (1) منه شمة لمن له شامه، وإذا فرغت عن تحقيق معنى البيت فنقول: وبالجملة جعل سكب الدمع وهو البكاء كناية عما يلزم فراق الأحبة من الحزن، وأصاب لأنه واضح الانتقال، لأنه كثيرا ما يجعله دليلا عليه، ويراد به، وجعل جمود العين كناية عن السرور، قياسا على جعل السكب لمقابله، ولم يصبب لأن سكب الدمع قلما يفارق الحزن، بخلاف جمود العين، فإنه يعم أزمنة الخلو عن الحزن، سواء كان زمن السرور أو لا، فلا ينتقل منه إلى السرور، بل إلى الخلو من الحزن، وهذا وجه واضح للخلل في الانتقال إلى ما قصده، وإن خفى إلى الآن، وبه يندفع ما ذكره الشارح أنه يصح أن يراد بجمود العين خلوه عن الدمع مجازا، من باب استعمال المقيد في المطلق، ثم يكنى به عن المسرة لكونه لازما لها عادة، إذ عرفت أن الخلو ينفك عن السرور، لكنهم نظروا إلى أن جمود العين اشتهر في البخل بالدمع، بناء على اشتهار الجمود في البخل، حتى يقال للبخيل: جماد كقطام، ويقال جمد بمعنى بخل، ويستعمل الجمود في مقابلة الجواد حتى قال الحماسي (شعر):
ألا إنّ عينا لم تجد يوم واسط
…
عليك بجاري دمعها لجمود (2)
فظنوا أن اشتهار الجمود في البخل يمنع الانتقال من المعنى الحقيقي إلى غيره فمثله ومثل غيره من المعاني المجازية كمثل الشمس والكواكب حيث تختفي مع الشمس ولذا قال: (فإن الانتقال من جمود العين إلى بخلها بالدموع لا إلى ما قصده من السرور) فتعرض لما ينتقل منه إليه، ولم يكتف بما يهمه من أنه لا ينتقل منه إلى ما قصده تنبيها على أن الخلل في الانتقال ربما يكون من كمال ظهور معنى آخر فيحول بين اللفظ والمقصود، لكنه يتجه عليه أن ما ذكر في صدر
(1) صحيح، رواه البيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة، وانظر صحيح الجامع ح 3568.
(2)
البيت لأبي عطاء السندي في رثاء ابن هبيرة عند ما قتله المنصور يوم واسط بعد أن أمّنه، وواسط مدينة بالعراق بناها الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد كنى فيه الشاعر بجمود العين عن بخلها بالدمع في الوقت الذي يجب فيه أن تدمع. انظر البيت في شرح الحماسة (2/ 151)، ودلائل الإعجاز (269)، والإشارات والتنبيهات (12)، والإيضاح (8).