الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العقلي هو إسناد الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له، وإلحاقه ما هو في معنى الفعل به؛ لأنه في حكمه؛ حتى يكتفي كثيرا بذكر الفعل في مقام الحكم عليهما، فقولك: زيد إنسان خارج عنهما عنده داخل في الحقيقة عند صاحب المفتاح، فلا بد له من العدول من هذا الوجه أيضا، وأما أن الحق في ذلك مع المفتاح لشهادة الشيخ عبد القاهر له فلا يقدح في وجه العدول، وأما ما اعترض به المصنف على تعريفه للحقيقة من أنه الكلام المفاد به ما عند المتكلم من الحكم فيه من أنه غير صادق على ما لا يطابق الاعتقاد مما سبق من قولك: جاء زيد، وقول المعتزلي المخفى اعتقاده حيث ترك في تقييد ما عند المتكلم بقولنا في الظاهر مع أنهما حقيقتان من غير ريبة من أحد- فلا يتم حتى يتم وجها للعدول؛ لأن المقصود الظاهر مما عند المتكلم ما عنده في الظاهر، لعدم الاطلاع على السرائر، نعم؛ لا كلام في صحة العدول لقصد مزيد توضيح والاحتراز عن غفلة نظر غير صحيح، ولو سلم أن المتبادر ما عند المتكلم في نفس الأمر فعدم صدق التعريف على ما لا يطابق الاعتقاد في نفس الأمر مم لأنه الكلام المفاد به ما عند المتكلم من الحكم في نفس الأمر، غايته أن الإفادة لم تطابق لتخلف المدلول على الدال، ولا يصح أن يقال المتبادر ما هو أعم من أن يكون عند المتكلم في الحقيقة، أو في الظاهر؛ لأنه ينتقض على هذا تعريف المفتاح بدخول ما ليس منها بأن يكون ما عند المتكلم في الواقع، لا في الظاهر.
ومما قررت به من جهات العدول أن تعريف المفتاح من غير منعكس لخروج الإنشاءات إذ لا حكم فيها، ولخروج المركبات الغير (1) الكلامية، وغير مطرد على مذهب المصنف لدخول نحو: زيد صائم فيه، مع إن إسناد صائم فيه إلى المبتدأ ليس بحقيقه لأنه إلى الملابس.
[ومنه مجاز عقلي]
(ومنه)(2) أي من الإسناد (مجاز عقلي) ويسمى مجازا حكميا، ومجازا في الإثبات، وإسنادا مجازيا (وهو إسناده) أي إسناد الفعل أو معناه إلى (ملابس) اسم مفعول بقرينة قوله يلابس الفاعل، ولذا لم يقتصر على التعدد المعتاد له
(1) كذا وردت بالأصل.
(2)
انظر تعريف المجاز في دلائل الإعجاز (66)، المفتاح (192)، التبيان (1/ 288) بتحقيقنا، عقود الجمان (2/ 34).
(غير ما هو) أي الفعل أو معناه (له) وما هو له فيما سوى الفعل المجهول، واسم المفعول الفاعل، وفيهما المفعول به، ولا يخفى أن غير ما هو له يتبادر منه غير ما هو له في نفس الأمر وبقوله:(بتأويل) يصير أعم من غير ما هو له في نفس الأمر، ومن غير ما هو له في اعتقاد المتكلم في الواقع، أو في الظاهر، ويتقيد باعتقاد المتكلم في الظاهر؛ فهو بمنزلة أن يقال غير ما هو له في اعتقاد المتكلم في الظاهر، والتأول طلب ما يئول إليه الشيء، والطلب هاهنا بالرجوع إلى العقل، ولذا قال الشيخ هو طلب ما يئول إليه من الحقيقة أو الموضع الذي يئول إليه من العقل، وإلا فليس الرجوع في التأول مطلقا إلى العقل، والتأول بنصب القرينة الصارفة للإسناد عن أن يكون إلى ما جعل له إلى ما هو حقيقة الأمر، لا بمعنى أن يفهم لأجلها الإسناد إلى ما هو له بعينه؛ فإنه قلما يحضر السامع بما هو له، بل بمعنى أن يفهم ما هو حقيقة الكلام، مثلا يفهم من: صام نهاري أنه وقع الصوم المبالغ فيه في النهار، أو: صام صائم في النهار جدّا، حتى خيل أن النهار صائم، وفي: بني الأمير المدينة أنه صار الأمير سببا بحيث خيل إليك أنه بان، أو بنى بأن سببه وسببيته كانت على هذا الوجه، ثم التعريف ينتقض بالإسناد إلى الملابس كذلك لا للملابسة فإنه لا يسمى مجازا، كما يرشدك إليه قوله فيما بعد:
وإسناده إلى غيرهما للملابسة مجاز، فلا بد من اعتبار كونه للملابسة، فتأمل واعتبر.
