الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال له: إن أُمِّي تَسْتَكْسِيكَ الدِّرْعَ الذي عَليْكَ، فَدَخَلَ دَارَهُ ونَزَعَ قَمِيصَهُ وأعْطَاهُ، وقَعَدَ عُرْيَانًا، وأذَّن بلالٌ، وانتظره للصلاة، فلم يخرُجْ، فأنزل الله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
…
الآية «1» .
ثم سلَاّه بقوله: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ يوسعه لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ يُضيقه على مَن يشاء. فكل ما يصيبك من الضيق فإنما هو لمصلحة باطنية، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً يعلم سرهم وعلانيتهم، فيعلم مِنْ مصالحهم ما يخفى عليهم فيرزقهم على حسب مصالحهم، ويضيق عليهم على قدر صبرهم. والحاصل: أنه يعطي كل واحد ما يَصلح به، والله أعلم.
الإشارة: أمر الحق- جل جلاله رسوله صلى الله عليه وسلم، وخلفاءه ممن كان على قدمه، أن يعطوا حق الواردين عليهم من قرابة الدين والنسب، والمساكين والغرباء، من البر والإحسان حسًا ومعنى كتعظيم ملاقاته، م وإرشادهم إلى ما ينفع بواطنهم، والإنفاق عليهم، من أحسن ما يجد، حسًا ومعنى، وخصوصًا الإخوان في الله. فكل ما يُنفق عليهم فهو قليل في حقهم، ولا يُعد سرفًا، ولو أنفق ملء الأرض ذهبًا. قال في القوت: دعا إبراهيمُ بن أدهم الثوريَّ وأصحابَه إلى طعام، فأكثر منه، فقال له سفيانُ: يا أبا إسحاق أما تخاف أن يكون هذا سرفًا؟ فقال إبراهيم: ليس في الطعام سرف. هـ. قلت: هذا إن قدَّمه إلى الإخوان الذاكرين الله قاصدًا وجه الله، وأما إن قدمه مفاخرة ومباهاة دخله السرف. قاله في الحاشية الفاسية، ومثله في تفسير القشيري، وأنه لا سَرف فيما كان لله، ولو أنفق ما أنفق. بخلاف ما كان لدواعي النفس ولو فلسًا. هـ. وأما الخروج عن المال كله فمذموم، إلا من قوي يقينه، كالصدِّيق، ومن كان على قدمه. وكذلك الاستقراض على الله، واشتراؤه بالدَّين من غير مادة معلومة، إن كان قوي اليقين، وجرّب معاملته مع الحق، فلا بأس بفعل ذلك وإلَاّ فليكف لئلا يتعرض لإتلاف أموال الناس فيتلفه الله. وبالله التوفيق.
ولما أمر بما يقربنا إليه نهى عما يبعدنا عنه، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 31 الى 35]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)
(1) ذكره البغوي فى تفسيره (5/ 90)، والواحدي فى أسباب النزول ص 94) . وقال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف: لم أجده. [.....]
قلت: (خَشْيَةَ) : مفعول من أجله لأن الخشية قلبية، بخلاف الإملاق، فإنه حسي فَجُرَّ بمن في سورة الأنعام. «1» وهذه الآية في أغنياء العرب، الذين كانوا يخشون وقوع الفقر، وما في «الأنعام» نزلت في فقرائهم، الذين كان الفقر واقعًا بهم، ولذلك قدَّم هناك كاف الخطاب، وأخَّره هنا، فتأمله. و «خِطْأً» يقال: خطئ خطأ، كأثم إثمًا. وقرأ ابن عامر:«خِطْأً» ، بفتحتين، فهو إما اسم مصدر أخطأ، أو لغة في خطئ، كمِثل ومَثل، وحِذر وحَذر. وقرأ ابن كثير:
«خِطاء» بالمد، إما لغة، أو مصدر خاطأ. انظر البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مخافة الفاقة المستقبلة، وقد كانوا يقتلون البنات- وهو الوأد- مخافة الفقر، فنهاهم عن ذلك، وضمن لهم أرزاقهم، فقال: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ، إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً إثمًا كَبِيراً لما فيه من قطع التناسل وانقطاع النوع وإيلام الروح. وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى، نهى عن مقاربته بالمقدمات. كالعزم، والنظر وشبهه، فأحرى مباشرته، إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي: فعلة ظاهرًا فُحشها وقُبحها، وَساءَ سَبِيلًا قبح طريقًا طريقُهُ، وهو غصب الأبْضاع لما فيه من اختلاط الأنساب وهتك محارم الناس، وتهييج الفتن.
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل مؤمن معصوم عمدًا، كما في الحديث «2» . ويلحق بها أشياء في معناها: كالحِرَابَةِ، وترك الصلاة، ومنع الزكاة.
وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً أي: غير مستوجب للقتل فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ أي: الذي يلي أمره بعد وفاته، وهو الوارث، سُلْطاناً تسلطًا بالمؤاخذة بمقتضى القتل بأخذ الدية، أو القصاص، وقوله: مَظْلُوماً: يدل على أن القتل عمد لأن الخطأ لا يُسمى ظلمًا. أو: جعلنا له حجة غالبة، فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ بأن يقتل من لا يحق قتله، أو بالمثلة، أو قتل غير القاتل، إِنَّهُ أي: الولي كانَ مَنْصُوراً حيث وجب القصاص له، وأمر الولاة بمعونته. أو: إنه، أي: المقتول، كان منصورًا في الدنيا بثبوت القصاص ممن قتله، وفي الآخرة بالثواب.
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ فضلاً عن أن تتصرفوا فيه إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلا بالطريقة التي هي أحسن، كالحفظ والتنمية، حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ حتى يتم رشده، ثم يدفع له، فإن دفعه لمن يتصرف فيه بالمصلحة فلا بأس، وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إذا عاهدتم الله أو الناس، إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أي: مطلوبا الوفاء
(1) فى قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ
…
الآية 151.
(2)
أخرجه البخاري فى (الديات، باب قول الله تعالى:«أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ»
…
إلخ) ، ومسلم فى (القسامة، باب ما يباح به دم المسلم) عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» .