الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: والذي جاء في الأحاديث الواردة في أخبار الآخرة: ان أهل الجنة، إذا قربوا منها وجدوا على بابها عينين، فيغتسلون في إحداهما، فتنقلب إجسادهم على صورة آدم عليه السلام، ثم يشربون من الأخرى فتطهر قلوبهم من الغل والحسد، وسائر الأمراض، وهو الشراب الطهور. قال القشيري في قوله تعالى: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً «1» : يقال: يُطَهَّرُهم من محبة الأغيار، ويقالُ: ويُطَهَّرُهم من الغلِّ والغِشِّ والدَّعوى
…
الخ ما يأتي إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وسترى وتعلم.
ثم قال تعالى: إِخْواناً، أي: لما نزعنا ما في صدورهم من الغل صاروا إخواناً متوددين، لا تَباغض بينهم ولا تحاسد، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ يُقابل بعضهم بعضاً على الأسرة، لا ينظر أحد في فناء صاحبه. وقال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: المتجه أن المقابلة معنوية، وهي عدم إضمار الغل والإعراض، سواء اتفق ذلك حسّاً أم لا، ومن أضمر لأخيه غلاً فليس بمقابله، ولو كان وجهه إلى وجهه، بل ذلك أخلاقُ نفاقٍ، ولذلك شواهد بذمه لا بمدحه. هـ. لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ أي: تعب، وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ، لأن تمام النعمة لا يكون إلا بالخلود والدوام فيها. أكرمنا الله بتمام نعمته، ودوام النظر إلى وجهه. آمين.
الإشارة: لا ينقطع عن العبد تسلط الشيطان حتى يدخل مقام الشهود والعيان، حين يكون عبداً خالصاً لله، حرا مما سواه، وذلك حين ينخرط في سلك القوم، ويزول عنه لوث الحدوث والعدم، فيفنى مَن لم يكن، ويبقى مَن لم يزل، وذلك بتحقيق مقام الفناء، ثم الرجوع إلى مقام البقاء. قال الشيخ أبو المواهب رضي الله عنه: من رجع إلى البقاء أمن من الشقاء وذلك أن العبد حين يتصل بنور الله، ويصير نوراً من أنواره، يحترق به الباطل ويدمغ، فلا سبيل للأغيار عليه. ولذلك قال بعضهم: نحن قوم لا نعرف الشيطان، فقال له القائل: فكيف، وهو مذكور في كتاب الله تعالى، قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا «2» ؟. فقال: نحن قوم اشتغلنا بمحبة الحبيب، فكفانا عداوة العدو. وحين يتحقق العبد بهذا المقام ينخرط في سلك قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ. وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ.. الآية، وهذا لا ينال إلا بالخضوع لأهل النور، حتى يوصلوه إلى نور النور، فيصير قطعة من نور، غريقاً في بحر النور. ومع هذا لا ينقطع عنه الخوف والرجاء، لقوله تعالى:
[سورة الحجر (15) : الآيات 49 الى 50]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50)
(1) من الآية 21 من سورة الإنسان.
(2)
من الآية 6 من سورة فاطر.
يقول الحق جل جلاله: نَبِّئْ: أخبر، عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ لمن آمن بي، وصدق رسلي، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ لمن كفر بي، وجحد رسلي، أو بعضهم. قال البيضاوي: هي فذلكة ما سبق من الوعد والوعيد، وتقرير له، وفي ذكر المغفرة دليل على أنه لم يرد بالمتقين متقى الذنوب بأسرها، كبيرها وصغيرها، وفي توصيف ذاته بالغفران والرحمة دون التعذيب- أي: لم يقل وأنا المعذب المؤلم- ترجيح الوعد. هـ.
وذكر ابن عطية ان سبب نزولها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى جماعة من أصحابه، عند باب بني شَيْبَةَ في الحرم، فوجدهم يضحكون، فزجرهم ووعظهم، ثم ولى، فجاءه جبريل عن الله، فقال: يا محمد أتُقَنِّط عبادي؟ وتلى عليه الآية، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وأعلمهم «1» . هـ. ثم قال: ولو لم يكن هذا السبب لكان ما قبلها يقتضيها إذ تقدم ذكر ما في النار وذكر ما في الجنة، فأكّد تعالى تنبيه الناس بهذه الآية. هـ.
قيل: وهذه الآية أبلغ ما في القرآن في إثارة الخوف والرجاء، من الآي التي لا تشبهها في الإجمال لما فيها من التصريح، ثم الرجاء فيها أغلب لأجل التقديم، مع ذكره في آية الرجاء، لصفاته العلية وأسمائه الحسنى، وذلك يؤذن بالتهمم به وترجيحه، وهو مذهب الصوفية في حال الحياة والممات.
الإشارة: الخوف والرجاء يتعاقبان على الإنسان، فتاره يغلب عليه الخوف، وتارة يغلب عليه الرجاء. هذا قبل الوصول، وأما بعد الوصول فالغالب عليهم الاعتدال، قال في التنبيه: أما العارفون الموحدون فإنهم على بساط القرب والمشاهدة، ناظرون إلى ربهم، فانون عن أنفسهم، فإذا وقعوا في ذلة، أو أصابتهم غفلة، شهدوا تصريف الحق تعالى لهم، وجريان قضائه عليهم. كما أنهم إذا صدرت منهم طاعة، أو لاح منهم لائح من يقظة، لم يشهدوا في ذلك أنفسهم، ولم يروا فيها حولهم ولا قوتهم لأن السابق إلى قلوبهم ذكر ربهم، فأنفسهم مطمئنة تحت جريان أقداره، وقلوبهم ساكنة بما لاح لهم من أنواره، ولا فرق عندهم بين الحالين لأنهم غرقى في بحار التوحيد، قد استوى خوفهم ورجاؤهم، فلا ينقص من خوفهم ما يجتنبونه من العصيان، ولا يزيد في رجائهم ما يأتون من الإحسان. هـ. قلت: بل طرق الرجاء عندهم أرجح، كما تقدم لأن الرجاء ناشئ عن غلبة المحبة، وهي غالبة.
والله تعالى أعلم.
(1) أخرجه بنحوه الطبري فى تفسيره (14/ 102) عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره الواحدي فى أسباب النزول (283) بدون سند.