ولا ينتقض بمثل (إنما هي إقبال) لأنه مجاز كما حققه الشيخ، ولم يدخل في التعريف لخروجه بتقييد الإسناد بكونه إلى ملابس، بناء على أن للمصنف مذهبا آخر ليس فيه هذا المثال مجازا، بل هو واسطة.
وأما الكتاب الحكيم، والأسلوب الحكيم، والضلال البعيد، والعذاب الأليم، فإن أريد بها وصف الشيء بوصف صاحبه فليس بمجاز، ولو أريد بها وصف الشيء لكونه ملابس ما هو له في التلبيس بالمسند لكونه مكانا للمسند أو سببا له فيكون المآل الحكيم في كتابه، والحكم في أسلوبه، والأليم في عذابه، والبعيد في ضلاله، أو له كان مجازا داخلا في التعريف، ومقتضى تعريفات القوم أن لا يكون مكر الليل، وإثبات الربيع، وجري الأنهار، وأجريت النهر
مجازات، وقد شاع إطلاق المجاز عليها، فإما أن يجعل الإطلاق على سبيل التشبيه، وإما أن يتكلف في التعريف، وصناعة التعريف تأبى الثاني، والشارح يتكلف تارة بجعل الإسناد شاملا للإضافة والتعلق، وتارة يؤول الإضافة والتعلق بالإسناد، لتضمنها إسنادا، وهما مع غاية بعدهما يردهما أنه حينئذ يختل ما سيجيء من أن إسناد الفعل المبني للفاعل إلى المفعول مجاز، وأن إسناد الفعل المبني للمفعول إلى الفاعل مجاز، فإن: أنعم النهر السيل حقيقة، مع أنه أسند إلى الفاعل الذي هو السيل فتأمل.
(وله) أي للفعل أو ما في معناه (ملابسات) إما جمع ملابس وهو الظاهر أو جمع ملابسة (شتى) جمع شتيت أي مختلفة، كمرضى ومريض، وأراد باختلافهما أن بعضها ما هو له، وبعضها غير ما هو له كما سيبينه.
(يلابس الفاعل والمفعول به) يريد بهما النحويين (والمصدر) يريد به المفعول المطلق، فإن المصدر مشترك بينه وبين اسم الحدث الجاري على الفعل (والزمان والمكان والسبب) الأولى والمفعول فيه، والمفعول له، ولم يتعرض للمفعول معه، ونحوه؛ لأن الفعل لا يسند إليهما، كذا في الشرح، وفيه نظر؛ لأن السبب يشمل المفعول معه مطلقا، فلا ينبغي التعرض لمطلق السبب لأن المفعول له بتقدير حرف الجر كالمفعول معه. على أن المفعول معه والمفعول له لا يقومان مقام الفاعل، أما إسناد الفعل المعلوم إليهما فجائز، نحو: ضرب التأديب للمبالغة في سببيته، فالوجه أنه لم يتعرض للمفعول معه لأن الإسناد إليه إسناد إلى الفاعل، وكذا الحال فإن: جاءني راكب حقيقة لا فرق بينه وبين:
جاءني زيد، في: جاءني زيد راكبا، وكذا التمييز فإن طاب نفس زيد حقيقة ولم يتعرض لغيره لأنه لا يسند إليه الفعل، ومعناه وما يتوهم من إسناد الفعل إلى المستثنى في ما جاءني إلا زيد فهو إسناد إلى الفاعل، لأنه إسناد المجيء إلى زيد، وإسناد عدمه إلى غيره، وهما فاعلان؛ فإن كانا ما هو لهما فالإسنادان حقيقيان، وإلا فللملابسة مجازان، وينبغي أن يستثنى من المفعول به المفعول الثاني من باب علمت، والثالث من باب أعلمت.
