الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمراد بعمامة الماء: كناية عن الحقيقة لأنها كالماء لحياة النفوس. وميل شدها: كناية عن قوتها، وتكبيرها على الشريعة. والمراد ببرنس الثلج: برد التشريع، فإذا قويت الحقيقة، وخاف من الاحتراق، نزل إلى برد التشريع. والمراد بالريح: هبوب نسيم الواردات الإلهية، يشعل منها قنديل الفكرة- التي هي سِراج القلب-، فإذا ذهبت فلا إضاءة له، وهذه حالة السائر، وأما الواصل فقد سكن النور في قلبه، فلا يحتاج إلى سراجٍ غيره تعالى. وفي ذلك يقول الشاعر:
كُلُّ بَيْتٍ أنت سَاكنُهُ
…
غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلى سُرُجِ
وجهك المحمود حجتنا
…
يوم يأْتِي الناس بالحجج
والمراد بالضباب: وجود السِّوى، فإنه يحترق عند اشتعال الفكرة. والله تعالى أعلم. وباقي الآية ظاهر إشارته.
ثم ذكر وعيد من أعرض عن هذه النعم، التي هى دلائل قدرته، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 89]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
قلت: «تِبْياناً» : حال من الكتاب، وهو مصدر، قال في القاموس: والتبيان: مصدر شاذ. وفي ابن عطية:
والتبيان: اسم، لا مصدر. والمصادر في مثله مفتوحة، كالترداد والتكرار. هـ. وقال فى الصحاح: لم يجئ على الكسر إلا هذا، والتِّلقاء. هـ.
يقول الحق جل جلاله: وَاذكر يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ من الأمم شَهِيداً أي: رسولاً يشهد لها أو عليها، بالإيمان أو بالكفر، وهو يوم القيامة، ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار إذ لا عذر لهم. «1»
(1) فى باب أحوالهم عند الخروج من الدنيا، حكى القشيري فى الرسالة، عن أبى محمد الهروي «أنه قال: ومكثت عند الشبلي، الليلة التي مات فيها، فكان يقول- طول ليله-: هذين البيتين:
كُلُّ بَيْتٍ أنت سَاكنُهُ
…
غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا
…
يوم يأتي الناس بالحجج
أو: في الرجوع إلى الدنيا. وعبَّر بثم لزيادة ما يحيق بهم من شدة المنع من الاعتذار، مع ما فيه من الإقناط الكلي. وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ: لا يطلب منهم العتبى، أي: الرجوع إلى ما يرضي الله. والمعنى: أنهم لا يُؤذَنُ لهم في الاعتذار عما فرطوا فيه مما يرضي الله، ولا يطلب منهم الرجوع إلى تحصيله. وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا:
كفروا الْعَذابَ: جهنم فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يُمهلون عنه إذا رأوه.
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ: أوثانهم التي دعوها شركاء لله، أو الشياطين الذين شاركوهم في الكفر بالحمل عليه، قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ
أي: نعبدهم ونطيعهم من دونك. وهو اعتراف بأنهم كانوا مخطئين في ذلك. فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ قالوا لهم: إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ أي:
أجابوا بالتكذيب في أنهم شركاء الله، أو أنهم عبدوهم حقيقة، وإنما عبدوا أهواءهم كقوله: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ «1» ، وقوله: مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ «2» ، أو لأنهم، لما كانوا غير راضين بعبادتهم، فكأن عبادتهم لم تكن لهم. وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ أي: الاستسلام، أي: استسلموا لحكمه (يَوْمَئِذٍ) ، بعد أن تكبروا عنه في الدنيا، ولا ينفع يومئذ، وَضَلَّ عَنْهُمْ أي: غاب وضاع وبطل ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أن آلهتهم تنصرهم وتشفع لهم.
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بالمنع من الإسلام، والحمل على الكفر، زِدْناهُمْ عَذاباً بصدهم، فَوْقَ الْعَذابِ المستحق بكفرهم. قال ابن مسعود:«عقارب، أنيابها كالنخل الطوال، تلسعهم» . وعن عبيد بن عمير: عقارب كالبغال الدُّلْم- أي: السود جدًا، والأدلم: الشديد السواد. وذلك العذاب بِما كانُوا يُفْسِدُونَ أي: بكونهم مفسدين بصدهم عما فيه صلاح العالم.
وَاذكر أيضًا: يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني: نبيهم فإن نبي كل أمة بعث منها. وَجِئْنا بِكَ يا محمد شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ على أمتك، أو على هؤلاء الشهداء، وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ: القرآن تِبْياناً بيانًا بليغًا لِكُلِّ شَيْءٍ من أمور الدين على التفصيل، أو الإجمال بالإحالة على السنة أو القياس. وَهُدىً من الضلالة، وَرَحْمَةً بنور الهداية لجميع الخلق. وإنما حُرم المحروم لتفريطه، وَبُشْرى بالجنة، وغيرها، لِلْمُسْلِمِينَ الموحدين خاصة. وبالله التوفيق.
الإشارة: قد بعث الله في كل دهر وعصر شهيدًا يشهد على أهله، ويكون حجة عليهم يوم القيامة، وهم صنفان: صنف يشهد على من فرط في أحكام الشريعة، وهم: العلماء الأتقياء، وصنف يشهد على من فرط في
(1) من الآية 82 من سورة مريم.
(2)
من الآية 3 من سورة القصص.