الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصواب، ولهذا المعنى ختم الشيخ القطب ابن مشيش تصليته المشهورة بما دَعَوْا به، حين أووا إلى كهف الإيواء تَشَبُّهًا بهم في مطلق الانقطاع والفرار من مواطن الحس. ولذلك لَمَّا تشبهوا بهم حفظهم الله- أي: الصوفية- ممن رام أذاهم، وغيّبهم عن حس أنفسهم، وأشهدهم عجائب لطفه وقدرته، ومن تمام التشبه بهم: أنك قلَّ أن تجد فرقة تُسافر منهم إلا ويتبعهم كلب يكون معهم، حتى شهدتُ ذلك في جُل أسفارنا مع الفقراء تحقيقًا لكمال التشبيه. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر بعثهم من نومهم، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 19 الى 20]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)
يقول الحق جل جلاله: وَكَذلِكَ أي: وكما أنمناهم وحفظنا أجسادهم من البلاء والتحلل، وكان ذلك آية دالة على كمال قدرتنا، بَعَثْناهُمْ من النوم لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ أي: ليسأل بعضُهم بعضًا، فيترتب عليه ما فصّل من الحِكَم البالغة، أو: ليتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، فيزدادوا يقينًا على كمال قدرة الله، ويستبصروا أمر البعث، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم.
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ هو رئيسهم، واسمه:«مكْسلَيمنيا» : كَمْ لَبِثْتُمْ في منامكم؟ لعله قال ذلك لِمَا رأى من مخالفة حالهم، لِمَا هو المعتاد في الجملة، قالُوا أي: بعضهم: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قيل: إنما قالوا ذلك لأنهم دخلوا الكهف غُدوة، وكان انتباههم آخر النهار، فقالوا: لَبِثْنا يَوْماً، فلما رأوا أن الشمس لم تغرب بعدُ قالوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، وكان ذلك إخبارًا عن ظنِّ غالب، فلم يُعْزَوْا إلى الكذب.
قالُوا أي: بعضٌ آخر منهم، بما سنح له من الأدلة، ولِمَا رأى من طول أظافرهم وشعورهم: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ أي: أنتم لا تعلمون مدة لبثكم، وإنما يعلمها الله- سبحانه-، وهذا رد منهم على الأولين بأجمل ما يكون من حسن الأدب، فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ «1» هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، أعرضوا عن البحث عن المدة، وأقبلوا على
(1) قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر: بورقكم- ساكنة الراء- والباقون بكسرها. راجع الإتحاف 2/ 212.
ما يهم في الوقت، والورق: الفضة، مضروبة أو غير مضروبة، ووصْفُها باسم الإشارة يقتضي أنها كانت معينة ليشتري بها قوت ذلك اليوم، وحملها دليل على أن التزود لا ينافي التوكل، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يتزود لغار حراء ليتعبد فيه. ثم قالوا: فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أي: أيُّ أهلها أَزْكى طَعاماً أي: أحل وأطيب، أو أكثر وأرخص، فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أي: من ذلك الأزكى طعامًا، وَلْيَتَلَطَّفْ: وليتكلف اللطفَ في دخول المدينة وشراء الطعام، لئلا يُعرف، وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ولا يخبر بكم ولا بمكانكم أحدًا من أهل المدينة، أو: لا يفعل ما يؤدي إلى ذلك.
ثم علل النهي بقوله: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ: يطلعوا عليكم، أو يظفروا بكم، والضمير: للأهل المقدر في «أيها» أي: إنَّ أهل المدينة إن يظفروا بكم يَرْجُمُوكُمْ إن ثبتم على ما أنتم عليه، أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أي: يصيروكم إليها ويدخلوكم فيها كرهًا، كقوله تعالى: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا «1» ، وقيل: كانوا على ملتهم ثم خالفوهم للحق. وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً إن دخلتم فيها، ولو بالكره والجبر، أَبَداً، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وفيه من التشديد والتحذير ما لا يخفى.
الإشارة: وكذلك بعثنا مَنْ توجه إلينا من نوم الغفلة والجهالة ليتساءلوا بينهم ليتعرفوا ما أنعم الله به عليهم من اليقظة والنجاة من البطالة، فإذا انتبهوا من نوم الغفلة، استصغروا أيام البطالة لأن أيام الغفلة قليلة أمدادها، وإن كثرت آمادها، وفي الحِكَم:«رُبّ عمر اتسعت آماده، وقَلَّْتْ أمداده» ، بخلاف زمان اليقظة، فإنه كثيرة أمداده، وإن قلّتْ آماده، فهو طويل معنىً، وإن قلَّ حسًا، ولذلك قال في الحِكَم أيضًا:«ورُبّ عمر قليلةٌ آماده، كثيرةٌ أمداده» . وقال أيضاً: «مَن بورك له في عمره: أدرك في يسيرٍ من الزمان مِنْ مِنَن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة» .
فإن توقفوا على قوت أشباحهم التمسوا أطيبه وأزكاه وأحله، فإنَّ أكل الحلال يُنور القلوب وينشط الأعضاء للطاعة، وتلطفوا في أخذه من غير مزاحمة ولا حرص ولا تعب، فإنْ أطلعهم الله على سره المكنون من أسرار ذاته بالغوا في إخفائه، حتى لا يُشْعروا به أحدًا من خلقه، غير من هو أهلٌ له لأنهم، إن أظهروه لغيرهم، رجموهم أو أعادوهم إلى ملتهم، بأن يقهروهم إلى الرجوع عن طريق القوم، ولن يفلحوا إذًا أبدًا. وبالله التوفيق.
(1) من الآية 13 من سورة إبراهيم.