الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ردّ على مَن أنكر رسالة البشر، فقال:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 7 الى 10]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)
يقول الحق جل جلاله في جواب قول الكفرة: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ «1» بعد تقديم الجواب عن قولهم: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ لأنهم قالوه بطريق التعجيز، فلابد من المسارعة إلى رده، كما تقدم مرارًا في الكتاب العزيز، كقوله إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ.. «2» الآية، مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ الآية «3» . إلى غير ذلك، فقال جل جلاله: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ في الأمم السالفة إِلَّا رِجالًا بشرًا من جنس القوم الذين أُرسلوا إليهم لأن مقتضى الحكمة أن يُرسل البشر إلى البشر، والملَك إلى الملَك، حسبما نطق به قوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا «4» فإن عامّة البشر لا تطيق المفاوضة مع الملك لتوقفها على التناسب بين المفاوض والمستفيض فبعث لكل جنس ما يناسبه للحكمة التي يدور عليها فلك التكوين والتشريع، والذي تقتضيه الحكمة الإلهية أن يبعث الملك إلى خواص البشر المختصين بالنفوس الزكية، المؤيّدين بالقوة القدسية، المتعلقين بالعالم الروحاني والجسماني، ليتلَقوا من جانب العالم الروحاني، ويلقوا إلى العالم الجسماني، فبعث رجالاً من البشر يوحي إليهم على أيدي الملائكة أو بلا واسطة.
والمعنى: وما أرسلنا إلى الأمم، قبل إرسالك إلى أمتك، إلا رجالاً مخصوصين من أفراد الجنس، متأهلين للاصطفاء والإرسال، نُوحِي إِلَيْهِمْ، بواسطة الملك، ما يُوحي من الشرائع والأحكام، وغيرهما من القصص والأخبار، كما يُوحي إليك من غير فرق بينهما، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي: فاسألوا، أيها الجهلة، أهلَ العلم كأهل الكتب الواقفين على أحوال الرسل السالفة- عليهم الصلاة والسلام- لتزول شبهتكم إن كنتم لا علم لكم بذلك. أُمروا بذلك لأن إخبار الجم الغفير يُوجب العلم الضروري، لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين عداوته صلى الله عليه وسلم، ويشاورونهم في أمورهم، فإذا أخبروهم أن الرسل إنما كانوا بشرًا، ولم يكونوا ملائكة، حصل لهم العلم بالحق، وقامت الحجة عليهم.
(1) من الآية 3 من سورة الأنبياء. [.....]
(2)
من الآية 33 من سورة هود.
(3)
الآية 8 من سورة الحجر.
(4)
الآية 95 من سورة الإسراء.
وتوجيه الخطاب إلى الكفرة في السؤال، بعد توجيهه إلى الرسول- عليه الصلاة والسلام في الإرسال لأنه الحقيق بالخطاب في أمثال تلك العلوم والحقائق الأنيقة، وأما الوقوفُ عليها باستخبار من الغير فهو من وظائف العوام.
ثم بيَّن كون الرسل- عليهم الصلاة والسلام- أسوة لأفراد الجنس في أحكام البشرية، فقال: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً أي: أجسادًا، فالإفراد لإرادة الجنس، أو ذوي جسد، لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ أي: وما جعلناهم أجسادًا صمدانيين، أغنياء عن الطعام والشراب، بل مُحتاجين إلى ذلك لتحقيق العبودية التي اقتضت شرفهم. وَما كانُوا خالِدِينَ لأن كل مَن يفتقر إلى الغذاء لا بد يتحلل بدنه بسرعة، حسبما جرت العادة الإلهية، والمراد بالخلود: المكث المديد، كما هو شأن الملائكة أو الأبدية. وهم معتقدون أنهم كانوا يموتون. والمعنى: بل جعلناهم أجسادًا مفتقرة صائرة إلى الموت عند انقضاء آجالهم، لا ملائكة ولا أجسادًا صمدانية.
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ بالنصر وإهلاك أعدائهم، وهو عطف على ما يُفْهَمُ من وحيه تعالى إليهم، كأنه قيل:
أوحينا إليهم ما أوحينا، ثم صدقناهم في الوعد، الذي وعدناهم في تضاعيف الوحي، بإهلاك أعدائهم، فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ من المؤمنين وغيرهم، ممن تستدعي الحكمة إبقاءه، كمن سَيُؤمن هو أو بعض فروعه، وهو السر في حماية العرب من عذاب الاستئصال. أو يخص هذا العموم بغير نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم فإن أمته لا تستأصل، وإن بقي فيها من يكفر بالله لعل الله يُخرج من أصلابهم مَن يُوحد الله تعالى. وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ أي: المجاوزين الحد في الكفر والمعاصي.
ولمّا ذكر برهان حَقِّيَّةِ الرسول- عليه الصلاة والسلام ذكر حقية القرآن المنزل عليه، الذي ذكر في صدر السورة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته، فقال: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ، صدّره بالقسم إظهارًا لمزيد الاعتناء بمضمونه، وإيذانًا بكون المخاطبين في أقصى مراتب التنكير، أي: والله لقد أنزلنا إليكم، يا معشر قريش، كِتاباً عظيم الشأن نيّر البرهان. فالتنكير للتفخيم، أي: كتابًا جليل القدر فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي: شرفكم وحسن صيتكم، كقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «1» ، أو فيه تذكيركم وموعظتكم، أو ما تحتاجون إليه في أمر دينكم ودنياكم، أو ما تطلبون به حسن الذكر والثناء من مكارم الأخلاق، أَفَلا تَعْقِلُونَ فتتدبروا في معانيه حتى تُدركوا حقيته. فالهمزة للإنكار التوبيخي. وفيه حث لهم على التدبر في أمر الكتاب، والتأمل في تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر، التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة، والمعطوف: محذوف، أي: أَعَمِيَتْ بصائركم فلا تعقلون؟ والله تعالى أعلم.
(1) مِنْ الآية 44 من سورة الزخرف.