الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: لو أن عارفاً بالله سيَّر الجبال عن أماكنها، وفجر الأرض عيوناً، وكلمه الموتى لما آمن بخصوصيته إلا مَن سبقت له عناية الخصوصية. فلو شاء الله لهدى الناس إلى معرفته جميعاً. لكن الحكمة اقتضت وجود الخلاف، قال تعالى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ «1» ، فمن لم يهتد إلى معرفتهم لا يزال تطرقه قوارع الشكوك والأوهام، وخواطر السوء، أو تحل قريباً من قلبه، إن لم تتمكن فيه، حتى يأتي وعد الله بحضور موته، فقد يتداركه اللطف والرعاية، وقد يتسع الخرق عليه فيموت على الشك، والعياذ بالله. بخلاف من صَحِبَ أهل الطمأنينة واليقين، لا يموت إلا على اليقين لأن همة الشيوخ قد حَلَّقَتْ عليه، والعناية قد حفت به. والله ولي المتقين.
قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: (والله لا يكون الشيخ شيخاً حتى تكون يده مع الفقير أينما ذهب)، والمراد باليد:
الهمة والحفظ. ووقت الموت أولى بالحضور، وقد شاهدنا ذلك من إخواننا ممن حضره الموت منهم، أخبر أنه يرى شيخه حاضراً معه. فللَّهِ الحمة والمنة.
ثم سلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إذاية قومه، فقال:
[سورة الرعد (13) : آية 32]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32)
يقول الحق جل جلاله، فى تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فأوذوا وأهِينُوا، فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: أمهلتهم في دعة ورغد عيش، مدة من الزمان، ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالهلاك والاستئصال، فَكَيْفَ كانَ عِقابِ؟ أي: عقابي إياهم، وهو تهويل لما نزل بهم، وتخويف لغيرهم من المستهزئين بالرسول صلى الله عليه وسلم والمقترحين عليه الآيات.
الإشارة: الاستهزاء بأهل الخصوصية في بدايتهم سنة ماضية، ويتسلون بمن سلف من خصوص الأنبياء والأولياء. وما هدد به الكفار يهدد به أهل الإنكار. وبالله التوفيق.
ثم وبخهم على الشرك وأوعدهم عليه، فقال:
[سورة الرعد (13) : الآيات 33 الى 34]
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)
(1) من الآية 118 من سورة هود.
قلت: أَفَمَنْ مع صلته: مبتدأ، والخبر محذوف، أي: أفمن هو رقيب على كل شيء أحق أن يعبد أم غيره.
أو كمَن ليس كذلك؟!.
يقول الحق جل جلاله: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ أي: حفيظ رقيب على عمل كل نفس بِما كَسَبَتْ من خير أو شر، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، ولا يفوت عنده شيء من جزائهم، أحق أن يعبد أم غيره؟. أو كمن ليس كذلك ممن هو جماد لا يسمع، ولا يعقل!!. وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ بعد هذا البيان التام، قُلْ لهم: سَمُّوهُمْ أي: اذكروا أسماءهم، فلا تجدون إلا أسماء إناث كاللات والعزى ومناة، أو أسماء أحجار وخشب فبأي وجه تستحق أن تعبد، وتشرك مع الله في ألوهيته؟.
أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ بل أتخبرونه بما لا يعلم وجوده في الأرض، وهذا تهكم بهم، كأنهم علموا استحقاق الأصنام العبادة، ولم يعلمها الحق تعالى، وهو محال. والمعنى: أنَّ الله لا يعلمُ لنفسه شركاء وإذا لم يعلمهم فليسوا بشيء، فكيف تفترون الكذب في عبادتهم؟ أَمْ تسمونهم شركاء، بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ، من غير حقيقة واعتبار معنى، كتسمية الخبث مسكاً، والبول عطراً.
بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ أي: انخداعهم وغرورهم حتى توهموا الباطل حقاً، أو مكرهم بالإسلام وكيدهم لأهله، وَصُدُّوا «1» عَنِ السَّبِيلِ أي: وصدُّوا الناس عن طريق الحق، حيث منعوهم من الإسلام.
ومن قرأ بضم الصاد مبنياً للمفعول فمعناه: صدَّهُم الشيطانُ عن طريق الحق وضلوا عنه. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ أي: من يخذله الله فليس له من يوفقه غيره. لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
بالقتل والأسر، وسائر ما يصيبهم من المصائب، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
لشدته ودوامه، وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ
اي: من عذابه مِنْ واقٍ
يقيهم ويعصمهم منه.
الإشارة: كل مَنْ تحقق أن الله قائم عليه استحيا منه أن يُسيء الأدب بين يديه، يقول الله تعالى في بعض الأخبار:«أن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخَللُ في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلِمَ جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟» . وكل من وقف مع الأسباب واعتمد عليها، أو طمع في الخلق وركن إليهم، فقد جعل لله شركاء، فيقال له: سَمِّ هؤلاء تجدهم خلقا عاجزين، لا قدرة لهم على شيء، ولا ينفعوك بشيء إلا ما قَسَم الله لك في الأزل.
بل زين لضعفاء اليقين مكرهم، حتى انخدعوا وافتتنوا برؤية الأسباب، أي: كفروا كفراً دون كفر بأن شكّوا فى
(1) قرأ عاصم وحمزة والكسائي، بضم الصاد، على البناء للمفعول، وقرأ الباقون بالفتح على البناء للفاعل.. انظر الإتحاف (2/ 162) .