الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ذكر ما بقي من مشاهير الأنبياء، فقال:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 الى 86]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
يقول الحق جل جلاله: وَاذكر إِسْماعِيلَ بن إبراهيم، وكان أكبر من إسحاق، وَإِدْرِيسَ واسمه: أخنوخ بن شيث بن آدم. قاله النسفي وَذَا الْكِفْلِ وهو إلياس، أو زكريا، أو يوشع بن نون، قلت: كونه زكريا بعيد لأنه سيذكره بخصُوصه بعدُ. وسُمي ذا الكفل لأنه ذو حظ من الله، والكفل: الحظ. أو تكفل بضعف عمل أنبياء زمانه، أو بصيام النهار وقيام الليل. وقال أبو موسى الأشعري: إنَّ ذا الكفل لم يكن نبيًا، ولكنه كان عبدًا صالحًا، تكفل بعمل رجل صالح عند موته، وكان يُصلي لله تعالى، في كل يوم، مائة صلاة، فأحسن الله عليه الثناء. هـ. وقال عمر بن عبد الله بن الحارث: إن نبيًا من الأنبياء قال: من تكفل لي أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب؟ فقال شاب: أنا، فمات ذلك النبي، فجلس ذلك الشاب يقضي بين الناس، فجاءه الشيطان في صورة إنسان ليُغضبه وهو صائم، فضرب الباب ضربًا شديدًا، فقال: مَن هذا؟ فقال: رجل له حاجة، فأرسل له رجلاً، فلم يرض، ثم أرسل معه آخر، فلم يرض، فخرج إليه فأخذ بيده فانطلق معه إلى السوق، ثم خلاه وذهبَ، فسُمي ذا الكفل. هـ.
كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ أي: كل واحد من هؤلاء موصوف بالصبر التام على مشاق التكليف وشدائد النوب، وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا في النبوة، أو في الآخرة، إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي: الكاملين في الصلاح الذي لا تحوم حوله شائبة الفساد، وهم الأنبياء، فإن صلاحهم معصوم من كدر الفساد. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد مدح الله هؤلاء السادات بخصلتين، من تحقق بهما: التحق بهم، وانخرط في سلكهم: الصبر على مشاق الطاعة، وعلى ترك المعصية، وفي حال البلية. والصلاح، وهو: إصلاح الظاهر بالشريعة، وإصلاح الباطن بنور الحقيقة. فمن تحقق بهاتين الخصلتين كان من المقربين مع النبيين والصدِّيقين. وبالله التوفيق.
ثم ذكر يونس عليه السلام، فقال:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 87 الى 88]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
يقول الحق جل جلاله: وَاذكر ذَا النُّونِ أي: صاحب الحوت، وهو يونس عليه السلام، إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً أي: مراغمًا لقومه، فارًا عنهم، وغضب من طول دعوته إياهم، وشدة شكيمتهم، وتمادي إصرارهم، فخرج مهاجرًا عنهم، قبل أن يُؤمر، وقيل: وعدهم بالعذاب فلم يأتهم لميعادهم لأجل توبتهم، ولم يشعر بها، فظن أنه كذبهم، فغضب من ذلك، فهو من باب المغالبة للمبالغة أو لأنه غضب لما رأى منهم من الإصرار، وغضبوا لمفارقته إياهم، وكان من حقه عليه السلام أن يصبر وينتظر الإذن الخاص من الله تعالى، فلما استعجل ابتلي ببطن الحوت، وقال ابن عباس: قال جبريلُ ليونس عليه السلام: انطلق إلى أهل نِينَوى فأنذرهم أن العذاب قد حضرهم، قال:
ألتمس دابة، قال: الأمر أعجل من ذلك، فانطلق إلى السفينة فركبها، فاحتبست السفينة فساهموا فسهم، فجاءه الحوت يبصبص بذنبه، فنودي الحوت: إنا لم نجعل يونس لك رزقًا، إنما جعلناه لك حِرزًا، فالتقمه، ومرّ به على الأبُلة، ثم على دجلة، ثم مَرَّ به حتى ألقاه بنينَوَى. هـ.
وقال وَهْبُ بن منبه رضى الله عنه: إنَّ يونس كان عبدًا صالحًا ضَيِّق الخلق، «2» فلما حمل أثقال النبوة تفسخ منها تفسُّخَ الرّبَع «1» تحت الحمل الثقيل، فقذفها وخرج هاربًا عنها، ولذلك أخرجه الله من أولي العزم، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «3» وقال: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ «4» أي: لا تلق أمري كما ألقاه. هـ. وأما قول الحسن: مغاضبًا لربه، فلا يليق بمقام الأنبياء- عليهم السلام إلا أن يُحمل على أن خروجه بلا إذن كأنه مغاضب. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي: لن نضيق عليه، أو لن نقدر عليه بالعقوبة، فهو من القدر، ويؤيده قراءة من شدَّد، وعن ابن عباس رضى الله عنه قال: دخلت يومًا على معاوية، فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة، فغرقت فيها، فلا أرى لنفسي خلاصًا إلا بك، قال: وما هي؟ فقرأ الآية
…
فقال: أو يظن نبي الله ألا يقدر عليه؟ قال: هذا من القدر لا من القدرة. هـ.
