الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: كل من اتخذ شيئًا يتعزز به من دون الله وطاعته انقلب عليه ذُلاً وهوانًا، ولذلك قيل:«من تعزز بمخلوق مات عزه» . فإن أردت عزًا لا يفنى فلا تتعزز بعز يفنى، وهو التعزز بالمال أو الجاه، أو غير ذلك مما يفنى، وسيأتي عند قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً «1» . وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «2» زيادة بيان. وكما أرسل الحق تعالى الشياطين على الكافرين تزعجهم إلى المعاصي أرسل الملائكة والواردات الإلهية إلى المؤمنين تنهضهم إلى طاعة الله، وتزعجهم إلى السير لمعرفة الله. فالملائكة تحرك العبد إلى الطاعة، والواردات تزعجه إلى الحضرة، تخرجه عن عوائده وتدمغ له مِن علائقه، وعوائقه، حتى ينفرد لحضرة الحق:
وفي الحكم: «الوارد يأتي من حضرة قهّار، لأجل ذلك لا يصادمه شيء إلا دمغه بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» . وقال أيضًا: «متى وردت الواردات الإلهية عليك هدمت العوائد لديك «إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها» .
وقال القشيري على قوله: (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) : أي: تزعجهم إزعاجًا، فخاطر الشيطان يكون بإزعاج وظلمة، وخاطر الحقِّ يكون بَروْحٍ وسكون، وهذه إحدى الفوارق بينهما. هـ. قلت: ومن الفوارق أيضًا: أن خاطر الحق لا يأمر إلا بالخير مع برودة وانشراح في القلب وسكون وأناة.. وفي الحديث «العجلة من الشيطان، والأناة من الرحمن» «3» . هـ. بخلاف خاطر الشيطان فإنه لا يأمر إلا بالشر، وقد يأمر بالخير إذا كان يجرُّ به إلى الشر، وعلامته أن يكون فيه ظلمة ودَخن وعجلة وبطش، وقد استوفى الكلام عليهم في النصيحة الكافية. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مآل فريق الإيمان وفريق الضلال، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 85 الى 87]
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لَاّ يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87)
قلت: (يَوْمَ نَحْشُرُ) : إما ظرف لفعل مؤخر للإشعار بضيق العبارة عن حصره لكمال جماله أو فظاعته، والتقدير: يوم نحشر المتقين إلى الرحمن، ونسوق المجرمين، نفعل بالفريقين ما لا يفي به نطاق المقال، أو ظرف لا ذكر، و (وَفْداً) و (وِرْداً) : حالان.
(1) من الآية 10 من سورة فاطر.
(2)
من الآية 8 من سورة المنافقون.
(3)
أخرجه البيهقي فى السنن الكبرى (10/ 104) بتقديم وتأخير، من حديث أنس بن مالك، وعزاه فى مجمع الزوائد لأبى يعلى عن أنس، وقال: ورجاله رجال الصحيح.
يقول الحق جل جلاله: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ: نجمعهم إِلَى الرَّحْمنِ أي: إلى ربهم يغمرهم برحمته الواسعة، وَفْداً: وافدين عليه، كما يفد الوفود على الملوك، منتظرين لكرامتهم وإنعامهم. وعن عليّ كرّم الله وجهه: (لَمَّا نزلت هذه الآية، قلت: يا رسول الله، إني قد رأيت الملوك ووفودهم، فلم أر وفدًا إلا راكبًا، فما وفد الله؟ قال:«يا عليّ إذا حان المنصَرَفُ من بين يدي الله، تلقت الملائكة المؤمنين بنُوقٍ بيض، رِحالُهَا وأزِمَّتُها الذَهَبُ، على كل مركب حُلة لا تُساويها الدنيا، فيلبس كل مؤمن حلّة، ثم يستوون على مراكبهم، فتهوي بهم النوق حتى تنتهي بهم إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ» .
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ كما تُساق البهائم إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً: عطاشًا، فإن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش، أو كالدواب التي ترد الماء، أي: يوم نحشر الفريقين نفعل ما نفعل مما لا يفي به نطاق العبارة، لما يقع فيه من الدواهي الطامة، أو الكرائم العامة، أو: اذكر يوم نحشر الفريقين، على طريق الترغيب والترهيب.
وقوله تعالى: لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ: استئناف مبين لما فيه من الأمور الدالة على هوله، وضمير الواو: إما لجميع العباد المدلول عليهم بذكر الفريقين لانحصارهم فيها، أو إلى المتقين فقط، أو إلى المجرمين.
و (مَنِ اتَّخَذَ) : منصوب على الاستثناء، أو بدل من الواو، أي: لا يملك العباد أن يشفعوا لغيرهم إلا من استعد له بالتحلي بالإيمان والتقوى، ففيه ترغيب للعباد في تحصيل الإيمان والتقوى، المؤدي إلى نيل هذه الرتبة العليا. أولا يملك المتقون الشفاعة إلا شفاعة من اتخذ العهد بالإسلام والعمل الصالح، أو لا يملك المجرمون أن يشفع لهم إلا من كان منهم مسلمًا، فيشفع في مثله. فَمَن، على هذا الثالث، بدل من الواو فقط. والأول أحسن لعمومه.
الإشارة: ورود العباد على الله يوم القيامة يكون على قدر ورودهم إليه اليوم في الدنيا، فبقدر التوجه إليه اليوم تعظم كرامة وروده في الآخرة، فمن ورد على الله تعالى من باب الطاعة الظاهرة حملته صور الطاعات إلى الآخرة، ومن ورد من باب الطاعات القلبية حملته الأنوار إلى الفراديس العالية، ومن ورد من باب الطاعات