الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله: بِالرُّوحِ أي: بالوحي، أو القرآن فإنه سبب حياة القلوبَ والأرواحَ الميتة بالجهل والحجاب، أو سبب حياة الدين بعد موته واندراسه بالكفر فإن الوحي يقوم في الدين مقام الروح من الجسد. يُنزل ذلك مِنْ أَمْرِهِ أي: من أجل أمره وبيان شأنه، أو بأمره وإذنه، عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أن يصطفيه للرسالة، قائلاً لهم:
أَنْ أَنْذِرُوا: خوفوا أهل الشرك، أو أعْلِموا عبادي أَنَّهُ أي: الأمر والشأن، لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ بترك الكفر والمعاصي، أي: اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية، بأن تُوحدوه، وتطيعوه فيما أمر به.
قال البيضاوي: والآية تدل على أن نزول الوحي بواسطة الملائكة، وأن حاصله: التنبيه على التوحيد، الذي هو القوة العلمية، والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كمالات القوة العملية. وأن النبوة عطائية- أي: لا كسبية-، والآيات التي بعدها دليل على وحدانيته، من حيث إنها تدل على أنه تعالى هو الموجد لأصول العالم وفروعه، على وفق الحكمة والمصلحة، ولو كان له شريك لقَدَرَ على ذلك، فيلزم التمانع. هـ.
الإشارة: قوله تعالى: بِالرُّوحِ: قال الورتجبي: الروح: الوحي الإلهي، سماه بالروح لأنه كلامه صدر من ذاته، وهو حياة قلوب الصديقين من المكلَّمين والمحدَّثين، وهو سبب حياة قلوب المؤمنين، يحييهم بعلمه من موت الجهالة. هـ.
وقال القشيري في قوله: عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ: على الأنبياء بالوحي والرسالة، وعلى أسرار أرباب التوحيد، وهم المُحَدَّثُون بالتعريف والعلم. فالتعريف للأولياء من حيث الإلهام والخواطر، أي: الواردات. وإنزال الملائكة على قلوبهم غير ممنوعٍ، ولكنهم لا يُؤْمَرُون أن يتكلموا بذلك، ولا يَحْمِلون الرسالة إلى الخلق. هـ.
قلت: وكأنه ينظر إلى قوله- عليه الصلاة والسلام: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» ، فهم يشاركون الأنبياء في الوحي الإلهامي، ولا يبلغون ذلك إلا لمن صدقهم وتبعهم في طريقهم. والله تعالى أعلم.
ثم عرّف بنفسه، بما أظهر من تجلياته العلوية والسفلية، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 3 الى 9]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَاّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
قلت: (وَالْأَنْعامَ) : منصوب بمحذوف، يفسره:(خَلَقَها) ، أو معطوف على «الإنسان» ، و (خَلَقَها لَكُمْ) : بيان لما خُلقتُ لأجله، وما بعده تفصيل له. و (مِنْها تَأْكُلُونَ) : إنما قدَّم المعمول للمحافظة على رؤوس الآي، أو: لأن الأكل منها هو المعتمد عليه في المعاش، وأما الأكل من غيرها من سائر الحيوانات المأكولات فعلى سبيل التداوي والتفكه. قاله البيضاوي. قلت: ولعله، عند مالك، للاختصاص، أي: منها تأكلون لا من غيرها إذ لا يؤكل عنده غيرها من البهائم الإنسية.
وقوله: (لَكُمْ) : يحتمل أن يتعلق بما قبلها أو بما بعدها، ويختلف الوقف باختلاف ذلك. (إِلَّا بِشِقِّ) : فيه لغتان:
الكسر والفتح، بمعنى التعب والكلفة، وقيل: المفتوح مصدر شَقَّ الأمرُ عليه، أي: صَعُبَ، والمكسور بمعنى: النصف، كأنه ذهب نصف قُوَّتِهِ بالتعب. (وَالْخَيْلَ) : عطف على «الْأَنْعامَ» . و (زِينَةً) : مفعول من أجله، عطف على موضع «لِتَرْكَبُوها» : أي: للركوب والزينة، أو مفعول مطلق، أي: لتتزينوا بها زينة.
يقول الحق جل جلاله: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ: أوجدهما بِالْحَقِّ أي: ملتبسًا بالحق لتدل على وحدانية الحق، وكمال قدرته وباهر حكمته، حيث أوجدهما على مقدار مخصوص، وشكل بديع، وأوضاع مختلفة، وهيئات متعددة. أو: خلقهما بقضائه وتدبيره الحق، لا بمشاركةِ وتدبيرِ أحد معه، ولا بمعاونة شريك ولا ظهير، ولذلك نزه نفسه بقوله: تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، كما نزه نفسه، ابتداءً، لَمَّا نفَى الاستعجال لأنه من تدبير الخلق أيضًا والصدور عن رأيهم، وفي معناه: تنزيل الوحي على ما يشاء، لا على ما يشاء غيره لانفراده أيضًا في ملكه. وفي إبرازه ذلك، على ما يخالف آراء الخلق، أدل دليل على وحدانيته في ملكه، وإنما وضع كل شيء ودبره دلالة على وحدانيته وهدايته لخلقه إليه.