(فإسناده إلى الفاعل أو المفعول به إذا كان مبنيّا له) أي لأحدهما
(حقيقة) كما مر، أي كما مر فيما سبق من بحث الحقيقة، وما قبله، من قوله:
إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (1) وقوله: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (2) ومن لم يتنبه كذبه في الإسناد الحقيقي إلى المفعول (وإلى غيره) أي غير أحدهما (للملابسة مجاز) أصل هذا الكلام فإسناده إلى الفاعل إذا كان مبنيّا له حقيقة، وإلى غيره مجاز، وإسناده إلى المفعول به إذا كان مبنيّا له حقيقة، وإلى غيره مجاز إلا أنه طلب الاختصار فجمعهما، واختل فيفيد أن إسناد المبني للفاعل أو المفعول إلى أحدهما مطلقا حقيقة، لأنه حين الإسناد إلى أحدهما مبني لأحدهما، ولا يفيد أن إسناد المبني للمفعول إلى الفاعل، والمبني للفاعل إلى المفعول مجاز.
والإسناد للملابسة أن يكون المناسبة الداعية إلى وضع الملابس موضع ما هو له مشاركته مع ما هو له في كونهما ملابسين للفعل، وفائدة التقييد إخراج الإسناد إلى غير ما هو له من غير ذلك الداعي، عن أن يكون مجازا، فإنه غلط وتحريف، يخرج به الكلام عن الاستقامة، ولا يلتفت إليه فضلا عن أن ينخرط في سلك المزايا، أو تنبيه على أن ما يميل إليه عبارة الكشاف من أن المعتبر التلبس بما هو له مؤول بأن مراده التلبس بما هو له في ملابسة الفعل؛ لأن مجرد التلبس بالفاعل لا باعتبار الفعل علاقة بعيدة ينبغي أن لا يعتد بهما في إسناد الفعل، ومجرد ميل العبارة لا يكفي في إثبات مذهب مخالف لمذهب غيره، ولهذا نسب المصنف مذهبه إليه، وغيره على ما نقلناه لك، ولبعض المتأخرين هنا بحث شريف؛ وهو أنه كيف تكون: جلس الدار، وسير سير شديد، وسير الليل، مجازا وليس لنا مسير ومجلوس ينزل الدار، أو السير الشديد منزلته ويلحق به؟ !
وأما الأفعال المتعدية فينبغي أن يفصل، ويقال: ضرب الدار، إن قصد به كونها مضروبة فمجاز، وإن قصد كونها مضروبا فيها فحقيقة، وكذا الحال في ضرب ضرب شديد، وضرب التأديب، هذا ونحن نقول: كون إسناد الفعل المبني للمفعول إلى غير المفعول به مجازا مبني على أن وضع ذلك الفعل لإفادة إيقاعه على ما أسند إليه، فحينئذ إذا صح جلس الدار فبتشبيه تعلق الظرفية بتعلق
(1) يس: 14.
(2)
المؤمنون: 27.
المفعول به، ووضعه مقامه، وإبرازه في صورته تنبيها على قوته؛ فإن أقوى تعلقات الفعل بعد التعلق بالفاعل تعلقه بالمفعول به، ولا يجب أن يكون هناك مفعول به محقق، بل يكفي توهمه وتخيله، كما تقول: أقدمني بلدك حق لي عليك، لتوهم مقدم وتخيله؛ مع أنه لا مقدم هناك، ولا متحقق إلا قدوم للحق، إلا أنك صورت الحق في صورة المقدم الموهوم مبالغة في سببيته، وسيأتي مزيد تحقيقه. فضرب الدار لا معنى له إلا جعله مضروبا، ولا يتأتى فيه تفصيل، نعم يشكل الأمر في: ضرب في الدار، وضرب للتأديب، فإنه لا يظهر جعل الدار مضروبة مع وجود في، بل يتعين جعلها مضروبا فيها، ولا يظهر جعل التأديب إلا مضروبا له، فلا تجوز فيهما بل مما حقيقتان. هذا إذا جعل نحو في الدار ظرفا، ونحو للتأديب مفعولا له، كما هو مذهب الشيخ ابن الحاجب؛ أما لو جعلا مفعولا به بواسطة حرف الجر كما هو المشهور المتفق عليه الجمهور فلا إشكال؛ لكن تمثيل المصنف للمكان بقوله: نهر جار، وللسبب بقوله: بنى الأمير المدينة، ويرشد إلى أنه لم يجعل النهر والأمير مفعولا به بالواسطة- لا يصح أن يكون النهر مفعولا فيه، إلا بذكر «في» ؛ لأنه ليس مكانا مبهما، ولا يصح أن يكون الأمير مفعولا له إلا بذكر اللام، فلو كان المفعول فيه وله بالواسطة عنده مفعولا به لما مثل بهما للمكان، والسبب المقابلين للمفعول به.
