الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي: الغائب عن الحس، والظاهر فيه الْكَبِيرُ: العظيم الشأن، الذي يصغر كلُّ شيء دون عظمته وكبريائه، الْمُتَعالِ: المستعلي عن سمة الحوادث، أو: المستعلي بقدرته على كل شيء.
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ في نفسه وَمَنْ جَهَرَ بِهِ لغيره، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ: طالب للخفاء مستتراً بظلمة الليل، وَمن هو سارِبٌ بِالنَّهارِ أي: بارز فيه. فقد أحاط الله بذلك، علماً وسمعاً وبصراً. فالآية مقررة لِما قبلها من كمال علمه وشموله.
[سورة الرعد (13) : الآيات 11 الى 13]
لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13)
لَهُ مُعَقِّباتٌ أي: لمن أسر أو جهر، أو استخفى أو برز، مُعَقِّباتٌ: ملائكة تعتقب في حفظه، اي:
يعقب بعضُها بعضاً، اثنان بالليل واثنان بالنهار، أو: لأنهم يعقبون أقواله وافعاله فيكتبونها. أو: جماعة من الملائكة وَكَّلهم الله بحفظ الآدمي، يعقب بعضُهم بعضاً، وهو مناسب لقوله: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي:
يحرسونه من الآفات التي تنزل من امر الله وإرادته. أو: يحفظونه من عقوبة الله وغضبه. إذا أذنب ذنبا أمهلوه واستغفروا له. أو: يراقبون أحواله من أجل أمر الله، إذ أمرهم الله بذلك، أو يكون صفة للمعقبات، أي: له معقبات من أجل أمر الله، حيث أمرهم بحفظه. وقيل: الضمير في لَهُ: يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، المتقدم في قوله: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ، فتكون نزلت فيمن اراد غدر النبي صلى الله عليه وسلم سراً، على ما يأتي في الآية الآتية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد تقدم مراراً حالُ مَن طلب الكرامة من الأولياء، وأنه جاهل بهم، ولا يعرفهم مادام يلتمس الكرامة منهم. وأيُّ كرامة أعظم من الاستقامة، والمعرفة بالله، على نعت الشهود والعيان؟!. وقوله تعالى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أي: ولكل عصر عارف بالله، يهدي الناس إلى حضرة الله، وهم ورثة الهادي الأعظم والنبي الأفخم، نبينا- عليه الصلاة والسلام أولهم سيدنا علي- كرّم الله وجهه للحديث المتقدم، لأنه أول مَن أظهر علم التصوف وأفشاه، ثم أخذه عنه الحسن البصريّ وهذبه، ثم حبيب العجمي، ثم داود الطائي، ثم معروف الكرخي، ثم سري السقطي، ثم إمام الطريقة: أبو القاسم الجنيد، ثم انتشر في الأرض، فلكل عصرٍ رجالٌ يحملون لواء الحقيقة، ويهدون الناس إلى لباب الشريعة. وهم العارفون بالله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يَبْعَثُ اللهُ عَلَى رَأسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لهذِه الأمة أمرَ دِينِهَا» «1» أي: يجدد الطريقة بعد دروسها، ويحيي الحقيقة بعد خمود أنوارها، ويُظهر الشريعة بعد خفاء أعلامها. وقد يكون واحداً ومتعدداً. وقد بعث الله في رأس هذه المائة الثالثة عشر، أربعةً، أحيا الله بهم الحقيقة، وأظهر بهم أنوار الشريعة، يمشون في الأرض بالنصيحة، ويهدون الناس إلى رب العالمين، والله ولي المتقين، وشهرتهم تُغني عن تعيينهم، وتقدم اثنان فى العقود.
(1) أخرجه ابن داود فى (الملاحم، باب ما يذكر فى قرن المائة) من حديث أبى هريرة، وصححه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 1845) .
وقوله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى: ما تحمل كل نفس من العلوم، وما تحمل كل روح من الأسرار.
وما تغيض الأرحام، أي: القلوب، فقد تنقص أنوارها بمباشرة الأغيار، وقد تزداد بالتفرغ أو صحبة العارفين الكبار.
وكل شيء عنده بمقدار، فالفتح له وقت معلوم، وحد محدود، والمراتب والمقامات مقسومة محدودة في الأزل، كل أحد ياخذ ما قُسم له. وقوله تعالى: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ
…
إلخ، فيه تحقيق المراقبة وتشديد المحاسبة على الخواطر والقلوب. والله تعالى أعلم.
وَإِذَا كان العبد على هداية من ربه أو نعمة، فلا تزول عنه إلا من جهته، كما قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ
…
قلت: وَإِذا: ظرف، والعامل فيه: مادل عليه الجواب، أي: لا يُرد ما قضى إذا أراد إنفاذه. وخَوْفاً وَطَمَعاً:
منصوبان على العلة بتقدير المضاف، أي: إرادة الخوف والطمع ليتحد الفاعل. أو بتأويل: يجعلكم ترون البرق خوفا وطمعا. والثِّقالَ: نعت للسحاب، وجَمَعَه لأن السحاب جنس بمعنى الجمع. وجملة: وَهُمْ يُجادِلُونَ: إما استئنافية، أو حال من الموصول. والْمِحالِ: المكر والخديعة. من مَحَل بفلان إذا كاده وعرَّضه للهلاك، ومنه تمحّل: إذا تكلَّف استعمال الحيلة، فالميم أصلية، ووزنه: فِعَال، وقيل: مشتق من الحيلة، فالميم زائدة، ووزنه: مِفْعَل، وأصله: مِحْيَل.
