الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأحب أن يأكل من الشجرة ليتناول الملَكِية، التي هي في ظنه أفضل، لا سيما وقد قال سبحانه: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «1» ، قال آدمُ عليه السلام:(ما ظننتُ أن أحدًا يحلف بالله كاذبًا)، فكان كما قال الله سبحانه:
فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ. هـ.
وسُئل ابن عطاء عن قوله تعالى: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ؟ فقال: قال آدم عليه السلام: يا رب لِمَ أدَّبتني، وإنما أكلتُ من الشجرة طمعًا في الخلود في جوارك؟ فقال الله: يا آدم طلبتَ الخلود من الشجرة لا مني، والخلود بيدي وملكي، فأشركْتَ بي، وأنت لا تعلم، ولكن نبهتك بالخروج من الجنة حتى لا تنساني في وقت من الأوقات. هـ.
والحاصل: أنه إمَّا أن يُحمل النسيان على حقيقته، ويكون معه وقوع الأكل بمطالعة القدر وقبضة الجبر، ولا يعارضه: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ لأنه اتفق ذلك صورة وظاهرًا، مع شهود الجبر باطنا، وإمّا أن يُحمل النسيان على الترك، بتأويل أن النهي ليس على التحتم، فتركه لما أمل من جوار الحق وقربه في الأكل، فقدمه لأنه أرجح عنده. قاله المحشي.
وقوله تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ
…
الآية، يؤخذ منه سد باب التأويلات والرخص في الأمر الممنوع شرعًا، فإن أُبيح بعضه ومُنع البعض فلا توسعة، فلأن تترك مباحًا خير من أن تقع في محرم، وقد كان السلف يتركون مائة جزء من المباح، خوفًا من الوقوع في المحرم. والله الهادي إلى سواء الطريق.
ثم قال تعالى:
[سورة طه (20) : الآيات 122 الى 127]
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126)
وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127)
(1) الآية 21 من سورة الأعراف.
يقول الحق جل جلاله: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ بما ذكر من أكل الشجرة فَغَوى أي: ضل عن مطلوبه، الذي هو الخلود، بل ترتب عليه نقيضه، فكان تأميل ذلك باطلاً فاسدًا لأنه خلاف القدر، أو عن الرشد، حيث اغتر بقول العدو. وقال الكواشي: فعل فعلاً لم يكن له فعله، أو أخطأ طريق الحق، حيث طلب الخلد بأكل المنهي عنه، فخاب ولم ينل مراده. هـ. وفي وصفه عليه السلام بالعصيان والغواية، مع صغر زلته، تعظيم لها، وزجر بليغ لأولاده عن أمثالها.
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ، أي: اصطفاه وقرّبه إليه، بالحمل على التوبة والتوفيق لها. وفي التعرُّض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره، مزيد تشريف له عليه السلام، يعني: آدم. فَتابَ عَلَيْهِ أي: قَبِلَ توبته حين تاب هو وزوجته، قائلين: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا
…
«1» الآية. وَهَدى أي: هداه إلى الثبات على التوبة والتمسك بأسباب العصمة. وإفراد آدم عليه السلام بقبول توبته واجتبائه لأصالته في الأمور، واستلزام قبول توبته لقبول توبتها. الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ «2» .
قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً، وهو استئناف بياني، كأنَّ سائلاً قال: فما قال تعالى بعد قبول توبته؟ فقيل: قال له ولزوجته: (اهْبِطا مِنْها) أي: انزلا من الجنة إلى الأرض، حال كونكم بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي: متعادين في أمر المعاش، كما عليه الناس من التجاذب والتحارب والاختلاف في الدين. والجمع لأنهما أصل الذرية ومنشأ الأولاد. وفي اللباب: ولما أُهبطوا إلى الأرض ألقى آدمُ يده تحت خده، وبكى مائة سنة، وألقت حواءُ يدها على رأسها، وجعلت تصيح وتصرخ، فبقيت سنَّة في النساء. ولم يزل آدم يبكي حتى صار بخديه أخاديد من كثرة الدموع، وجرى من عينيه على الأرض جدولان، يجريان إلى قيام الساعة. وأُهبط آدم على ورقة من ورق الجنة، كان يتستر بها، وفي يده قبضة من ريحان الجنة، فلما اشتغل بالبكاء أدارتها الرياحُ في أرض الهند، فصار أكثر نباتها طيبًا. انظر بقية كلامه.