ثم أشار إلى أمثلة أقسام المجاز بل شواهدها على ترتيب ذكرها، مما هو مستفيض دائر على ألسنة البلغاء فقال:(كقولهم عِيشَةٍ راضِيَةٍ*) هذا مثال إسناد ما بني للفاعل إلى المفعول به. (وسيل مفعم) مثال عكسه إذ المفعم اسم المفعول من: أفعمت الإناء ملأته، وقد أسند إلى الفاعل (وشعر شاعر) مثال إسناد المبني للفاعل إلى المصدر، وإنما صح التمثيل به مع أن الشعر أطلق هنا على المؤلف لا على تأليف الشعر حتى يكون مصدرا، والظاهر أنه من قبيل: عيشة راضية؛ لأنه جعل إطلاق الشعر في مقام المبالغة يجعل المؤلف عين المصدر، فوصفه بالشاعر فرع، ووصف المصدرية ومن قبيله، وإلا فلا يحسن وصفه بما لا يوصف به المصدر في دعوى كونه عين المصدر؛ إذ جعله من قبيل إطلاق الموصوف لا من وصف ما أطلق عليه ولا من إطلاق الشعر على مسماه، كما في
قولك: شعر فلان؛ لأنه أنسب بمقام المبالغة، وجعله المرزوقي من قبيل داهية دهياء، وليل أليل، أي ما اعتاد به العرب من أخذ شيء من لفظ شيء، ووصفه بها تنبيها على كماله وبلوغه الغاية.
(ونهاره صائم) مثال لإسناد المبني للفاعل إلى الزمان (ونهر جار) مثال لإسناد المبني للفاعل إلى المكان (وبنى الأمير المدينة) مثال لإسناد المبني للمفعول إلى السبب، واكتفى ببعض الأمثلة؛ لأنه لم يتأت له ما هو دائر على ألسنتهم للباقي، فتركه على المقايسة.
قال الشارح المحقق: واعلم أن هذا المجاز قد يدل عليه صريحا كما مر وقد يكون كناية كما ذكروا في قولهم [سل الهموم](1) إنه من المجاز العقلي، حيث جعل الهموم مخزونة بقرينة إضافة التسلية إليها، هذا وفيما ذكروه نظر؛ لأن (سل الهموم) حقيقته سل المهموم في الهموم، أو للهموم، فجل التعلق الظرفي أو السببي منزلا منزلة التعلق الإيقاعي، وأوقع التسلية على الهموم مبالغة في تعلقه الظرفي أو السببي، وليس في ذلك جعل الهموم مخزونة، فكيف يكون الكلام كناية عن جعل الهموم مخزونة وطلب التسلية الذي هو المعنى الصريح مقصودة بالإفادة؟ !
(وقولنا) في التعريف (بتأول يخرج نحو ما مر من قول الجاهل) ما مر:
أنبت الربيع البقل، ونحوه، شفى الطبيب المريض، وغيره من حقائق يطابق الاعتقاد دون الواقع: زاد لفظ النحو لعدم اختصاص الإخراج بما مر، ولم يقل يخرج ما مر من نحو قول الجاهل؛ إذ لم يسبق نحو قول الجاهل بل قول الجاهل لأن ذكر النحو فيه للتمثيل لا للتعميم، فتأمل، ولا تغفل. وإنما تعرض لبيان فائدة هذا القيد من قيود هذا التعريف وخص هذه الفائدة بالبيان مع أن له فائدة إخراج الكواذب مطلقا، وفائدة إخراج صادق يخالف الاعتقاد كقول المعتزلي المخفي: خلق الله الأفعال كلها؛ لأنه لما أدخل نحو قول الجاهل في تعريف الحقيقة يفيد عند المتكلم تبادر إلى الوهم أنه يجب أن يذكر في تعريف المجاز أيضا ليخرج بإضافة الغير إلى ما هو له عند المتكلم عن تعريف المجاز، فلما أهمل قيد
(1) البيت أورده بدر الدين بن مالك في المصباح (144)، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (5)، والصلتان العبدي هو قثم بن خبية بن عبد القيس من شعراء الدولة. وهو أيضا في المفتاح (503) بتحقيق د/ عبد الحميد هنداوي، والتبيان (1/ 320)، ومشكاة المصابيح (1/ 123).
