الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ «1» أي: كالجبل العظيم من الماء، وكانوا يمرون به، وكلهم بنو أعمام، لا يرى بعضُهم بعضاً، فقالوا: قد غرق إخواننا، فأوحى الله إلى أطواد الماء: أن اشتبكي، وصارت شبابك، يرى بعضهم بعضًا، ويسمع بعضهم كلامَ بعض، فلما أتى فرعونُ الساحلَ، وجد البحر منفلقًا، فقال: سحر موسى البحر، فقالوا:
إن كنت ربًا فادخل كما دخل، فجاء جبريلُ على رَمَكةٍ ودَيِقٍ، أي: تحب الفحل، وكان فرعون على حصان، فاقتحم جبريل بالرمكة الماء، فلم يتمالك حصان فرعون، فاقتحم البحر على إثره، ودخل القبط كلهم، فلما لَجَّجُوا، أوحى الله تعالى إلى البحر أن أغرقهم، فعلاهم البحر وأغرقهم.
فَعبَر موسى عليه السلام بمن معه من الأسباط سالمين، وأما فرعون وجنوده فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي:
علاهم منه وغمرهم من الأمر الهائل، الذي لا يُقادر قدره ولا يبلغ كنهه. قال القشيري: فغرقوا بجملتهم، وآمن فرعونُ لما ظهر له البأس، فلم ينفعه إقراره، وكان ينفعه لو لم يكن إصرارُه، وقد أدركته الشقاوةُ التي سَبَقَتْ له من التقدير. هـ. وقال الكواشي:(وغشيهم) من الغضب والغرق، وغير ذلك، مالا يعلم حقيقته إلا الله تعالى. هـ. فإبهام الصلة للتهويل والتفخيم، وقيل:(غشيهم من اليم) ما سمعتَ قصته في غير هذه السورة، وليس بشيء فإن مدار الإبهام على التهويل والتفخيم، بحيث يخرج عن حدود الفهم والوصف، لا سماع قصته فقط.
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ أي: أتلفهم وسلك بهم مسلكًا أدى بهم إلى الخيبة والخسران، حيث ماتوا على الكفر، وأوصلهم إلى العذاب الهائل الدنيوي، المتصل بالعذاب الدائم الأخري، وَما هَدى أي: ما أرشدهم قط إلى طريق توصلهم إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية. وهو تقرير لإضلاله وتأكيد له، وفيه نوع تهكم به في قوله: وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ «2» ، فإن نفي الهداية عن شخص مشعر بكونه ممن يتصور منه الهداية في الجملة، وذلك إنما يتصور في حقه بطريق التهكم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: انظر عاقبة من شدّ يده على دينه، وصبر على شدائد زمانه، كيف خرقت له العوائد، وجاءه العز والنصر فأنساه تلك الشدائد، وأهلك الله من كان يؤذيه من الأعداء، وسلك به سبيل النجاة والهدى، وهذه عادة الله مع أوليائه، يُشدد عليهم أولاً بضروب البلايا والمحن، ثم يعقبهم العز والنصر وضروب المنن، ولذلك ذكّر الله بنى إسرائيل بما أنعم عليهم بعد البحر، فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 80 الى 82]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82)
(1) من الآية 63 من سورة الشعراء.
(2)
من الآية 29 من سورة غَافر.
يقول الحق جل جلاله لبني إسرائيل، بعد ما أنجاهم من الغرق، وأفاض عليهم من فنون النعم الدينية والدنيوية: يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون وقومه، حيث كانوا يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ «1» ، وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ أي: واعدناكم بواسطة نبيكم، إتيان جانب الطور، الجانب الأيمن منه للمناجاة وإنزال التوراة. وهل هو الطور الذي أبصر فيه النار ووقعت فيه الرسالة، أو غيره؟ خلاف. ونسبة المواعدة إليهم مع كونه لموسى عليه السلام خاصة، أو له وللسبعين المختارين، نظرٌ إلى ملابستها إياهم، وسراية منفعتها إليهم، وإعطاء لمقام الامتنان حقه. كما في قوله تعالى:
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ «2» حيث نسب الخلق والتصوير للمخاطبين، مع أن المخلوق كذلك هو آدم عليه السلام.
ثم قال تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ حين تُهتم، الْمَنَّ وَالسَّلْوى أي: الترنجبين والطير السُّماني، حيث كان ينزل عليهم المنَّ وهم في التيه، مثل الثلج، من الفجر إلى الطلوع، لكل إنسان صالح، ويبعث الجنوب عليهم السُّماني، فيذبح الرجل منه ما يكفيه. وقلنا لهم: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي: من لذائذه، أو حلاله. وفي البدء بنعمة الإنجاء ثم بالنعمة الدينية ثم بالنعمة الدنيوية من حسن الترتيب ما لا يخفى. وَلا تَطْغَوْا فِيهِ أي:
فيما رزقناكم بالإخلال بشكره، والتَعدي لما حَدَّ لكم فيه، كالترفه والبطر والمنع من المستحق. وقال القشيري:
مجاوزة الحلال إلى الحرام، أو بالزيادة على الكفاف وما لا بُدَّ منه، فأزاد على سدِّ الرمق، أو بالأكل على الغفلة والنسيان. هـ. وقيل: لا تدخروا، فادَّخروا فتعودوا، وقيل: لا تنفقوه في المعصية، فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي بفعل شيء من ذلك، أي: ينزل ويجب، من حَلَّ الدين إذا وجب. وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى أي: تردَّى وهلك، أو وقع في المهاوي.
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ أي: كثير الغفران لِمَنْ تابَ عن الشرك والمعاصي، التي من جملتها الطغيان فيما ذكر، وَآمَنَ بما يجب الإيمان به، وَعَمِلَ صالِحاً أي: عملاً صالحًا مستقيمًا عند الشرع، وفيه ترغيب وحث لمن وقع في زلَّة أو طغيان على التوبة والإيمان، ثُمَّ اهْتَدى أي: استقام على الهدى ودام عليها حتى مات.
وفيه إشارة إلى أنَّ من لم يستمر عليها بمعزل عن الغفران. قال الكواشي: (ثُمَّ اهْتَدى) أي: علم أن ذلك بتوفيق من الله تعالى. هـ.
الإشارة: إذا ذهبت عن العبد أيام المحن، وجاءت له أيام المنن، فينبغي له أن يتذكر ما سلف له من المحن، وينظر ما هو فيه الآن من المنن، ليزداد شكرًا وتواضعًا، فتزداد نعمه، وتتواتر عليه الخيرات. وأما إن نسى أيام
(1) من الآية 49 من سورة البقرة.
(2)
من الآية 11 من سورة الأعراف.