الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: إذا علمت أيها المؤمن أن الحق جل جلاله يغضب هذا الغضب الكلي على مَنْ أشرك مع الله، أو اعتقد فيه ما ليس هو عليه من التنزيه وكمال الكمال، فينبغي لك أن تخلص مَشربَ توحيدك من الشرك الجلي والخفي، علمًا وعقدًا وحالاً وذوقًا، حتى لا يبقى في قلبك محبة لشيء من الأشياء ولا خوف من شيء، ولا تعلق بشيء، ولا ركون لشيء، إلا لمولاك، وحينئذ يصفي مشرب توحيدك، وتكون عبدًا لله خالصًا حرًا مما سواه، ومهما بقي فيك شيء من محبة الهوى نقص توحيدك بقدره، ولم تصل إليه مادمت تميل إلى شيء سواه. وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه:
إنْ تُرِدَ وَصْلَنَا فَمَوْتكَ شَرْطٌ
…
لا يَنَالُ الوِصَالَ مَنْ فِيهِ فَضْلَه
فكن عبدًا لله حقيقة، وانخرط في سلك قوله: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً.
فحينئذ تكون حرًا مما سواه، ويملك الوجود بأسره، يكون عند أمرك ونهيك. وفي ذلك يقول القائل:
دَعَوْنِي لمُلْكِهم فلمَّا أجبتُهم
…
قالُوا دَعَوْنَاك للمُلْك لا للمِلك
وإذا فتحت عين القدرة وعين الحكمة وضعت كل شيء في محله، فتتنزه بعين القدرة في رياض الملكوت وبحار الجبروت، وتتنزه بعين الحكمة في بهجة الملك وأسرار الحكمة. فعين القدرة تقول: كل من في السموات والأرض نور من أنوار الرحمن، وسر من أسرار ذاته، وعين الحكمة تقول: كل من في السموات والأرض عبد مملوك تحت قهرية ذاته، فاعرف الضدين، وأنزل كل واحد في محله، تكنْ عارفًا بالله، فإنْ أردت أن تعرفه بضد واحد بقيت جاهلاً به.
فالحكمة تثبت العبودية صورة صونًا لكنز الربوبية، والقدرة تغيبك عنها بشهود أسرار الربوبية، وفي الحكم:«سبحان مَن ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية، وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية» .
فالعبودية لازمة من حيث العبد، والغيبة عنها واجبة من حيث الرب، فإثبات العبودية، حكمةً، فرق، والغيبة عنها في شهود أنوار الربوبية: جمع، فالعارف مجموع في فرقه، مفروق فى جمعه.
ولما ذكر قبائح الكفرة أتبعه بذكر محاسن المؤمنين، فقال:
[سورة مريم (19) : آية 96]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96)
قلت: لما استحقر الكفرةُ أحوالَ المؤمنين حتى قالوا: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا، أخبر الله تعالى المؤمنين وبشرهم أنهم سيعزهم ويلقى مودتهم في قلوب عباده.
يقول الحق جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ في قلوب الناس مودة وعطفًا، حتى يحبهم كل من سمع بهم، فيحبهم ويحببهم إلى عباده من أهل السموات والأرض، أي: سيحدث
لهم في القلوب مودةً من غير تعرض لأسبابها، سوى ما لهم من الإيمان والعمل الصالح، أو وُدًّا فيما بينهم، فيتحابون ويتواددون ويحبهم الله.
قال القشيري: يجعل في قلوبهم ودًّا لله، وهو نتيجة أعمالهم الخالصة، وفي الخبر:«لا يزال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى يحبني وأحبه» . والتعرض لعنوان الرحمانية لِمَا أنَّ الموعود من آثارها، وأن مودتهم رحمة بهم وبمن أحبهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلىّ رضي الله عنه:«قل اللهُمَّ اجْعَلْ لِي عِنْدكَ عَهْدًا، واجعل لِي في صُدُورِ المؤمِنِينَ مَوَدَّةً» فنزلت الآية «1» . وفي حديث البخاري وغيره: «إِذا أحَبَّ اللهُ عبدا قال لجبْريل: إني أُحبُ فُلانًا فأحِبَّه، فيُحِبَّهُ جبرِيلُ، ثم ينادي في أَهْلِ السَّماءِ إنَّ اللهَ قَدْ أحَبَّ فُلَانًا فأحِبُّوه، فيُحِبُّه أهلُ السماء، ثُمَّ يَضع لَهُ المحبة فِي الأرْض» «2» .
وقال قتادة: (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) قال: أي والله ودًا في قلوب أهل الإيمان. وإن هرم بن حيان يقول:
ما أقبل عبدٌ بقلبه على الله إلا أقبل الله بقلوب أهل الإيمان إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. قلت: ولفظ الحديث: «ما أقْبَلَ عبدٌ بقلْبهِ إلى اللهِ عز وجل إلا جَعلَ الله قلوبَ المؤمنينَ تَفِدُ إليه بالودِّ والرحمَةِ، وكان الله إليه بكل خيرٍ أسرَعَ» «3» . نقله في الترغيب. وفي حديث آخر: «يُعطي المؤمنُ ودًّا في صدور الأبرار، ومهابة فى صدور الفجار» . فَتَوَدُّد الناس للعبد دليل على قبوله عند مولاه. أنتم شهداء الله في أرضه. وفي بعض الأثر:
«لا يموت العبد الصالح حتى يملأ مسامعه مما يُحب، ولا يموت الفاجر حتى يملأ مسامعه مما يكره» . بالمعنى.
وأتى الحق جل لجلاله بالسين لأن السورة مكية، وكانوا إذ ذلك ممقوتين عند الكفرة، فوعدهم ذلك، ثم أنجزه لهم حين جاء الإسلام، فعَزوا وانتصروا، وتعشقت إليهم قلوب الخلق من كل جانب، كما هو مسطر في تواريخهم. وقيل: الموعود في القيامة، حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد كأنها أنوار الشمس الضاحية «4» ، ولعل إفراد هذا بالوعد من بين مالهم من الكرامات السنية لأن الكفرة سيقع بينهم يومئذ تقاطع وتباغض وتضاد. والله تعالى أعلم.
(1) عزاه فى المنثور (4/ 512) لابن مردويه والديلمي، عن البراء.
(2)
أخرجه البخاري فى (بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة) ، ومسلم فى (البر والصلة، باب إذا أحب الله عبدا) من حديث أبى هريرة.
(3)
أخرجه الطبراني فى الأوسط (5/ 186 ح 5025) بزيادة فى أوله، من حديث أبى الدرداء، وقال الهيثمي فى المجمع:
(10/ 247) : رواه الطبراني فى الكبير والأوسط. وفيه محمد بن سعيد بن حسان المصلوب، وهو كذاب.
(4)
التعبير بالاستقبال بالنسبة إلى الله تحقيق، كالماضى، والحاضر، فليس عند الله زمن كما هو عندنا. والأحسن فى تأويل الآية أن نجعل السين حرف توكيد. والله أعلم.