الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقِيل: «ظلاّم» : بمعنى: ذي ظلم، فتكون الصيغة للنَّسَبِ. والتعبير عن ذلك بنفي الظلم، مع أن تعذيبهم بغير ذنب، ليس بظلم قطعًا، على ما تقرر في مذهب أهل السنة، فضلاً عن كونه ظلمًا بالغًا لأن الحق تعالى إنما يُظهر لنا كمال العدل، وغاية التنزيه، وإن كان في نفس الأمر جائز أن يعذب عباده بلا ذنب، ولا يسمى ظلمًا لأنه تصرف في ملكه، لكنه تعالى لم يظهر لنا في عالم الشهادة إلا كمال العدل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من يخاصم في طريق القوم، وينفيها عن أهلها، إما أن يكون تقليدًا، وهو ما تقدم، أو يكون تكبرًا وعتوًا، بحيث لم يرض أن يحط رأسه لهم، وهو ما أشير إليه هنا. ولا شك أن المتكبر لا بد أن يلحقه ذل، ولو عند الموت. ويوم القيامة يُحشر صاغرًا كالذر، كما في الحديث. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حال المذبذبين، بعد ذكر حال المجادلين المصمّمين، فقال:
[سورة الحج (22) : الآيات 11 الى 13]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
قلت: (لَمَنْ ضَرُّهُ) : قال ابن عطية: جرى فيه إشكال وهو دخول اللام على «مَنْ» ، وهو في الظاهر مفعول، واللام لا تدخل على المفعول. وأجيب بثلاثة أوجه أحدها: أن اللام متقدمة على موضعها، والأصل أن يقال:
يدعو مَنْ لَضَرُّهُ أقرب، فموضعها الدخول على المبتدأ، وثانيها: أنّ «يدعو» تأكيد ليدعو الأول، وتم الكلام عنده، ثم ابتدأ قوله:(لَمَنْ ضَرُّهُ) ، فمن مبتدأ، وخبره:(لَبِئْسَ الْمَوْلى)
- قلت: وإياه اعتمد الهبطي في وقفه، وثالثها: أن معنى «يدعو» : يقول يوم القيامة هذا الكلام، إذا رأى مضرة الأصنام، فدخلت اللام على مبتدأ في أول الكلام. هـ.
قلت: والأقرب ما قاله الزجاج، وهو: أن مفعول (يدعو) محذوف، ويكون ضميرًا يعود على الضلال، وجملة:
(يَدْعُوا) : حال، والمعنى: ذلك هو الضلال البعيد يدعوه، أي: حال كونه مدعوًا له، ويكون قوله:(لَمَنْ ضَرُّهُ) مستأنفًا مبتدأ، خبره:«لبئس المولى» . نقله المحشي. وحكم المحلي بزيادة اللام.
يقول الحق جل جلاله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ أي: على طرف من الدين لاثبات له فيه، كالذي ينحرف إلى طرف الجيش، فإن أحس بظفر قرَّ، وإلا فر. وفي البخاري عن ابن عباس: «كان الرجل
يَقدمُ المدينة، فإن ولدت امرأتُهُ غلامًا ونُتجَتْ خَيْلُه، قال: هذا دينٌ صالح، وإن لم تَلِد امرأته، ولم تنتج خيلُه، قال:
هذا الدين سُوء» «1» . وكأن الحق تعالى سلك في الآية مسلك التدلي، بدأ بالكافر المصمم، يجادل جدالاً مجملاً، يتبع فيه كل شيطان مريد. والثاني: مقلد مجادل، من غير دليل ولا برهان، والثالث: كافر أسلم إسلامًا ضعيفًا. ثم قابل الأقسام الثلاثة بضدهم، بقوله: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا
…
الآية.
ثم كمَّل حال المذبذب بقوله: فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ أي: دنيوي من الصحة في البدن، والسعة في المعيشة، اطْمَأَنَّ بِهِ أي: ثبت على ما كان عليه ظاهرًا، لا أنه اطمأن به اطمئنان المؤمنين، الذين لا يلويهم عنه صارف، ولا يثنيهم عنه عاطف. وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ: بلاء في جسده، وضيق في معيشته، أو شيء يفتتن به، من مكروه يعتريه في بدنه أو أهله أو ماله، انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي: ارتد ورجع إلى الكفر، كأنه تنكس بوجهه إلى أسفل. أو انقلب على جهته التي كان عليها. وتقدم عن ابن عباس أنها نزلت في أعاريب قدموا المدينة، مهاجرين، فكان أحدهم إذا صحَّ بدنه ونتجَتْ فَرَسُه مُهْرًا سريًا، وولدت امرأته غلامًا سويًا، وكَثُرَ مالُه وماشيته، قال: ما أصبتُ، مذ دخلت في ديني هذا، إلا خيرًا، واطمأن، وإن كان الأمر خلافه، قال: ما أصبتُ إلا شرًّا، وانقلب عن دينه. وعن أبى سعيد رضى الله عنه: أَنَّ يهُوديًا أَسْلَمَ فَأَصابَتْهُ مَصَائبُ، وتَشَاءَمَ بالإِسْلامِ، فَأَتَى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَال: أَقِلْنِي، فقال:«إنَّ الإسْلَامَ لا يُقالُ» ، فَنَزلت «2» .
خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ: فَقَدَهُما، وضيعهما بذهاب عصمته، وحبوط عمله بالارتداد. وقرأ يعقوب: خاسر، على الحال. ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ الواضح، الذي لا يخفى على أحد أنه لا خسران مثله.
ثم بيَّن وجه خسرانه بقوله: يَدْعُوا أي: يعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: متجاوزًا عنه تعالى، ما لا يَضُرُّهُ إذا لم يعبده، وَما لا يَنْفَعُهُ إذا عبده. ذلِكَ الدعاء هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ أي: التلف البعيد عن الحق.
يَدْعُوا أي: يعبد لَمَنْ ضَرُّهُ أي: الصنم الجامد الذي ضرره أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ. وقرأ ابن مسعود:
«يدعو من ضره» ، بحذف اللام. أو: ذلك هو الضلال البعيد يدعوه هذا المذبذب المنقلب على وجهه. قال ابن جزي: وهنا إشكال: وهو أنه تعالى وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع، ثم وصفها بأن ضررها أكثر من نفعها، فنفى الضر ثم أثبته؟ والجواب: أن الضر المنفي أولاً يُراد به ما يكون من فعلها، وهي لا تفعل شيئًا، والضر الثاني، الذي أثبته لها، يُراد به ما يكون بسببها من العذاب وغيره. هـ. لَبِئْسَ الْمَوْلى أي: الناصر، وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ أي: الصاحب. أو: يدعو ويصرخ يوم القيامة، حين يرى استضراره بالأصنام، ولا يرى لها أثر الشفاعة، ويقول لِمَنْ ضره أقرب من نفعه: لبئس المولى هو ولبئس العشير. والله تعالى أعلم.
(1) أخرجه البخاري فى (التفسير، سورة الحج) عن ابن عباس رضى الله عنه.
(2)
ذكره الواحدي فى الأسباب (317) ، بدون إسناد، عن عطية العوفى عن أبي سعيد الخدري.