الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم شرع في الرد على النصارى، وعلى من أشرك معه غيره، فقال تعالى:
[سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 40]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)
قلت: وَإِنَّ اللَّهَ: عطف على قوله: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) فيمن كسر، وعلى حذف اللام فيمن فتح، أي: ولأن الله ربي وربكم. وقال الواحدي وأبو محمد مكي: عطف على قوله: (بِالصَّلاةِ) أي: أوصاني بالصلاة وبأن الله
…
الخ: وقال المحلي:
بالفتح، بتقدير اذكر، وبالكسر بتقدير «قل» . و (قَوْلَ الْحَقِّ) : مصدر مؤكد لقال، فيمن نصب، وخبر عن مضمر، فيمن رفع، أي: هو، أو هذا. و (إِذا قَضى) : بدل من (يَوْمَ الْحَسْرَةِ)، أو ظرف للحسرة. و (هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) : جملتان حاليتان من الضمير المستقر في الظرف في قوله: (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي: مستقرين في الضلال وهم في تينك الحالتين.
يقول الحق جل جلاله: ذلِكَ المنعوت بتلك النعوت الجليلة، والأوصاف الحميدة هو عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، لا ما يصفه النصارى به من وصف الألوهية، فهو تكذيب لهم على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني، حيث جعله موصوفًا بأضداد ما يصفونه به. وأتى بإشارة البعيد للدلالة على علو رُتبته وبُعد منزلته، وامتيازه بتلك المناقب الحميدة عن غيره، ونزوله منزلة المشاهد المحسوس.
هذا قَوْلَ الْحَقِّ، أو قال عيسى قَوْلَ الْحَقِّ الذي لا ريب فيه، وأنه عبد الله ورسوله، الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أي: يشكون أو يتنازعون، فيقول اليهود: ساحر كذاب، ويقول النصارى: إله، أو ابن الله. مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ أي: ما صح، أو ما استقام له أن يتخذ ولدًا، سُبْحانَهُ وتعالى عما يقولون عُلوّاً كبيراً، فهو تنزيه عما بهتوه، ونطقوا به من البهتان، وكيف يصح أن يتخذ الله ولدًا، وهو يحتاج إلى أسباب ومعالجة، وأمره تعالى أسرع من لحظ العيون، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
ثم قال لهم عيسى عليه السلام: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ، فهو من تمام ما نطق به في المهد، وما بينهما اعتراض، للمبادرة للرد على من غلط فيه، أي: فإني عبد، وإن الله ربي وربكم فاعبدوه وحده ولا تُشركوا معه غيره، هذا الذي ذكرتُ لكم من التوحيد صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا يضل سالكه ولا يزيغ متبعه.
قال تعالى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، تنبيهًا على سوء صنيعهم، بجعلهم ما يُوجب الاتفاق منشأ للاختلاف، فإن ما حكى من مقالات عيسى عليه السلام، مع كونها نصوصًا قاطعة في كونه عبده تعالى ورسوله، قد اختلفت اليهود والنصارى بالتفريط والإفراط، وفرّق النصارى، فقالت النسطورية: هو ابن الله، وقالت اليعقوبية: هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء، وقالت المِلْكَانية: هو ثالث ثلاثة. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وهم: المختلفون فيه بأنواع الضلالات. وأظهر الموصول في موضع الإضمار إيذانًا بكفرهم جميعًا، وإشعارًا بِعِلِّيَّةِ الحكم، مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي: ويل لهم من شهود يوم عظيم الهول والحساب والجزاء، وهو يوم القيامة، أو: من وقت شهوده أو مكانه، أو من شهادة اليوم عليهم، وهو أن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء- عليهم السلام وألسنتُهم وأيديهم وأرجلهم، بالكفر والفسوق.
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ أي: ما أسمعهم وما أبصرهم، تعجب من حدة سمعهم وإبصارهم يومئذ. والمعنى: أن أسماعهم وأبصارهم يَوْمَ يَأْتُونَنا للحساب والجزاء جدير أن يُتعجب منها، بعد أن كانوا في الدنيا صمًا عميًا. أو:
ما أسمعهم وأطوعهم لما أبصروا من الهدى، ولكن لا ينفعهم يومئذ مع ضلالهم عنه اليوم، فقد سمعوا وأبصروا، حين لم ينفعهم ذلك. قال الكلبي: لا أحد يوم القيامة أسمع منهم ولا أبصر، حين يقول الله لعيسى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» . هـ. ويحتمل أن يكون أمر تهديد لا تعجب، أي: أسمعهم وأبصرهم مواعيد ذلك اليوم، وما يحيق بهم فيه، فالجار والمجرور، على الأول، في موضع رفع، وعلى الثاني: نصب. لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ أي: في الدنيا، فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: لا يدرك غايته، حيث غفلوا عن الاستماع والنظر بالكلية. ووضع الظالمين موضع الضمير للإيذان بأنهم فى ذلك ظالمون لأنفسهم حيث تركوا النظر.
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ يوم يتحسر الناس قاطبة، أما المسيء فعلى إساءته، وأما المحسن فعلى قلة إحسانه، إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أي: فرغ من يوم الحساب، وتميز الفريقان، إلى الجنة وإلى النار.
رُوِيَ أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن ذلك، فقال:«حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح، فيُذبح، والفريقان ينظرون، فينادي يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، وأهل النار غمًا إلى غمهم، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ، وأشار بيده إلى الدنيا» «2» قال مقاتل: (لولا ما قضى الله من تعميرهم فيها، وخلودهم لماتوا حسرة حين رأوا ذلك) . وَهُمْ فى
(1) الآية 116 من سورة المائدة.
(2)
أخرجه البخاري فى (التفسير، باب: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) . ومسلم فى (الجنة وصفة نعيمها، باب: النار يدخلها الجبارون) ، من حديث أبي سعيد الخدري- رضى الله عنه-.