الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم وصَف الشيطان المريد بقوله: كُتِبَ عَلَيْهِ أي: قضى على ذلك الشيطان أَنَّهُ أي: الأمر والشأن مَنْ تَوَلَّاهُ أي: اتخذه وليًا وتبعه، فَأَنَّهُ أي: الشيطان يُضِلُّهُ عن سواء السبيل، وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أي: النار. والعياذ بالله.
الإشارة: ومِن الناس مَن تنكبت عنه سابقةُ الخصوصية، فجعل يجادل في طريق الله، وينكر على المتوجهين إلى الله، إذا خرقوا عوائد أنفسهم، وسَدَّ الباب في وجوه عباد الله، فيقول: انقطعت التربية النبوية، وذلك منه بلا عِلْمِ تحقيقٍ ولا حجةٍ ولا برهان، وإنما يتبع في ذلك كل شيطان مريد، سوَّل له ذلك وتبعه فيه. كُتب عليه أنه من تولاه، وتبعه في ذلك، فإنه يُضله عن طريق الخصوص، الذين فازوا بمشاهدة المحبوب، ويهديه إلى عذاب السعير، وهو غم الحجاب والحصر في سجن الأكوان، وفي أسر نفسه وهيكل ذاته، عائذاً بالله من ذلك.
ثم برهن على قيام الساعة، التي خوّف منها، ورد من يجادل فيها، فقال:
[سورة الحج (22) : الآيات 5 الى 7]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
يقول الحق جل جلاله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ أي: إن شككتم في أمر البعث، فمُزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم، وقد كنتم في الابتداء تُرابًا وماء، وليس سبب إنكاركم البعث إلا هذا، وهو صيرورة الخلق ترابًا وماء، فكما بدأكم منه يعيدكم منه، كما قال تعالى: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ أي: أباكم مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ خلقناكم مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ أي: قطعة دم جامدة، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ أي: لحمة صغيرة، بقدر ما يمضغ، مُخَلَّقَةٍ أي: مصورة الخلقة، وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ أي: لم يتبين خلقها وصورتها بعدُ.
والمراد: تفصيل حال المضغة من كونها أولاً مضغة، لم يظهر فيها شيء من الأعضاء، ثم ظهرت بعد ذلك شيئًا فشيئًا. وكان مقتضى الترتيب أن يُقدم غير المخلقة على المخلقة، وإنما أخرت عنها لأنها عدم الملكة، والملكة أشرف من العدم.
وإنما فعلنا ذلك لِنُبَيِّنَ لَكُمْ، بهذا التدريج، كمال قدرتنا وحكمتنا لأن مَن قدر على خلق البشر من تراب أولاً، ثم من نطفة ثانيًا، وقدر على أن يجعل النطفةَ علقةً، والعلقة مضغة، والمضغة عظامًا، قدر على إعادة ما بدأ، بل هو أهون في القياس وَنُقِرُّ أي: نثبت فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ ثبوته إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى: وقت الولادة، ومالم نشأ ثبوته أسقطته الأرحام. ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ من الرحم طِفْلًا، أي: حال كونكم أطفالاً.
والإفراد باعتبار كل واحد منهم، أو بإرادة الجنس، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي: ثم نربيكم لتبلغوا كمال عقلكم وقوتكم. والأشد: من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل له واحد. ووقته: قيل: ثلاثون سنة، وقيل: أربعون.
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى قبل بلوغ الأشد أو بعده، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي: أخسه، وهو الهرَمُ والخرف، لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً أي: لكيلا يعلم شيئًا من بعد ما كان يعلمه من العلوم، مبالغة في انتقاص علمه، وانتكاس حاله، أي: ليعود إلى: ما كان عليه في أوان الطفولية، من ضعف البنية، وسخافة العقل، وقلة الفهم، فينسى ما علمه، وينكر ما عرفه، ويعجز عما قدر عليه. قال ابن عباس: مَن قرأ القرآن، وعمل به، لا يلحقه أرذل العمر. ثم ذكر دليلاً آخر على البعث، فقال: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً: ميتة يابسة، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ تحركت بالنبات وَرَبَتْ انتفخت وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ: صنف بَهِيجٍ: حسن رائق يسر ناظره.
