الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ذكر ما أحدث بنو إسرائيل، وما جرى عليهم في القضاء السابق، فقال: -
[سورة الإسراء (17) : الآيات 4 الى 8]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)
يقول الحق جل جلاله: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي: أخبرناهم وأوحينا إليهم فِي الْكِتابِ التوراة، وقلنا: والله لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ الخ. أو: قضينا عليهم فِي الْكِتابِ اللوح المحفوظ، لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ أي: إفسادتين، أُولاهُمَا: مخالفة أحكام التوراة وقتل أشعياء، وقيل: أرمياء. وثانيتهما: قتل زكريا ويحيى، وقَصْدُ قتل عيسى عليه السلام، وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً ولتستكبرن عن طاعة الله، أو لتظلمن الناس وتستعلون عليهم علوًا كبيرًا.
فَإِذا جاءَ وَعْدُ عقاب أُولاهُما أي: أول مرتي الإفساد بأن أفسدوا في الأرض المرة الأولى بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا بختنصر وجنوده أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ذوي قوة وبطش في الحرب شديد، فَجاسُوا فترددوا لطلبكم خِلالَ الدِّيارِ وسطه، للقتل أو الغارة، فقتلوا كبارهم وسبوا صغارهم، وحرقوا التوراة، وخربوا المسجد. وفي التذكرة للقرطبي: أنه سلط عليهم في المرة الأولى بخُتنصر، فسباهم، ونقل ذخائر بيت المقدس على سبعين ألف عَجَلَة، وبقوا في يده مائة سنة. ثم رحمهم الله تعالى وأنقذهم من يده، على يد ملك من ملوك فارس، ثم عصوا، فسلط عليهم ملك الروم قيصر. هـ. قال تعالى: وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا أي: وكان وعد عقابهم وعدًا مقضيًا لا بدّ أن يُفعل.
ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ أي: الدولة والغلبة عَلَيْهِمْ أي: على الذين بُعثوا عليكم، فرجع المُلك إلى بني إسرائيل، واستنقذوا أسراهم، فقيل: على يد «بهْمَن بن إسفنديار» ملك فارس، فاستنقذهم، ورد أسراهم إلى الشام، وملَّكَ دَانْيال عليهم، فاستولوا على مَن كان فيها من أتباع بختنصر، وقيل: على يد داود عليه السلام حين قتل جالوت.
قال تعالى: وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً أي: عددًا مما كنتم. والنفير: من ينفر مع الرجل من قومه، وقيل: جمع نَفر، وهم: المجتمعون للذهاب إلى الغزو.
ثم قال تعالى لهم: إِنْ أَحْسَنْتُمْ بفعل الطاعة والعمل الصالح، أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لأن ثوابه لها، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فإنَّ وبالها عليها. وذكر باللام للازدواج. فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي: وعد عقوبة المرة الأخيرة، بأن أفسدوا في المرة الآخرة، بعثنا عليكم عبادًا لنا آخرين، أُولي بأس شديد لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ، يجعلوها تظهر فيها آثار السوء والشر، كالكآبة والحزن، كقوله: سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ بيت المقدس كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا وليُهلكوا ما عَلَوْا عليه تَتْبِيراً إهلاكًا، أو مدة علوهم. قال البيضاوي: وذلك بأن الله سلَّط عليهم الفرس مرة أخرى، فغزاهم ملكُ بابِل، اسمه «حَرْدُون» ، وقيل:«حَرْدوس» ، قيل: دخل صاحب الجيش مَذبح قرابينهم، فوجد دمًا يغلي، فسأل عنه، فقالوا: دم قربان لم يُقبل منا. فقال: ما صدقتموني، فقتل عليه ألوفًا منهم، فلم يهدأَ الدم. ثم قال: إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدًا، فقالوا: دم يحيى، فقال: لِمثل هذا ينتقم منكم ربكم، ثم قال: يا يحيى، قد علم ربي وربك ما أصاب قومك، فاهدأ بإذن الله، قبل ألَاّ أُبقي منهم أحدًا، فهدأ. هـ.
وقال السهيلي في كتاب «التعريف والإعلام» : المبعوث في المرة الأولى هم أهل بابل، وكان إذ ذاك عليهم «بختنصر» ، حين كذّبوا أرمياء وجرحوه وحبَسوه. وأما في المرة الأخيرة: فقد اختلف فيمن كان المبعوث عليهم، وأن ذلك كان بسبب قتل يحيى بن زكريا. فقيل: بختنصر، وهذا لا يصح لأن قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، وبختنصر كان قبل عيسى بزمان طويل. هـ. وقول الجلال السيوطي: وقد أفسدوا في الأُولى بقتل زكريا، فبعث عليهم جالوت وجنوده، ولا يصح لأنه يقتضي أن داود تأخر عن زكريا، وهو باطل.
ثم قال تعالى لبني إسرائيل: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد المرة الأخرى ويجبر كسركم، وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا إلى عقوبتكم، وقد عادوا بتكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقصد قتله، فعاد إليهم بتسليطه عليهم، فقتل من بني قريظة سبعمائة في يوم واحد، وسبى ذراريهم، وباعهم في الأسواق، وأجلى بني النضير، وضرب الجزية على الباقين. هذا في الدنيا، وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ منهم ومن غيرهم حَصِيراً محبسًا، لا يقدرون على الخروج منها، أبدَ الآباد. وقيل: بساطًا كبسط الحصير، كقوله: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ «2» . والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد قضى الحقُّ جل جلاله ما كان وما يكون في سابق علمه، فما من نَفَسٍ تُبديه إلَاّ وله قَدَر فيك يُمضيه. فالواجب على العبد أن يكون ابن وقته، إذا أصبح نظر ما يفعل الله به. فأسرار القدر قد استأثر الله بعلمها،
(1) من الآية 27 من سورة الملك.
(2)
من الآية 411 من سورة الأعراف.