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً أي: هداية من رسول وكتاب يهدي إلى الوصول إليَّ، أي: سيأتيكم مني رسل وكتاب. والخطاب لهما بما اشتملا عليه من ذريتهما. فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ بأن آمن بالرسل وبما جاءوا به من عند الله فَلا يَضِلُّ في الدنيا وَلا يَشْقى في الآخرة. ووضع الظاهر موضع المضمر يعني: من اتبع هداي، مع الإضافة إلى ضميره تعالى لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه. وعن ابن عباس رضي الله عنه:(من قرأ الفرقان، واتبع ما فيه، هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، وذلك لأن الله تعالى يقول: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ «3» أي: كتابي ورسولي، فَلا يَضِلُّ في الدنيا، وَلا يَشْقى في الآخرة.) وفي لفظ آخر: (أجار الله
(1) من الآية 23 من سورة الأعراف.
(2)
من الآية 34 من سورة النساء.
(3)
أخرجه الطبري فى التفسير (16/ 255) موقوفا، وعزاه السيوطي فى الدر (4/ 556) لابن أبى شيبة والطبراني وأبى نعيم فى الحلية وابن مردويه، مرفوعا.
تابع القرآن أن يضل في الدنيا ويشقى في الآخرة) . قال ابن عرفة: والعطف بالفاء في قوله: (فَإِمَّا..) الخ، إشارة إلى أن العداوة سبب في أن يبعث لهم الرسل يهدونهم إلى طريق الحق، فضلاً منه تعالى، ولذلك أتى «بإن» ، دون «إذا» المقتضية للتحقيق الموهم للوجوب. فانظره.
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي عن القرآن، أو عن الهُدى الذاكر لي والداعي إليّ، فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً:
ضيقًا، مصدر وصف به، ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث، يقال: منزل ضنك وعيشة ضنك. وقرئ: «ضنكى» كسكرى. وإنما كان عيشُهُ ضيقًا لأن مجامع همته، ومطامح نظره مقصورة على أغراض الدنيا، وهو متهالك على ازديادها، وخائف من انتقاصها، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة، فإنَّ نور الإيمان يُوجب له القناعة، التي هي رأس الغنى وسبب الراحة، فيحيى حياة طيبة. وقيل: هو عذاب القبر. ورُوي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو سعيد الخدري: «يُضيق عليه قبره، حتى تختلف أضلاعه، ويسلط عليه تسعة وتسعون تنينا
…
» الحديث، وقيل: الصبر على الزقوم والضريع والغسلين.
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى: فاقد البصر كقوله: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً «1» .
لا أعمى عن الحجة كما قيل. قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً في الدنيا؟ قالَ كَذلِكَ أي: مثل ذلك فعلتَ أنتَ أَتَتْكَ آياتُنا أي: حجتنا النيرة على أيدي رسلنا فَنَسِيتَها أي: عميتَ عنها، وتركتها ترك المنسي الذي لا يذكر قط، وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى: تُترك في العمى والعذاب، جزاء وفاقًا. وحشره أعمى لا يدل على دوامه، بل يزيله عنه فيرى أهوال الموقف ومقعده، وكذلك الصمم والبكم يزيلهما الله تعالى عنهم. أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا «2» ، فيومُ القيامة ألوان. ثم قال تعالى: وَكَذلِكَ أي: مثل ذلك الجزاء الموافق للجنايات. نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وتَعدى بالانهماك في الشهوات، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ، بل كذّب بها وأعرض عنها، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ على الإطلاق، أو عذاب النار، أَشَدُّ وَأَبْقى من ضنك العيش، أو منه ومن الحشر أعمى، عائذًا بالله من جميع ذلك.