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي: ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم، وإحياء الأرض، مع ما في تضاعيف ذلك من أصناف الحِكم، حاصل بهذا، وهو أن الله هو الحق، أي: الثابت الوجود. هكذا للزمخشري ومن تبعه، وقال ابن جزى: والظاهر: أن الباء ليسست سببية، كما قال الزمخشري، وهو أيضًا مقتضى تفسير ابن عطية، وإنما يُقدر لها فعل يتعلق به ويقتضيه المعنى، وذلك أن يكون التقدير: ذلك الذي تقدم من خلق الإنسان والنبات، شاهد بأن الله هو الحق، وبأنه يحيي الموتى، وبأن الساعة آتية، فيصح عطف وَأَنَّ السَّاعَةَ على ما قبله، بهذا التقدير، وتكون هذه الأشياء المذكورة، بعد قوله:(ذلك) ، مما استدل عليه بخلقة الإنسان والنبات. هـ.
قال المحشي الفاسي: ويرد عليه: أن تقديره عاملاً خاصًا يمنع حذفه، وإنما يحذف إذا كان كونًا مُطلقًا، فلا يقال: زيد في الدار، وتريد ضاحكٌ مثلاً، إلا أن يقال في الآية: دل عليه السياق، فكأنه مذكور. وعند الكواشي:
ليعلموا بأن الله هو الحق. وقال القرطبي: قوله: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، لمّا ذكر افتقار الموجودات إليه، وتسخيرها على وفق اقتداره واختياره، قال بعد ذلك: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، نبه بهذا على أن كل ما سواه، وإن كان موجودًا فإنه لا حقيقة له من نفسه لأنه مسخر ومُصَرفٌ، والحق الحقيقي هو الموجود المطلق، الغني المطلق، وإنَّ وجود كل موجود من وجوب وجوده، ولهذا قال في آخر السورة: وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ «1» ، والحق هو الوجود الثابت، الذي لا يزول ولا يتغير، وهو الله تعالى. ثم قال عن الزجاج:(ذلك) في موضع رفع، أي: الأمر ما وُصِفَ لكم وبُيِّن لأن الله تعالى هو الحق، ويجوز كونه في مَوْضِع نصب، أي: فعل ذلك بأن الله هو الحق، قادر على ما أراد. هـ.
وذلك أيضًا شاهد بأنه يُحْيِيَ الْمَوْتى كما أحيا الأرض، مرة بعد أخرى، وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي: مبالغ في القدرة، وإلَاّ لَمَا أوجد هذه الموجودات الفائتة الحصر. وتخصيص إحياء الموتى بالذكر، مع كونه مِن جملة الأشياء المقدور عليها للتصريح بما فيه النزاع، وللطعن في نحور المنكرين. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ: قادمة عليكم، لا رَيْبَ فِيها، وإيثار اسم الفاعل على الفعل للدلالة على تحقق إتيانها وتقريره ألْبَتَّةَ. ومعنى نفي الريب عنها: أنها، في ظهور أمرها ووضوح دلائلها، بحيث ليس فيها مظنة الريب، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ لأنه تعالى حكم بذلك ووعد به، وهو لا يخلف الميعاد، والتعبير ب «من في القبور» : خرج مخرج الغالب، وإلَاّ فهو يبعث كل من يموت. والله تعالى أعلم وأحكم.
الإشارة: يا أيها الناس المنكرون لوجود التربية النبوية، وظهور أهل الخصوصية في زمانهم، الذين يحيي اللهُ الأرواحَ الميتة، بالجهل والغفلة، على أيديهم إن كنتم في ريب من هذا البعث فانظروا إلى أصل نشأتكم وتنقلات أطواركم، فمن فعل ذلك وقدر عليه، قدر أن يحيي النفوس الميتة بالغفلة في كل زمان. وفي الحكم:«مَن استغرب أن يُنقذه الله من شهوته، وأن يُخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية، وَكَانَ الله على كُلِّ شيء مقتدرا» . وجرت عادته أنه لا يحييها في الغالب إلا على أيدي أهل الخصوصية. وترى أرض النفوس هامدة ميتة بالغفلة، فإذا أنزلنا عليها ماء الحياة، وهي الواردات الإلهية، وأسقيناها الخمرة القدسية، اهتزت فرحًا بالله، وربت، وارتفعت بالعلم بالله، وأنبتت من أصناف العلوم والحكم، ما تَبْهَجُ منه العقول، ذلك شاهد بوحدانية الحق، وأن ما سواه باطل. وبالله التوفيق.
(1) من الآية 62 من سورة الحج.