الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم وجّه العتاب إلى السامري، فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 95 الى 98]
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)
يقول الحق جل جلاله: قالَ موسى عليه السلام في توبيخ السامري: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ أي:
ما شأنك، وما مطلوبك فيما فعلتَ من فتنة القوم؟ خاطبه بذلك ليظهرَ للناس بطلانُ كيده باعترافه، وليفعل به وبما صنع من العقاب ما يكون نكالاً للمفتونين به، ولمن خلفهم من الأمم من بعده، قالَ السامري في جوابه:
بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أي: علمت مالم يعلمه القوم، وفطِنت لما لم يفطنوا به، أو رأيت مالم يروه، وهذا أنسب، وقد كان رأى جبريلَ عليه السلام، جاء راكبًا فرسًا، وكان كلما رفع الفرسُ يده أو رجله عن الطريق اليبس، اخضر ما تحت قدمه بالنبات، فعرف أن له شأنًا، فأخذ من موطئه شيئًا من التراب. وذلك قوله تعالى: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ أي: أثر فرس الرسول، وهو جبريل، الذي أرسل إليك ليذهب بك إلى الطور.
وقال في اللباب: كان السامري من المقربين لموسى عليه السلام، فرأى جبريلَ راكبًا على فرس، وقد دخل البحر فانفلق، فأخذ من أثره، ولم ير ذلك إلا من كان مع موسى. هـ. وقال قتادة: كان السامري عظيمًا في بني إسرائيل، من قبيلة يقال لها: سامرة، ولكن عدو الله نافق، بعد ما قطع البحرَ مع بني إسرائيل، فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة، وهم يعكُفُون على أصنام لهم، وكانوا يعبدون البقر، قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ «1» . فاغتنمها السامري فاتخذ العجل. هـ.
وقال الكواشي: وإنما عرف السامريُّ جبريلَ من بين سائر الناس لأن أمه ولدته في السنة التي يُقتل فيها الغلمان، فوضعته في كهف حذرًا عليه، فبعث الله تعالى جبريل ليربيه لِمَا قضى على يديه من الفتنة. هـ.
وضعّفه ابن عطية. قلت: ولعل تضعيفه من جهة النقل، وأما القدرة فهي صالحةَ ليقضي الله أمراً كان مفعولا.
(1) من الآية 138 من سورة الأعراف.
ثم قال: فأخذت تلك القبضة فَنَبَذْتُها في فم تلك الصورة المذابة من الحُليّ، فصارت تخور، وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي: زينت. والإشارة: نعت لمصدر محذوف، أي: سَوَّلَتْ لي نفسي تسويلاً كائنًا مثل ذلك التسويل البديع.
وحاصل جوابه: أن ما فعله إنما صدر منه بمحض اتباع هوى النفس الأمارة وإغوائها، لا لشيء آخر من البرهان العقلي أو الإلهام الإلهى، فعند ذلك قالَ له موسى عليه السلام: فَاذْهَبْ أي: اخرج من بين الناس، فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أي: في مدة حياتك، أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ والمعنى: أن لك في مدة حياتك أن تفارقهم مفارقة كلية، لا بحسب الاختيار، بل بحسب الاضطرار الملجئ إليه، وذلك أنه تعالى رماه بداء عقام «1» ، لا يكاد يَمَسُّهُ أحد، أو يمسُّ أحدًا، إلا حُمّ من ساعته حمى شديدة، فتحامَى الناسَ وتحاموه، وكان يَصيح بأقصى طوقه: لا مساس. وقيل: أن موسى عليه السلام نفاه من قومه، وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه. قال الحسن:(جعل الله عقوبة السامري ألا يمَاس الناسَ ولا يماسوه. جعل ذلك له ولمن كان منه إلى يوم القيامة) .
فكأن الله تعالى شدَّد عليه المحنة، وجعل ذلك عقوبة له في الدنيا. ويقال: ابتلي بالوسواس، وأصل الوسواس من ذلك الوقت. وقال قتادة: بقاياه اليوم يقولون ذلك: لا مساس. ويقال: إن موسى همّ بقتل السامري، فقال الله تعالى له: لا تقتله فإنه سخي. ولعل الحكمة في عقابه بهذه العقوبة: أن مخالطته للناس نشأت من هذه الفتنة، فعوقب بالطرد والبعد عنهم.
ثم قال له الله: وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً أي: في الآخرة، لَنْ تُخْلَفَهُ أي: لن يُخلفك الله ذلك الوعد، بل يُنجزه لك أَلبتةَ، بعد ما عاقبك في الدنيا. أو لن تجاوزه ولن تخطئه، بل لا بد لك من ملاقاته. وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ العجل، الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً مقيمًا على عبادته، لَنُحَرِّقَنَّهُ أي: والله لنحرقنه بالنار، وقيل بالمبْرد، مبالغةً في الحرق، ويعضده قراءة:«لَنُحَرِّقَنَّهُ» ، ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ أي: لنذرينه بالريح فِي الْيَمِّ في البحر، رمادًا، أو مبرودًا كأنه هباء، نَسْفاً بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر، وقد فعل عليه السلام ذلك كله حينئذ، كما يشهد بذلك الأمرُ بالنظر، وإنما لم يصرح به تنبيهًا على كمال ظهوره، واستحالة الخلف في وعده المؤكد باليمين.
ثم نبَّه على الحق فقال: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ أي: إنما معبودكم المستحق للعبادة هو الله. والجملة: استئنافية مسوقة لتحقيق الحق، إثر إبطال الباطل، بتلوين الخطاب وتوجيهه إلى الكل، ثم وصفه بقوله: الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وحده، من غير أن يشاركه في الألوهية شيء من الأشياء، وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي: وسع علمه كل ما من شأنه أن يعلُم. وجملة: (وَسِعَ) : بدل من الصلة، أي: إنما إلهكم: الذي وسع كل شيء علمًا لا غيره كائنا
(1) العقام: الداء الذي لا يبرأ منه.