الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 72]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)
قلت: (أَإِذا) : ظرف، والعامل فيه محذوف، أي: أأُخرج إذا مت، لا المتأخر عن اللام لأنه لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، إلا أن يرخص في الظروف. واللام في «لَسَوْفَ» ليست للتأكيد، فإنه مُنْكِرٌ، وكيف يحقق ما ينكر، وإنما كلامه حكاية لكلام النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه الذي قال: والله إن الإنسان إذا مات لسوف يُخرج حيًّا، فأنكر الكافر ذلك وحكى قوله، فنُزلت الآية على ذلك، قاله الجرجاني: و (الشَّياطِينَ) : عطف على ضمير المنصوب، أو مفعول معه.
و (جِثِيًّا) : حال من ضمير (لَنُحْضِرَنَّهُمْ) البارز، أي: لنحضرنهم جاثين، جمع جاث، من جثى إذا قعد على ركبتيه، وأصله:«جثوو» بواوين، فاستثقل اجتماعهما بعد ضمتين، فكسرت الثاء تخفيفًا، وانقلبت الواو الأولى ياء لانكسار ما قبلها، فاجتمعت واو وياء، وسبقت إحداهما بسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الأولى في الثانية، ومن قرأ بكسر الجيم: فعلى الإتْبَاعِ.
و «أَيُّهُمْ» : مبني على الضم عند سيبوبه، لأنه موصول، فحقه البناء كسائر الموصولات، لكنه أعرب في بعض التراكيب للزوم الإضافة، فإذا حذف صَدْرُ صِلَتِهِ زاد نقصُه فقوي شبه الحرف فيه، وهو منصوب المحل بلننزعن، وقرئ منصوبًا على الإعراب، ومرفوعًا عند الخليل وغيره بالابتداء، وخبره:«أَشَدُّ» ، والجملة محكية، والتقدير:
لننزعن من كل شيعة الذين يُقال لهم أيهم أشد
…
الخ. وقال يونس: علق عنها الفعل وارتفعت بالابتداء، و (عِتِيًّا) و (صِلِيًّا) أصلهما: عتوى وصلوى، من عتى وصلى، بالكسر والفتح، فاعلاً بما تقدم.
يقول الحق جل جلاله: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أي: جنس الإنسان، والمراد الكفرة، وإسناد القول إلى الكل لوجود القول فيما بينهم، وإن لم يقله الجميع، كما يقال: بنو فلان قتلوا فلانًا، وإنما القاتل واحد، وقيل: القائل: أُبيُّ بن خَلَف، فإنه أخذ عظامًا بالية، ففتتها، وقال: يزعم محمد أنا نُبعث بعد ما نموت ونصير إلى هذا الحال، فنزلت.
أي: يقول بطريق الإنكار والاستبعاد: أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أي: أأبعث من الأرض بعد ما مِتُّ وأُخرج حيًا؟ قال تعالى: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ، من الذِّكر الذي يُراد به التفكر، ولذلك قرىء بالتشديد من
التذكير. والإظهارُ في موضع الإضمار لزيادة التقرير والإشعار بأن الإنسانية من دواعي التفكر فيما جرى عليها من شؤون التكوين، فإذا ترك التفكر التحق بالبهائم، فهلاّ يذكر أصله!، وهو أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي: من قبل الحالة التي فيها، وهي حالة حياته، وَلَمْ يَكُ شَيْئاً أي: والحال أنه لم يك شيئًا أصلاً، وحيث خلقناه وهو في تلك الحال فلأن نبعث الجمع بتفرقاته أولى وأظهر لأن الإعادة أسهل من البدء.
قال تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ أي: لنجمعنهم بالسّوق إلى المحشر بعد ما أخرجتهم من الأرض. وإقسامه سبحانه بربوبيته مضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسلام لتحقيق الأمر، والإشعار بِعِلِّيَّتِهِ، وتفخيم شأنه، ورفع منزلته صلى الله عليه وسلم، وفيه إثبات البعث بالطريق البرهاني على أبلغ وجه وآكده، كأنه أمر واضح غني عن التصريح به، وإنما المحتاج إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال، أي: حيث ذكر الحشر وما بعده. ولم يصرح بنفس البعث لتحقق وضوحه، وإنما قال: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ أي: نجمعهم وَالشَّياطِينَ المغوين لهم، إلى المحشر، وقيل: إن الكفرة يُحشرون مع قرنائهم من الشياطين التي كانت تغويهم، كل منهم مع شيطانه في سلسلة، ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا: باركين على ركَبِهم لما يدهمُهم من هول المطلع، والجثو: جلسة الذليل الخائف.
