الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا
متكبرًا عاقًا، فالجبّار: هو المتكبر، لأنه يجبر الناس على أخلاقه. وقيل: من لا يقبل النصيحة، أو عاصيًا الله تعالى. وَسَلامٌ عَلَيْهِ
أي: سلامة من الله تعالى عليه، يَوْمَ وُلِدَ
من أن يناله الشيطان بما ينال بني آدم، وَيَوْمَ يَمُوتُ
من عذاب القبر، وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
من هول القيامة وعذاب النار.
رُوِيَ أن يحيى وعيسى- عليهما السلام التقيا، فقال له يحيى: استغفر لي، فأنت خير مني، فقال له عيسى:
أنت خير مني، أنا سلمت على نفسي وأنت سلم الله عليك.
الإشارة: أخذ الكتاب بالقوة- وهو الجد والاجتهاد في قراءته- هو أن يكون متجردًا لتلاوته، منصرف الهمة إليه عن غيره، فلا يصدق على العبد أن يأخذ كتاب ربه بقوة، حتى يكون هكذا عند تلاوته. قال الورتجبي:
خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ أي: خذ كتابنا بنا لابك، والكتاب كلام الحق الأزلي، أي: خذ الكتاب الأزلي بالقوة الأزلية. هـ. ومعناه أن يكون التالي فانيًا عن نفسه، متكلمًا بربه، ويسمعه من ربه، فهذا حال المقربين.
والله تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة مريم- عليها السلام فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 21]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21)
قلت: (إِذِ انْتَبَذَتْ)
: بدل اشتمال من مريم، على أن المراد بها نبؤها، فإن الظرف مشتمل على ما فيها، وقيل:
بدل الكل، على أن المراد بالظرف ما وقع فيه. وقيل:«إِذِ»
ظرف لنبأ المقدر، أي: اذكر نبأ مريم حين انتبذت لأن الذكر لا يتعلق بالأعيان، لكن لا على أنّ يكون المأمور به ذكر نبأها عند انتباذها فقط، بل كل ما عطف عليه وحكي بعده بطريق الاستثناء داخل في حيز الظرف متمم للنبأ. و (مَكاناً)
: مفعول بانتبذت، باعتبار ما فيه من معنى الإتيان، أي: اعتزلت وأتَتْ مكانًا شرقيًا، أو ظرف له، أي: اعتزلت في مكان شرقي. و (بَشَراً)
: حال. وجواب (إِنْ كُنْتَ)
: محذوف، أي: إن كنت تقيًا فإني عائذة بالرحمن منك. و (بَغِيًّا) أصله: بغوي، على وزن فعول،
فأدغمت الواو- بعد قلبها ياء- في الياء، وكسرت الغين للياء «1» ، و (لِنَجْعَلَهُ) : متعلق بمحذوف، أي: ولنجعله آية فعلنا ذلك، أو معطوف على محذوف، أي: لنُبين لهم كمال قدرتنا ولنجعله.. الخ. أو على جملة: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) لأنها في معنى العلة، أي: كذلك قال ربك لقدرتنا على ذلك ولنجعله.. الخ.
يقول الحق جل جلاله: وَاذْكُرْ
يا محمد فِي الْكِتابِ
: القرآن، والمراد هذه السورة الكريمة لأنها هي التي صُدرت بذكر زكريا، واستتبعت بذكر قصة مريم لما بينهما من الاشتباك. أي: اذكر في الكتاب نبأ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ
حين اعتزلت مِنْ أَهْلِها
وأتت مَكاناً شَرْقِيًّا
من بيت المقدس، أو من دارها لتتخلى فيه للعبادة، ولذلك اتخذت النصارى المشرق قبلة. وقيل: قعدت في مشربة لتغتسل من الحيْض، محتجبة بشيء يسترها، وذلك قوله تعالى: فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
، وكان موضعها المسجد، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها، وإذا طهرت عادت إلى المسجد. فبينما هي تغتسل من الحيض، محتجبة دونهم، أتاها جبريل عليه السلام في صورة آدمي، شاب أمرد، وضيء الوجه.
قال تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
: جبريل عليه السلام، عبَّر عنه بذلك توفية للمقام حقه. وقرىء بفتح الراء لكونه سببًا لِمَا فيه روح العباد، يعني اتباعه والاهتداء به، الذي هو عدة المقربين في قوله: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ «2» . فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
: سَويّ الخَلق، كامل البنية، لم يفقد من حِسان نعوت الآدمية شيئًا، وقيل: تمثل لها في صورة شاب تِرْبٍ «3» لها، اسمه يوسف، مِنْ خدَم بيت المقدس، وإنما تمثل لها في تلك الصورة الجميلة لتستأنس به، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلامه تعالى إذ لو ظهر لها على صورة الملَكية، لنفرت منه ولم تستطع مقاومته.
وأما ما قيل من أنَّ ذلك لتَهيج شهوتُها، فتنحدر نطفتها إلى رحمها، فغلط فاحش، ينحو إلى مذهب الفلاسفة، ولعلها نزعة مسروقة من مطالعة كتبهم، يُكذبه قوله تعالى: قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
، فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها ميل إليه، فضلاً عن ما ذكر من الحالة المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة. نعم يمكن أن يكون ظهر على ذلك الحُسن الفائق والجمال اللائق لابتلائها واختبار عِفّتها، ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه. وذِكْرُ عنوان الرحمانية للمبالغة في العِيَاذ به تعالى، واستجلاب آثار الرحمة الخاصة، التي هي العصمة مما دهمها. قاله أبو السعود. وقولها: إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
أي: تتقي الله فتُبَالى بالاستعاذة به.
(1) أي لمناسة الياء.
(2)
الآيتان 88- 89 من سورة الواقعة.
(3)
أي: فى مثل سنها: فالتّرب: اللّدة والسّنّ
…
انظر: اللسان (ترب 1/ 425) .