الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: ويوم نُسير جبال الحس، أو الوهم، عن بساط المعاني، وترى أرض العظمة بارزة ظاهرة لا تَخْفَى على أحدٍ، إلا على أَكْمَهِ لا يُبْصِرُ القمر في حال كماله، وحشرناهم إلى الحضرة القدسية، فلم نغادر منهم، أي:
ممن ذهب عنه الحس والوهم، أحدًا، وعُرضوا على ربك لشهود أنوار جماله وجلاله، صفًا، للقيام بين يديه، فيقول لهم: لقد جئتمونا من باب التجريد، كما خلقناكم أول مرة، مُطَهَّرِينَ من الدنس الحسي، غائبين عن العلائق والعوائق، وكنتم تزعمون أن هذا اللقاء لا يكون في الدنيا، وإنما موعده الجنة، ومن مات عن شهود حسه، وعن حظوظه، حصل له الشهود واللقاء قبل الموت الحسي، ووضع الكتاب في حق أهل الحجاب، فترى المجرمين من أهل الذنوب مشفقين مما فيه، ووجود العبد: ذَنْبٌ لا يقاس به ذنب، فَنَصْبُ الموازين، ومناقشةُ الحسابِ إنما هو لأهل الحجاب، وأما العارفون الفانون عن أنفسهم، الباقون بربهم، لم يبق لهم ما يُحاسبون عليه إذ لا يشهدون لهم فعلاً، ولا يرون لأحد قوة ولا حولا. والله تعالى أعلم.
ولمّا كان سبب العذاب ووجود الحجاب هو التكبر على رب الأرباب، ذكر وبالَهُ بإثر الحشر والحساب، أو تقول:
لمَّا ذكر قصة الرجلين ذكر قُبح صنيع من افتخر بنفسه، وأنه شبيه بإبليس، وكل من افتخر واستنكف عن الانتظام في سلك فقراء المؤمنين كان داخلا فى حزبه. وقال الواحدي: ثم أمر الله تعالى نبيه أن يذكر لهؤلاء المتكبرين عن مجالسة الفقراء قصة إبليس وما ورّثه الكبر، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 50 الى 51]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَاّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51)
قلت: (إِلَّا إِبْلِيسَ) : استثناء منقطع، إذا قلنا: إن إبليس لم يكن من الملائكة، وإذا قلنا: إنه منهم يكون متصلاً، ويكون معنى «كانَ» : صار، أي: إلا إبليس صار من الجن لمَّا امتنع من السجود، أو بأن الملائكة كان منهم قوم يقال لهم الجن، وهم الذين خُلقوا من النار. وجملة (كانَ مِنَ الْجِنِّ) : استئنافية سيقت مساق التعليل، كأنه قيل: ما له لم يسجد؟ فقيل: كان أَصْلُهُ جنِّيًا.
يقول الحق جل جلاله: وَاذكر إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ أي: وقت قوْلنا لهم: اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود تحية وتكريم، فَسَجَدُوا جميعًا امتثالاً للأمر، إِلَّا إِبْلِيسَ أبى واستكبر لأنه كانَ مِنَ الْجِنِ
،
وكان رئيسهم في الأرض، فلما أفسدوا أرسل الله عليهم جندًا من الملائكة، فغزوهم، فهربوا في أقطار الأرض، وأُخذ إبليس أسيرًا، فعرجوا به إلى السماء، فأسلم وتعبد في أقطار السموات، فلما أُمرت الملائكة بالسجود امتنع ونزع لأصله، فَفَسَقَ أي: خرج عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي: عن طاعته، أو صار فاسقًا كافرًا بسبب أمر الله تعالى إذ لولا ذلك لَمَا أبى، والتعرض لوصف الربوبية المنافية للفسق لبيان كمال قُبح ما فعله.
قال تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أي: أولاده، أو أتباعه، وهم الشياطين، جُعلوا ذريةً مجازًا. وقال قتادة:
إنهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم. وقيل: يُدْخِل ذنَبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين.
والهمزة للإنكار والتعجب، والفاء للتعقيب، أي: أَعقبَ عِلْمكُم بصدور تلك القبائح منه، تتخذونه وذريته أَوْلِياءَ أحباء مِنْ دُونِي فتستبدلونهم، وتطيعونهم بدل طاعتي، والحال أنهم، أي: إبليس وذريته لَكُمْ عَدُوٌّ أي: أعداء. وأُفرد تشبيهًا له بالمصدر، كالقبول والولوع، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ: الواضعين للشيء في غير محله، بَدَلًا استبدلوه من الله تعالى، وهو إبليس وذريته. وفي الالتفات إلى الغيبة، مع وضع الظاهرَ موضع الضمير، من الإيذان بكمال السخط، والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلم قبيح، ما لا يخفى.
ما أَشْهَدْتُهُمْ أي: ما أحضرت إبليس وذريته، أو: جميع الكفار خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، حيث خلقتهما قبل خلقهم، وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ: ولا أشهدت بعضهم خلق بعض، كقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» . قاله البيضاوي.
قلت: الظاهر إبقاء الأنفس على ظاهرها، أي: ما أحضرتهم خلق أنفسهم، أي: ما كانوا حاضرين حين خلقت أنفسهم، بل هم مُحْدَثُونَ في غاية العجز والجهل، فكيف تتخذونهم أولياء من دوني؟ وفي الآية رد على المنجِّمين الذين يخوضون في أسرار غيب السموات بالتخمين، وعلى الطبائعيين من الأطباء ومن سواهم، من كل متخوض في هذه الأشياء، وعلى الكُهَّان وكل من يتطلع على الغيب بطريق الحدس، والمصدقين لهم. انظر ابن عطية.
قال تعالى: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ من الشياطين عَضُداً أي: أعوانًا في شأن الخلق، أو في شأن من شؤوني، حتى تتخذوهم أولياء وتُشركوهم في عبادتي، وكان الأصل أن يقول: وما كنت متخذهم، فوقع المظهر موقع الضمير ذمًا لهم، وتسجيلاًً عليهم بالإضلال، وتأكيدًا لما سبق من إنكار اتخاذهم أولياء، وفيه تهكم بهم وإيذان بكمال ركاكة عقولهم وسخافة آرائهم حيث لا يفهمون هذا الأمر الجلي الذي لا يكاد يشتبه على أبلدِ الصبيان، فيحتاجون إلى التصريح به. انظر أبا السعود.
(1) من الآية 29 من سورة النساء.