والآية كما ترى، صريحة في الكفرة، فهم الذين يُساقون من الموقف إلى شاطىء جهنم، جُثاة إهانة بهم، أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من شدة الخوف. وأما قوله تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً «1» فهي عامة للناس في حال الموقف قبل التواصل إلى الثواب والعقاب، فإن أهل الموقف جاثون على الرُّكب، كما هو المعتاد في مقام التفاؤل والخصام، قلت: ولعل هذا فيمن يُناقش الحساب، وأما غيرهم فيلقى عليهم سحابة كنفه، ثم يقررهم بذنوبهم ويسترهم، كما في الحديث.
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أي: من كل أمة تشيعت دينًا من الأديان، أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا أي: من كان منهم أعصى وأعتى، فيطرحهم فيها. قال ابن عباس: أي: أيهم أشد جرأة، وقال مجاهد: فجورًا وكذبًا، وقال مقاتل: علوًا، أو غلوًا في الكفر، أو كبرًا، وقال الكلبي: قائدهم ورأسهم، أي: فيبدأ بالأكابر فالأكابر بالعذاب، ثم الذي يليهم جرمًا. وفي ذكر الأشدية تنبيه على أنه تعالى يعفو عن بعض أهل العصيان من غير الكفرة، إذا قلنا بعموم الآية، وأما إذا خصصناها بالكفرة، فالأشدية باعتبار التقديم للعذاب.
قال تعالى: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا أي: أولى بصليها وأحق بدخولها، وهم المنتزعون الذين هم أشدهم عتوًا، أو رؤوسهم، فإن عذابهم مضاعف لضلالهم وإضلالهم.
(1) الآية 28 من سورة الجاثية.
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها، فيه التفات لإظهار مزيد الاعتناء، وقرىء:«وَإِنَّ مِنْهُمْ» . ويحتمل أن يكون الخطاب لجميع الخلق، أي: وإن منكم أيها الناس إِلَّا وارِدُها أي: واصلها وحاضرها، يمرُ بها المؤمنون وهي خامدة، وتنهار بغيرهم. وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن ذلك فقال: «إِذَا دَخَلَ أَهْلَ الجَنَّة الجَنَّة قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:
أَليْسَ قَدْ وعدنَا ربُّنا أَنْ نَرِدَ النَّارَ؟ فَيُقالُ لَهُمْ: قَدْ وَرَدْتُمُوهَا وَهِيَ خَامِدَةٌ» . وأما قوله تعالى: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ فالمراد به الإبعاد عن عذابها، وقيل: ورودها: الجواز على الصراط بالمرور عليها.
وعن ابن مسعود: الضمير في (وارِدُها) للقيامة، وحينئذ فلا يعارض: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها «1» ، ولا ما جاء فيمن يدخل الجنة بغير حساب، ولا مرور على الصراط، فضلاً عن الدخول فيها، على أنه اختلف في الورود، فقيل: الدخول وتكون بردًا وسلامًا على المؤمن. وقيل: المرور كما تقدم، وقيل: الإشراف عليها والاطّلاع.
قال القشيري: كلٌّ يَرِدُ النارَ، ولكن لا ضيْرَ منها ولا إحساس لأحدٍ إلا بمقدار ما عليه من السيئات، والزلل، فأشدُّهم فيها انهماكًا: أشدهم فيها بالنار اشتعالاً واحتراقًا، وأما بريء الساحة، نقي الجانب بعيد الذنوب، فكما في الخبر:
كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا أي: كان وُرودهم إياها أمرًا محتومًا أوجبه الله تعالى على ذاته، وقضى أنه لا بد من وقوعه. وقيل: أقسم عليه، ويشهد له:«إلا تحلة القسم» «2» .
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا الكفرَ والمعاصي، بأن تكون النار عليهم بردًا وسلامًا، على تفسير الورود بالدخول، وعن جابر أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الوُرودُ الدُّخولُ، لا يَبْقَى بَرٌّ ولا فَاجِرٌ إِلَاّ دخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى المُؤْمِنِينَ بَرْدًا وسَلَامًا، كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيم، حَتَّى إنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهِمْ» «3» . وإن فسرنا الورود بالمرور، فنجاتهم بالمرور عليها والسلامة من الوقوع فيها، وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا: باركين على ركبهم، قال ابن زيد: الجثي شر الجلوس، لا يجلس الرجل جاثيًا إلا عند كرب ينزل به. هـ.
