الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم برهن على وحدانيته، فقال:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 الى 33]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
قلت: «فِجاجاً» : حال من «سُبل» ، وأصله: وصف له، فلما تقدم أُعرب حالاً. وقيل «سُبُلًا» : بدل من «فِجاجاً» .
وفي إتيانه: إيذان أن تلك الفجاج نافذة لأن الفج قد يكون نافذًا وقد لا. قاله المحشي.
يقول الحق جل جلاله: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا رؤية اعتبار أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي: جماعة السموات وجماعة الأرض كانَتا، ولذلك لم يقل كُنَّ، رَتْقاً أي: ملتصقة بعضها ببعض. والرتق: الضم والالتصاق. وهو مصدر بمعنى المفعول، أي: كانتا مرتوقتين، أي: ملتصقتين، فَفَتَقْناهُما فشققناهما، فالفتق ضد الرتق. قال ابن عباس رضي الله عنه:«كانتا شيئًا واحدًا متصلتين، ففصل الله بينهما، فرفع السماء إلى حيث هي، وأقرّ الأرض» . وفي رواية عنه: أرسل ريحًا فتوسطتهما ففتقتهما. وقال السدي: (كانت السموات مؤتلفة طبقة واحدة، ففتقها، فجعلها سبع سموات، وكذلك الأرض، كانت طبقة واحدة، ففتقها، فجعلها سبع أرضين) .
فإِن قيل: متى رأوهما رتقًا حتى جاء تقريرهم بذلك؟ قلنا: مصب الكلام والتقرير هو فتق السماوات ورفعها، وهو مشاهد بالأبصار، وهم متمكنون من النظر والاعتبار، فيعلمون أن لها مدبرًا حكيمًا، فَتَقَهَا ورفعها، وهو الحق جل جلاله، وذكر الرتق زيادة إخبار، فكأنه قال: ألم يروا إلى فتق السماوات ورفعها؟ وقال الكواشي: لَمّا كان القرآن معجزًا، كان وروده برتقهما كالمشاهد المرئي، أو: لمّا كان تلاصق السماوات والأرضين، وما بينهما، وتباينهما، جائزًا عقلاً، وجب تخصيص التلاصق من التباين، وليس ذلك إلا لله تعالى. هـ.
وقيل: كانت السماوات صلبة لا تمطر، والأرض رتقًا لا تنبت، ففتق السماء بالأمطار، والأرض بالنبات. ورُوي هذا عن ابن عباس أيضاً، وعليه أكثر المفسرين، وعِلْمُ الكفرةِ الرتقِ والفتق، بهذا المعنى، مما لا خفاء فيه. والرؤية على الأول رؤية علم، وعلى الثاني رؤية عين.
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي: خلقنا من الماء كل حيوان، كقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ «1» ، وذلك لأنه من أعظم مواده، أو لفرط احتياجه إليه، وحبه له، وعدم صبره عنه، وانتفاعه به، ويدخل
(1) من الآية 45 من سورة النور.
في ذلك: النبات مجازًا دون الملائكة، فأَلْ فيه للحقيقة والماهية، إلا أنه صرفه عن ذلك إلى العهد الذهني قرينةُ الجعل، كما في آية: فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ «1» ، فإن القرينة تخلص ذلك للبعضية وإرادة الأشخاص. وقيل: المراد به:
المَنِيُّ. فأَلْ فيه، حينئذ، للعهد الذهني فقط. قال القشيري: كُلُّ مخلوقٍ حيٍّ فَمِنَ الماء خَلْقُه، فإنَّ أصلَ الحيوان الذي يحصل بالتناسل النطفةُ، وهي من جملة الماء. هـ. وتقدم أن الملائكة لا تناسل فيها. أَفَلا يُؤْمِنُونَ بالله وحده، وهو إنكار لعدم إيمانهم، مع ظهور ما يُوجبه حتمًا من الآيات الآفاقية والأنفُسية، الدالة على تفرده تعالى بالألوهية.
وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي: جبالا ثوابت، من رسا الشيءُ إذا ثبت ورسخ، أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي:
كراهية أن تتحرك وتضطرب بهم، أو لئلا تميد بهم- بحذف اللام، و «لا» لعدم الإلباس. وَجَعَلْنا فِيها أي:
في الأرض، وتكرير الجعل لاختلاف المجعولين، ولتوفية مقام الامتنان حقه، أو في الرواسي لأنها المحتاجة إلى الطرق، فِجاجاً: جمع فج، وهو الطريق الواسع، نفذ أم لا، أي: جعلنا في الأرض مسالك واسعة، وسُبُلًا نافذة. فالسبل هي الفجاج مع قيد النفوذ. فإن قيل: أيّ فرق بين هذا وبين قوله: لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً «2» ؟ فالجواب: أنه هُنا بيَّن أنه خلقها على هذه الصفة، وهناك بيَّن أنه جعل فيها طُرقًا واسعة، وليس فيه بيان أنه خلقها كذلك، فما هنا تفسير لما هناك. انظر النسفي.
وقوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي: إلى البلاد المقصودة بتلك السبل، أو إلى مصالحهم ومهماتهم. وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً من السقوط، كقوله: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ «3» ، أو من الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم، أو من استراق السمع بالشهب، كما قال: وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ «4» . وَهُمْ أي: الكفار عَنْ آياتِها أي: عن الأدلة التي فيها، كالشمس والقمر والنجوم، وغير ذلك مما فيها من العجائب الدالة على وحدانيته تعالى وقدرته وحكمته، التي بعضها محسوس، وبعضها معلوم بالبحث في علمي الطبيعة والهيئة، مُعْرِضُونَ لا يتدبرون فيها، فيقفون على ما هم عليه من الكفر والضلال، فيؤمنون.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ لتسكنوا فيه، وَالنَّهارَ لتتصرفوا فيه، وَالشَّمْسَ لتكون سراجَ النهار، وَالْقَمَرَ ليكون سراج الليل، وهذا بيان لبعض تلك الآيات التي هم عنها معرضون. وقوله: كُلٌّ أي:
كلهم، والمراد: جنس الطوالع، فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي: يسيرون سير العائم في الماء. عن ابن عباس رضي الله عنه:
الفلك السماء، وقيل: موج مكفوف تحت السماء، يجري فيه الشمس والقمر والنجوم. وجمهور أهل الهيئة أن الفلك:
(1) من الآية 17 من سورة يوسف.
(2)
من الآية 20 من سورة نوح.
(3)
من الآية 65 من سورة الحج.
(4)
الآية 7 من سورة الصافات.