يقول الحق جل جلاله: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من النعم والعافية إلى النقمة والبلية حَتَّى يُغَيِّرُوا هم ما بِأَنْفُسِهِمْ من الطاعة وترك المعصية، إلى ارتكاب الذنوب. فلا يسلب النعم عن قوم إلا بارتكاب ذنب، ولو من البعض إذا سكت الكل. وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ أي: فلا رادّ له ولا مُعقب لحُكمه، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ أي: ليس لهم من يلي أمرهم، ويدفع عنهم السوء الذي قضاه الله عليهم، وأراد نزوله بهم لأن وقوع خلاف مراد الله تعالى محال.
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً أي: خوفاً مما ينشأ عن البرق من الصواعق والأمور الهائلة، وطمعاً في نزول الغيث الذي يكون معه غالباً، وَيُنْشِئُ أي: يخلق السَّحابَ الغيم المسْحب، الثِّقالَ:
المثقل بالمطر الحاملة له، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ أي: متلبسا بحمده، يقول: سبحان الله وبحمده. أو: يدل الرعد بنفسه على وحدانيته تعالى وكمال قدرته، ملتبساً بالدلالة على كمال فضله، ونزول رحمته. وعن ابن عباس رضى الله عنه: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد فقال: «مَلَكٌ مَوَكَّلُ بالسَّحابِ، له مَخَارِيقُ مِنْ نَارٍ يَسُوقُ السَّحَاب» «1» .
وَتسبح أيضاً الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ أي: من خوفه وإجلاله، وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ نار تنزل من السماء وقت ضرب الرعد، فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ فيهلكه، وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ أي: الكفار، حيث يكذبون رسوله فيما يصفه به من كمال العلم والقدرة، والتفرد بالألوهية، وبعث الناس وحشرهم للمجازاة، وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ أي: شديد المكر بأعدائه، الذين أرادوا أن يمكروا بنبيه- عليه الصلاة والسلام.
رُوي أن عامر بن الطّفيل وأريد بن ربيعة وفدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصدين لقتله، فأخذ عامر بالمجادلة مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغله، ودار أرْبَدُ من خلفه ليضربه بالسيف، فتنبه له الرسول- عليه الصلاة والسلام وقال:
«اللَّهُمَّ اكفنيهما بِمَا شِئتَ» ، فأرسل الله على أرْبد صاعقة فقتلته، ورُمي عامرٌ بغدة، فمات في بيت امرأة سلُوليَّة، فكان يقول: غُدة كغُدَّة البعير، وموت في بيت امرأة س لوليّة! فنزلت الآية من أولها «2» ، وهو قوله: لَهُ مُعَقِّباتٌ
…
إلخ، على قول.
الإشارة: من جريان حكمته تعالى في خلقه أنه لا يسلب النعم عنهم إلا بسوء أدبٍ منهم، كلٌ على قدر مقامه، فالنعم الظاهرة يسلبها بترك الطاعة الظاهرة، أو بالمخالفة الظاهرة، والنعم الباطنة يسلبها بترك المراقبة الباطنة أو المشاهدة الباطنة. فلكل مقام حقوق وآداب فمن أَخَلَّ بحقوق مقام نقص له منه، إلا أن يتوب. وقد يسيء الأدب فتؤخر العقوبة عنه، فيظن أنه لم يُسْلب. ولو لم يكن إلا ترك المزيد. وقد يبعد، وهو لا يشعر، ولو لم يكن إلا وتركه وما يريد. كما في الحِكَم.:«إن الله لا يغير ما في القلوب من أنوار الشهود والعيان، حتى يغيروا ما بأنفسهم من حسن الأدب بسوء الأدب» . وهذا ما لم يتحقق له مقام المحبوبية والتمكن مع الله في المعرفة. وإلا فالرعاية والعناية محفوفة بقلبه، فقد يبلغ الولي إلى مقام يُقال له: افعل ما شئت فقد غفرتُ لك، كما وقع لأهل بدر، وراجع ما تقدم عند قوله: أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ «3» وقد يُغير الله قلب عبده اختباراً له، فيسلبه حلاوة المعاملة أو المعرفة، فإن هو اضطرب وتضرع ردَّ له حاله، وإن لم يضطرب ولم يفزع إلى الله لم يرد له شيئاً. وإليه الإشارة بقوله: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ
…
الآية.
(1) أخرجه فى سياق طويل، أحمد فى المسند (2/ 274) والترمذي في (تفسير سورة الرعد)، وقال: حسن غريب.
(2)
أخرجه ابن جرير فى التفسير (13/ 126) عن ابن عباس رضى الله عنه فى سياق أطول من هذا. وهو ضعيف لوجود السدى والكلبي فى السند.
(3)
الآية 82 من سورة الأنعام. [.....]