(1) من الآية 101 من سورة الأنبياء.
(2)
يقصد حديث: «لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار، إلا تحلة القسم» أخرجه البخاري فى (الأيمان والنذر، باب قول الله تعالى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ» ) ومسلم فى (البر والصلة، باب: فضل من يموت له ولد فيحتسبه) .
(3)
أخرجه أحمد فى المسند (3/ 329) والحاكم فى المستدرك (الأهوال 4/ 587) ، والبيهقي فى الشعب (1/ 336)، من حديث جابر ابن عبد الله. والحديث: صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي فى المجمع (7/ 55) : رواه أحمد، ورجاله ثقات.
الإشارة: من أراد كرامة الآخرة فَلْيُرَبِّ يقينه فيها، حتى تكون نصب عينيه، فإنه يرد على الله كريمًا. ومن أراد السلامة من أهوالها فليخفف من أوساخها وأشغالها، ويلازم طاعة الله واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن أراد سرعة المرور على الصراط فليلزم اليوم اتباع الصراطِ المستقيم، فبقدر ما يستقيم عليها تستقيم أقدامه على الصراط، وبقدر ما يزل عنها يزلُّ عن الصراط.
قال في الإحياء، لمَّا تكلم على العدل في الكيل والوزن، قال بعد كلامه: وكل مكلف فهو صاحب موازين في أفعاله وأقواله وخطراته، فالويل له إن عدل عن العدل، ومال عن الاستقامة، ولولا تعذُّر هذا واستحالته لما ورد قوله تعالى:(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها..) الآية، فلا ينفك عبدٌ ليس معصومًا عن الميل عن الاستقامة، إلا أن درجات الميل تتفاوت تفاوتًا عظيمًا، فبذلك تتفاوت مدة إقامتهم في النار إلى أوان الخلاص، حتى لا يبقى بعضُهم إلا بقدر تحلة القسم، ويبقى بعضهم ألفًا وألوف سنين، نسأل الله تعالى أن يقربنا من الاستقامة والعدل، فإن الاستداد على متن الصراط المستقيم من غير ميل عنه غير مطموع فيه فإنه أدق من الشعرة، وأحدّ من السيف، ولولاه لكان المستقيم عليه لا يقدر على جواز الصراط الممدود على متن النار، الذي من صفته أنه أدق من الشعر، وأحدّ من السيف، وبقدر الاستقامة على الصراط المستقيم يخِف مرور العبد يوم القيامة على الصراط. هـ.
وقال الترمذي الحكيم: يجوز الأولياء والصديقون وهم لا يشعرون بالنار، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ «1» ، وإنما بَعُدوا عنها لأن النور احتملهم واحتوشهم، فهم يمضون في النار، حتى إذا خرجوا منها قال بعضهم لبعض: أليس قد وُعدنا النار، فذكر ما تقدم. ثم قال: فأما ضجة النار فمن بردهم، وذلك أن الرحمة باردة تطفئ غضب الرب، فبالرحمة نالوا النور، حتى أشرق في قلوبهم وصدورهم، فكان نوره في قلوبهم، والرحمة مظلة عليهم، فخمدت النار من بردهم عند ما لقُوهَا، فضجت من أجل أنها خلقت منتقمة، فخافت أن تضعف عن الانتقام. ولذلك رُوي أنها تقول:«جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورُك لهبي» . «2» هـ.
وقال الورتجبي: إذا كان جمال الحق مصحوبهم، فلا بأس بالوقوف في النيران، فإن هناك أهل الجنان.
إذا نزلت سلمى بواد فماؤها
…
زلال وسَلسال، وسيحانها وِرْدُ. هـ.
وقال جعفر الصادق: لولا مقاربة النفوس ما دخل أحد النار، فلما فارقتهم نفوسهم أوردهم النار بأجمعهم، فمَنْ كان أشد إعراضًا عن خبث النفس كان أسرع نجاة من النار، ألا ترى الله يقول:(ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) . هـ. قلت.
(1) من الآية 101 من سورة الأنبياء.
(2)
رواه أبو نعيم فى الحلية (9/ 329) ، والخطيب فى تاريخ بغداد (5/ 194) ، والطبراني فى الكبير، وابن عدى فى الكامل، والحكيم الترمذي فى نوادر الأصول، وفى سنده: سليم بن منصور بن عمار، وهو ضعيف، انظر: مجمع الزوائد (10/ 360) ، وكشف الخفاء (1/ 373- 374) .