ثم شفع بخلق الإنسان فقال: خَلَقَ الْإِنْسانَ أي: جنسه مِنْ نُطْفَةٍ: من ماء مهين يخرج من مكان مهين، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ: مجادل، كثير الجدل والخصام، مبين لحجته، أو: خصيم: مكافح لخالقه، قائل:
(مَن يحيي العظامَ وهي رميم) . رُوي أنَّ أُبيّ بن خَلَف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بِعَظْمٍ رَمِيم، فقال: يا محمد، أترَى الله يُحيِي هذا بعد ما قد رمَّ؟ فقال:«نعم» . فنزلت. فعلى الأول: تكون الآية عامة لكل إنسان، وعلى الثاني: خاصة بالكافر. والأول أظهر.
ولمَّا ذكر نعمة الإيجاد ذكر نعمة الإمداد، فقال: وَالْأَنْعامَ وهي: الإبل والبقر والغنم، خَلَقَها: أوجدها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ ما يُدْفأُ به فيقي البرد، يعني: ما يتخذ من جلود الأنعام وأصوافها من الثياب، وَلكم
فيها أيضًا مَنافِعُ أُخر كنسلها وظهورها. وإنما عبَّر بالمنافع ليتناول عِوضها. وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي:
تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم والألبان. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ أي: زينة وبهجة حِينَ تُرِيحُونَ تردونها من مراعيها إلى مِرَاحِها بالعشي، وَحِينَ تَسْرَحُونَ تخرجونها إلى المرعى بالغداة فإن الأفنية والمشارعَ والطرق تتزين بها في الذهاب والرواح، ويجل أهلها في أعين الناظرين إليها. وقدَّم الإراحة لأن الجمال فيها أظهر لأنها تقبل ملأى البطون، حاملة الضروع، ثم تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها.
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ: أحمالكم عليها من الأمتعة وغيرها إِلى بَلَدٍ بعيد، لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ عليها، فضلاً عن أن تحملوها على ظهوركم، إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إلا بكلفة ومشقة فديحة، أو: إلا بذهاب شِقها، أي:
نصف قوتها من التعب. إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث رحمكم بخلقها وذللها للحمل، والركوب عليها، وأنعم عليكم بالأكل من لحومها وألبانها.
وَخلق لكم الْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها، وَتتزينوا بها زِينَةً، أو للركوب والزينة.
قال البيضاوي: وتغيير النظم- أي: حيث لم يقل: وللزينة- لأن الزينة بفعل الخالق، والركوب من فعل المخلوق- أي: باعتبار الحكمة-، ولأن المقصود خلقها للركوب، وأما التزين بها فحاصل بالعَرَضِ. وقرئ بغير واو، فيحتمل أن يكون علة لركوبها، أو مصدرًا في موضع الحال من الضمير، أي: متزينين، أو متزينًا بها. واستُدِلَّ به على حرمة لحومها، ولا دليل فيه إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يُقصد منه، غالبًا، ألا يقصد منه غيره أصلاً، ويدل عليه أن الآية مكية. وعامة المفسرين والمحدثين أن الحمر الأهلية حرمت عام خيبر. هـ. وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ مما لا يُحيط البشرُ بعلمها من عجائب المخلوقات، وضروب المصنوعات، مما يؤكل ومما لا يؤكل، وما خلق في الجنة والنار، مما لا يخطر على قلب بشر.
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي: وعلى الله بيان السبيل القصد، أي: الطريق الموصل إلى المقصود. أو: على الله تقويم طريق الهدى بنصب الأدلة وبعث الرسل، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: السبيل القصد، أي: القاصد المستقيم الموصل إلى المطلوب كأنه يقصد الوجه الذي يقصده السالك لا يميل عنه. والمراد من السبيل: الجنس، ولذلك أضاف إليه القصد، وقال: وَمِنْها جائِرٌ عن القصد، أو عن الله، كطريق اليهود والنصارى وغيرهم. والسبيل بمعنى الطريق، يُذكر ويؤنث، وأُنِّثَ هنا. وتغيير الأسلوب- أي: حيث لم يقل: قصد السبيل والجائر- لأنه ليس بحق على الله أن يبين طريق الضلالة، ولأن المقصود، بالأصالة، بيان سبيله، وتقسيمُ السبيل إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض. وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ أي: ولو شاء هدايتكم أجمعين لهداكم إلى قصد السبيل، هداية مستلزمة للاهتداء. قاله البيضاوي.