الإشارة: قوله تعالى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ، اعلم أن العصيان الحقيقي هو عصيان القلوب، كالتكبر على عباد الله وتحقير شيء من خلق الله، وكالاعتراض على مقادير الله، وعدم الرضا بأحكام الله. قال بعض الصوفية:(أذنبتُ ذنبًا فأنا أبكي منه أربعين سنة، قيل: وما هو؟ قال: قلت لشيء كان: ليته لم يكن) . وأما معصية
(1) من الآية 97 من سورة الإسراء.
(2)
من الآية 38 من سورة مريم. [.....]
الجوارح، إن لم يكن معها إصرار، فقد تُوجب القرب من الكريم الغفار «معصية أورثت ذُلاً وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزّا واستكبارًا» ، وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول. وتأمل معصية إبليس حيث كانت من القلب أورثت طردًا وإبعادًا، ومخالفة آدم حيث كانت بالجوارح أورثت قُربًا واجتباء.
والحاصل: أن كل ما يَردُّ العبد إلى مولاه، ويحقق له العبودية والانكسار، فهو شرف له وكمال، وكل ما يُقوي وجود النفس ورفعتها فهو نقص وإبعاد، كائنًا ما كان، فالعصمة والحِفظة إنما هي من المعاصي القلبية، أو من الإصرار، وأما معاصي الجوارح فيجري على العبد ما كتب، ولا تنقصه، بل تكمله، كما تقدم. فالتنزيه إنما يكون من النقائص، وهي التي تُوجب البعد عن الحق، لا مما يؤدي إلى الكمال، وبهذا تفهم أن ما وقع من الأنبياء- عليهم السلام مما صُورته المعصية، ليس بنقص، إنما هو كمال. وكذا ما يصدر من الأولياء، على سبيل الهفوة، فتأمله، ولا تبادر بالاعتراض، حتى تصحب الرجال، فيعلموك النقص من الكمال.
قال الواسطي: العصيان لا يُؤثر في الاجتبائية، وقوله: وَعَصى أي: أظهر خلافًا، ثم أدركته الاجتبائية، فأزالت عنه مذمة العصيان، ألا ترى كيف أظهر عذره بقوله: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً
. هـ. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه: (نعمت المعصية أورثت الخلافة) .
واعلم أن آدم عليه السلام قد أهبط إلى الأرض قبل أن يخلق، قال تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «1» فقد استخلفه قبل أن يخلفه، لكن حكمته اقتضت وجود الأسباب، فكان أكله سببًا في نزوله للخلافة والرسالة وعمارة الأرض، فهو نزول حسًا، ورفعة معنى، وكذلك زلة العارف تنزله لشرف العبودية، فيرتفع قدره عند الله.
وقوله تعالى: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ، هذا فيمن غلبت عليه الطينية الإمشاجية، وأما من غلبت عليه الروحانية فهم إخوان متحابون، أخلاء متقون، قال تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ «2» .
وقوله تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) أي: داع يدعو إليَّ، ويهدي إلى معرفتي ودخول حضرتي، فمن تبعهم دخل تحت تربيتهم، فلا يضل ولا يشقى، بل يهتدي ويسعد السعادة العظمى. ومن أعرض عن ذكرهم ووعظهم، وتنكب عن صحبتهم، فإن له معيشة ضنكًا، مصحوبة بالحرص والطمع، والجزع والهلع، ونحشره يوم القيامة أعمى عن شهود ذاتنا، فلا يرى إلا الأكوان الحسية، والزخارف الحسية دون أسرار الذات القدسية. قال رب لم حشرتني أعمى عن شهود أسرار المعاني، عند رؤية الأواني، وقد كنت بصيرا في الدنيا ببصر الحس؟ قال: كذلك أتتك آياتنا، وهم الأولياء العارفون، فنسيتها، ولم تحتفل بشانها، وكذلك اليوم تُنسى لأن المرء يموت على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه.
(1) من الآية 30 من سورة البقرة.
(2)
الآية 67 من سورة الزخرف.