الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخامسة: التماس الترقي والزيادة في الاهتداء واليقين، فكل مقام يدركه ينبغي أن يطلب مقامًا أعلى منه، ولا نهاية لعلمه تعالى ولا لعظمته، (وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدًا) ، وبالله التوفيق.
ثم أمره بتلاوة كتابه الذي هو أصل كل رشد وصواب، وأقرب هداية لذوى الألباب، فقال تعالى:
[سورة الكهف (18) : آية 27]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27)
يقول الحق جل جلاله: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ أي: أسرده على ما نزل، ولا تسمع لقولهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا «1» ، أو اتبع أحكامه، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ: لا قادر على تبديله غيره، أو:
لا مغير لما وعد بكلماته للمخالفين له، وَلَنْ تَجِدَ أبدًا مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي: ملجأ، تعدل إليه عند إلمام مُلمة، أو: لن تجد، إن بدلت تقديرًا، وخالفت ما أنزل إليك، ملتحدًا: ملجأ تميل إليه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: القرآن شفاء لكل داء فمن نزلت به شدة حسية أو معنوية، دنيوية أو دينية، ففزع إليه بالتلاوة أو الصلاة به، رأى فَرَجًا، وقريبًا، فالالتجاء إلى كلام الله هو الالتجاء إلى الله، فإنَّ الحق تعالى يتجلى في كلامه للقلوب على قدر صفائها، وأما من التجأ إلى غير الله فقد خاب رجاؤه وبطل سعيه قال تعالى:(وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) تميل إليه فيأويك. والله تعالى أعلم.
ثم أمر بصحبة الفقراء، الذين يعينونه على تلاوة كتابه ونصر دينه والتمسك به، فقال:
[سورة الكهف (18) : آية 28]
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)
قلت: (وَلا تَعْدُ) : نهي مجزوم بحذف الواو، و (عَيْناكَ) : فاعل، و (تُرِيدُ) : حال من الكاف، أو من فاعل (تَعْدُ) .
يقول الحق جل جلاله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أي: احبسها مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أي: يعبدونه بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، قيل: الصلوات الخمس، فالغداة: الصبح، والعَشِيِّ: الظهر وما بعده، وقيل: الصبح والعصر،
(1) من الآية 15 من سورة يونس.
قلت: والأظهر أنها الصلاة التي كانوا يُصلونها قبل فرض الصلاة، وهي ركعتان بالغداة والعشي. قال ابن عطية:
ويدخل في الآية مَنْ يدعو في غير صلاة، ومن يجمع لمذاكرة علم، وقد رَوى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لَذِكْرُ اللهِ بالغَدَاةِ والعَشِيِّ أَفْضَلُ مِنْ حَطْمِ السُّيُوف فِي سَبيل اللهِ، ومِنْ إعْطَاءِ المَال سحا» «1» .
وقيل: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) في جميع الأوقات، وفي طرفَيْ النهار، والمراد بهم فقراء المؤمنين كعمَّار وصُهَيب وخبَّاب وبِلال، رُوي أن رؤساء الكفرة من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك، وقالوا: إن ريح جِبَابِهم تؤذينا، فنزلت الآية «2» . رُوي أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت خرج إليهم وجلس بينهم، وقال:«الحمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ في أمتي مَنْ أُمرْتُ أنْ أصبرْ نَفْسِي معه» «3» . وقيل: نزلت في بيان أهل الصُّفَّة، وكانوا نحو سبعمائة، فتكون الآية مدنية.
ثم وصفهم بالإخلاص، فقال: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي: معرفة ذاته، لا جنة ولا نجاة من نار، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أي: لا تجاوزهم بنظرك إلى غيرهم، من عداه: إذا جاوزه، وفي الوجيز: ولا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة، تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء وأصحاب الدنيا.
وَلا تُطِعْ في تنحية الفقراء عن مجلسك مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا أي: جعلناه غافلاً عن الذكر وعن الاستعداد له، كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراء عن مجلسك، فإنهم غافلون عن ذكرنا، على خلاف ما عليه المؤمنون من الدعاء في مجامع الأوقات، وفيه تنبيه على أن الباعث على ذلك الدعاء غفلة قلبية عن جناب الله- سبحانه- حتى خفي عليه أن الشرف إنما هو بتحلية القلب بالفضائل، لا بتحلية الجسد بالملابس والمآكل. وَاتَّبَعَ هَواهُ: ما تهواه نفسه، وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً: ضياعًا وهلاكًا، وهو من التفريط والتضييع، أو من الإفراط والإسراف، فإن الغفلة عن ذكر الله- تعالى- تُؤدي إلى اتباع الهوى المؤدي إلى التجاوز والتباعد عن الحق والصواب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية حثٌّ على صحبة الفقراء والمُكْث معهم، وفي صحبتهم أسرار كبيرة ومواهب غزيرة، إذ بصحبتهم يَكتسبُ الفقير آداب الطريق، وبصحبتهم يقع التهذيب والتأديب، حتى يتأهل لحضرة التقريب،
(1) عزاه فى كنز العمال (1/ 429 ح 1850) لابن شاهين فى الترغيب فى الذكر عن ابن عمر. وأخرجه، بدون العبارة الأخيرة، الديلمي فى الفردوس (3/ 454 ح 5402) عن أنس.. وحطم السيوف، أي: كسرها.
(2)
أخرجه البيهقي فى الشعب (باب فى الزهد وقصر الأمل) عن سلمان، وزاد السيوطي عزوه فى الدر (4/ 396) لابن مردويه، وأبى نعيم فى الحلية.
(3)
أخرجه الطبري (15/ 235) عن قتادة، وأخرجه البيهقي فى الموضع السابق ذكره، ضمن الرواية ذاتها عن سلمان.