عند المتكلم لم يخرج، وإنما بين خروجه به، واستشهد له مع أنه لا خفاء فيه؛ لأن الجاهل ليس بمتأمل، لما أن ظاهر كلام المفتاح- بلا صريحه- على أنه لو لم يكن في التعريف قيد عند المتكلم لم يخرج، ويبطل به طرد التعريف، وجعل الشارح المحقق وجه التعرض التعريض بالمفتاح، وما ذكرناه لك أنفع.
فإن قلت: لو كان المراد ما ذكرته لينبغي أن يتعرض أيضا لخروج قول المعتزلي به؛ لأنه دخل في تعريف الحقيقة بقيد في الظاهر؛ فيتبادر من ترك هذا القيد في تعريف المجاز أنه لم يخرج عنه! ! قلت: التأول يدل دلالة ظاهرة على أن إسناد الكلام معه إلى غير ما هو له في الظاهر بخلاف اقتضائه عدم كونه معتقدا له.
(ولهذا) أي لأن مثل قول الجاهل خارج لقيد التأول عن حد المجاز (لم يحمل نحو قوله) أي الصلتان العبدي:
أشاب الصغير وأفني الكبير
…
كرّ الغداة ومرّ العشيّ (1)
(على المجاز) أي إسناد الإشابة والإفناء إلى كر الغداة ومر العشي؛ لكونهما ملابسين لما هو له عند المتكلم، ولم يجعل معناه هذا الإسناد. وقال الشارح:
معنى قوله لم يحمل على المجاز لم يحمل على إسنادهما فيه مجاز، ولا يخفى أن العبارة لا تساعده.
(ما لم يعلم أو يظن) أي لانتفاء أحد الأمرين لا لأحد الانتفائين لأن أحد الانتفائين لا يكفي؛ بل لا بد من كلا الانتفائين، وهو إنما يستفاد من ترديد المنفي، لا من ترديد النفي؛ بأن يقال: ما لم يعلم أو لم يظن؛ فإعادة لم فيه كما فعله الشارح في شرحه لا يصح: فإن قلت: لا يكفي انتفاء العلم والظن بل لا بد من انتفاء التصديق مطلقا، إذ يكفي للحمل الحزم الغير الراسخ، مطابقا كان أو لا! ! قلت: إذا قوبل الظن بالعلم يراد به ما عدا العلم، نعم لو قال: ما لم يعتقد لكان أوضح وأخصر، ولما جعلنا ما مصدرية غير ظرفية، وما لم يعلم مفعولا له بتقدير اللام، لقوله لم يحمل لوجود شرائط حذفها خلص الكلام عما
(1) البيت لبدر الدين بن مالك في المفتاح ص 503، والمصباح ص 142، والإشارات ص 5، والتبيان 1/ 320.
يتجه على الشارح، حيث جعل ما لم يعلم ظرفا أي ما دام لم يعلم من أنه يفيد أنه حمل البيت بعد العلم بذلك على المجاز، وهو خلاف الواقع وفيه أن ما بمعنى ما دام يجعل الفعل مستقبلا، ولا يساعده المقام.
وقوله: (أن قائله) لم يرد ظاهره مكان قول المفتاح (لم يعتقد ظاهره) لأن العلم بعد الاعتقاد لا يكفي في الحمل على المجاز؛ لأنه يجوز أن يعلم مع ذلك العلم أنه يخفي اعتقاده. وقوله: لم يحمل على المجاز يحتمل الحمل على الحقيقة، والتوقف في الحمل.
قال الشارح المحقق: حين خفي التأول يحمل على الحقيقة لأنه إسناد إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر.
وقال السيد السند: منشأ هذا الحكم التسوية بين الحقيقة العقلية والحقيقة اللغوية، فكما أن اللفظ ظاهر في المعنى الموضوع له إذا خلا عما يصرفه عنه فهو ظاهر في الإسناد إلى ما هو له، إذا خلا عن التأول، والمبني فاسد؛ إذ الظاهر من المتكلم العاقل أن لا يعتقد الخطأ، وفيه نظر؛ لأن الإسناد إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر معناه نظر إلى ظاهر البيان، لا إلى ظاهر حال المتكلم، ولذا فسر بأن لا ينصب قرينة على خلافه.