وقيل: إنه على حذف الاستفهام. أي: أيظن أن لن نقدر عليه، وقيل: هو تمثيل لحاله بحال من ظن أن لَّن يَقْدِر عليه، أي: تعامل معاملة من ظن أن لن نقدر عليه حيث استعجل الفرار. قلت: لإعلاء مقامه كثرت مطالبته بالأدب، فحين خرج من غير إذن خاص عُدَّ خروجه كأنه ظن ألا تنفذ فيه القدرة، وتمسك عليه السلام بالإذن العام، وهو الهجرة من دار الكفر، وهو لا يكفي في حق أمثاله، فعوقب بالسجن فى بطن الحوت.
(1) الربع: ولد الناقة أول ما يحمل عليه.
(2)
هذا لا يصح أن يوصف به سيدنا يونس، الذي قال فيه سيدنا محمد:«لا ينبغي لأحدٍ أن يقول أنا خير من يونس بن متى» .
(3)
من الآية 35 من سورة الأحقاف.
(4)
من الآية 48 من سورة القلم. وانظر تفسير الطبري (17/ 77) ، والبغوي (5/ 350) . [.....]
فَنادى فِي الظُّلُماتِ أي: في الظلمة الشديدة المتكاثفة كقوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ
…
«1» ،
أو في ظلمة بطن الحوت والبحر والليل: أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أي: بأنه لآَّ إِلَهَ إِلآَّ أَنتَ، أو تفسيرية، أي: قال لا إله إلا أنت، سُبْحانَكَ أي: أنزهك تنزيهًا لائقًا بك من أن يعجزك شيء، أو: تنزيهًا لك عما ظننتُ فيك، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ لنفسي بخروجي عن قومي قبل أن تأذن لي، أو من الظالمين لأنفسهم بتعريضها للهلكة، وعن الحسن: ما نجاه، والله، إلا إقراره على نفسه بالظلم.
فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي: أجبنا دعاءه الذي دعا في ضمن الاعتراف بالذنب على ألطف وجه وأحسنه. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَكْرُوبٍ يَدْعُو بِهَذا الدُّعَاءِ إلاّ اسْتُجِيبَ لَهُ» «2» . وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ: الذلة والوحشة والوحدة، وذلك بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات، وقيل: بعد ثلاثة أيام، وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ أي: مثل ذلك الإنجاء الكامل نُنجي المؤمنين من غمومهم، إذا دعوا الله، مخلصين فى دعائهم. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«اسم الله الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى: دعوة يونس بن متى، قيل: يا رسول الله، أليونس خاصة؟
قال: بل هي عامة لكل مؤمن، ألم تسمع قول الله تعالى: وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ» . وهنا قراءات في نُنْجِي، مذكورة في كتب القراءات، تركتها لطول الكلام فيها.
الإشارة: من تحققت له سابقة العناية لا تُبعده الجناية، ولا تُخرجه عن دائرة الولاية، بل يؤدب في الدنيا بالابتلاء في بدنه أو ماله، على قدر الجناية وعلو المقام، ثم يُرد إلى مقامه. وهاهنا حكايات للصوفية- رضى الله عنهم- من هذا النوع، مِنْهَا: حكاية خير النساج رضى الله عنه، قيل له: أكان النسج صنعتك؟ قال: لا، ولكن كنتُ عاهدت الله واعتقدت ألا آكل الرطب، فغلبتني نفسي واشتريت رطلاً منه، فجلستُ لآكله، فإذا رجل وقف عليّ، وخنقني، وقال: يا عبد السوء، أتهرب من مولاك- وكان له عبد اسمه:«خير» أَبَقَ مِنْه، أَلقى الله شبهه عليَّ- فحملني إلى حانوته، وقال: اعمل عملك، أمرني بعمل الكرباس- وهو القطن- فدليت رجلي لأنسجه، فكأني كنت أعمله سنين، فبقيت معه أشهرًا، فقمتُ ليلة إلى صلاة الغداة، وقلت: إلهي لا أعود، فأصبحت، فإذا الشبه قد زال عني، وعُدتُ إلى صورتي التي كُنتُ عليها، فأُطلقت، فثبت عليّ هذا الاسم، فكان سببُه اتباع شهوتي.
ومنها قضية أبي الخير العسقلاني رضى الله عنه قال: اشتهيتُ السمك سنين، ثم ظهر له من وجه حلال، فلما مد يده ليأكل، أخذت شوكة من عظامه إصبعَه، فذهبت في ذلك، فقال: إلهي هذا لمن مد يده لشهوة من حلال، فكيف
(1) من الآية 17 من سورة البقرة.
(2)
أخرجه الترمذي فى (الداعوة باب 82) ، وأبو يعلى (2/ 65) ، والحاكم فى المستدرك (1/ 505) ، وصححه ووافقه الذهبي، من حديث سعد بن أبي وقاص. وأخرجه أحمد فى قصة (1/ 170) .