هذا وفي قوله: ولهذا لم يحمل
…
إلخ نظر؛ لجواز أن يكون عدم الحمل لظهور صدق تعريف الحقيقة عليه، لا لكونه خارجا عن تعريف المجاز بقيد التأول.
(كما استدل) متعلق بعدم الحمل أي ولأن التأول يخرج الكلام عن المجاز لتحقق عدم حمل قول الشاعر على المجاز، لعدم ظهور التأول، كالاستدلال في شعر أبي النجم على مجازية إسناد فيه، إذ لولا اشتراط التأول لم يستدل على مجازية بشيء بل يكتفي بأن المسند إليه فيه ليس ما هو له، والشارح جعله متعلقا بمحذوف، وجعل تقدير الكلام ما لم يعلم أو يظن، ولم يستدل بشيء على أنه لم يرد ظاهره كما استدل، ولا يخفى أنه مع أنه تكلف لا حاجة إليه يوجب أن يتوقف الحمل على المجاز على الاستدلال مع أنه كثيرا ما يحمل على المجاز لظهور استحالة قيام المسند بالمسند إليه عقلا.
[على أن إسناد ميّز] إلى [جذب الليالي](في قول أبي النجم)(1)[قد أصبحت] أي صارت [أمّ الخيار تدّعي علىّ ذنبا كلّه] بالرفع، وأن يحوج إلى حذف مفعول:[لم أصنع]، بخلاف النصب، فإنه حينئذ يكون مفعوله ليفيد عموم النفي، ولأن الكل المضاف إلى الضمير لا يكون إلا تأكيدا أو معمولا للعامل المعنوي، [من أن رأت] أن ترميني بالذنوب تهمة من أجل أن كبرت، وأثّر فيّ الهرم الشديد إذ النسوان يبغضن الشيب، ويطلبن كمال شباب الحبيب [رأس كرأس الأصلع]. في القاموس: الصلع الخسار مقدم الرأس لنقصان مادة الشعر في تلك البقعة، وقصورها عنها، واستيلاء الجفاف عليها، ولتطامن الدماغ عما يماسه من العجف، فلا يسقيه سقية إياه، وهو ملاق صلع كفرج، وهو أصلع وهي صلعاء [مّيز عنه قنزعا عن قنزع] جملة مفسرة لرؤية رأس كرأس الأصلع، مبينة لوجه الشبه، وعن الثانية بمعنى بعد. والقنزع: جمع قنزعة وهو الشعر المجتمع حول الرأس، والمعنى ميز وسلب عن الرأس قنزعا بعد قنزع، فصار شعر نواحي رأسه قنزعات منفصلة بعضها عن بعض.
([جذب الليالي]) أي مضى أكثر العمر من قولهم جذب الشهر مضت عامته، وعبر عن أيام العمر بالليالي تنبيها على شدتها، وقيل لأن العرب تؤرخ الزمان بالليالي؛ لأن غرة الشهور من ابتداء رؤية الهلال، ومنها ابتداء السنة، وما ذكرنا أبلغ وأنسب، وتفسير جذب الليالي بمضيها بتجريد الجذب عن بعض معناه، كما في الشرح مستغن عنه بما ذكرنا.
([أبطئي، أو أسرعي]) إشارة إلى شدة الليالي، بحيث يقال في حقها أبطئي أو أسرعي لا مبالاة بك، إذ لا تفاوت بين سرعتك وبطئك، وهو حال عن الليالي بتقدير القول، أو إشارة إلى اختلافها في العسر والسهولة، ورداءة العيش
(1) الشعر في المفتاح (504)، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (25) وعزاه لأبي النجم، وبدر الدين بن مالك في المصباح (144)، والطيبي في التبيان (1/ 321).
والقنزع: الشعر حوالي الرأس، وتمام الشعر:
قد أصبحت أم الخيار تدعي
…
عليّ ذنبا كله لم أصنع
من إن رأت رأسي كرأس الأصلع
…
ميّز عنه قنزعا عن قنزع
…
... جذب الليالي أبطئي أو أسرعي
أفناه قيل الله للشمس اطلعي
…
حتى إذا واراك أفق فارجعي